ليست هذه هي المرة الأولى التي تحاول فيها الإدارة الأمريكية القيام بانقلاب على النظام التقدمي في فنزويلا وخاصة منذ الانتصار التاريخي للرئيس الراحل " اوغوا شافيز" في انتخابات كانون أول عام 1998، فقد فشل انقلاب 11 نيسان عام 2002 الذي أطاح بالرئيس "شافيز" لمدة 48 ساعة (أقصر انقلاب عسكري في التاريخ) حيث خرجت الجماهير الفنزويلية بمئات الآلاف إلى الشوارع ملتحمة مع القيادة الثورية والوطنية للجيش والقوات المسلحة بكامل مكوناتها التي طالبت بإعادة الرئيس إلى القصر الجمهوري وإلى سدة الحكم، استخلص منها الشعب الفنزويلي وقيادته السياسية دروساً بالغة الأهمية.
تلك المحاولة الفاشلة، سمحت للرئيس الراحل "شافيز" أن يعيد حساباته في أسلوب وأداة وطريقة الحكم من جهة والفكر والأيديولوجيا التي تشير إلى طريق وخريطة المستقبل من جهة أخرى. وأهم درس تم استخلاصه، كما هو نفسه أكد ذلك: أن أية مفاوضات أو مساومات مع اليمين، لا تخدم قوى الثورة، بل تصب لصالح هذا اليمين تماماً، وأن الامبريالية لا تبحث عن شركاء ولا تقبل بعلاقات ندية بل هي تريد خدم وعبيد وعملاء يخدمون مصالحها الاقتصادية والأمنية ولا يعترضون على نهبها للثروات الوطنية.
رحل "شافيز" عن هذا العالم مبكراً، قبل أن يتمكن من إجراء التغيّر الضروري في البنية الاجتماعية والاقتصادية للنظام الرأسمالي المتخلف ذات الطبيعة الريعية لبلاده، كما هو سائد في كافة الدول النفطية، هذا المجتمع ورثه من ما سُمي الجمهورية الرابعة التي حكمت البلاد منذ سقوط الديكتاتور "بيرس هيمينس" عام 1958 حتى نهاية العام 1998 في الفترة التي اشتد فيها مرض الرئيس "شافيز"، ومن ثم رحيله في 5 آذار 2013 حتي انتخاب خلف له في 14 نيسان عام 2013، استطاع التسلل، شريحة من الكومبرادور والوصوليين والانتهازيين إلى المؤسسات الإدارية والمالية الحكومية والاجتماعية المدنية، مما هيأ الأرضية إلى مزيد من الفساد، وإلى ضعف المناعة في مواجهة الحرب الاقتصادية والحصار المالي المفروضين على البلاد من الإمبريالية وخاصة الأمريكية التي تتعامل مع القاره اللاتينية وأمريكا الوسطى كحديقة خلفيه لها، وتعتبرها مجالها الحيوي وخط الدفاع الأول عن هيمنتها وسيطرتها العالمية، وهذه ليست افتراضيه بل استراتيجية أكدها "هنري كيسنجر" بعد أن تم تدبير الانقلاب الدموي على الرئيس التشيلي المنتخب "سلفادور الليندي"، حيث قال " إن سيطرة الولايات المتحدة على أمريكا الجنوبية والكاريبي هو شرط كي تفرض الولايات المتحدة سيطرتها وقيادتها للعالم".
أما الرئيس السابق "أوباما" فقد أكد في مقابلة له أثناء حملته الانتخابية لولاية ثانية" أن "جورج بوش" عندما ذهب إلى الحرب على أفغانستان و العراق ترك فراغاً في أمريكا اللاتينية ملأه "شافيز" والثورة البوليفارية، وعلينا أن نستعيد نفوذنا ونخرج "شافيز" منها .
منذ ذلك الحين حتى الآن تم كبح جماح يسار الاشتراكيين الديموقراطيين وإخراجهم من السلطة في كل من هندوراس والباراغواي والأرجنتين والبرازيل والأكوادور أي تم عملياً تجفيف المحيط الحيوي لفنزويلا " والثورة " البوليفارية الذي كان يمدها بالقوة المادية والمعنوية.
أما الاسباب التي أدت إلى التراجع الحاد لنفوذ اليسار وخروجه من الحكم، في الدول التي ذكرت، تعود في معظمها إلى اعتقاده، أي اليسار، بأنه قادر على الحكم من خلال نفس الجهاز الحكومي القديم البيروقراطي الفاسد " بتلبيسه " ثوب فكري جديد " أحمر قاني " اشتراكي. هذا النمط، الذي منبعه الفكري الاشتراكية الديموقراطية (البرجوازية) ورًط الأحزاب " الاشتراكية أو العمالية " التي وصلت إلى الحكم في فساد متوحش ظاهر للعيان، ظهرت معه الحكومات اليمينية الرجعية الفاسدة التابعة التي حل محلها وكأنها "نموذجاً" يحتذى ويجب العودة إليه للخلاص من وطأة الفساد " الأحمر والاشتراكي لليسار.
إن عدم القيام بالبناء الاشتراكي على أساس الاشتراكية العلمية والتي تفترض تدمير الجهاز القديم للدولة البرجوازية وتطوير أدوات الإنتاج وتحديثها والتوظيف الكامل لقوى الإنتاج الزراعية والصناعية، ونقل ملكيتها التدريجية لملكية المجتمع المنظم الواعي، وليس للدولة، يؤدي في النتيجة إلى الفشل بغض النظر إذا كانت " الاشتراكية" مسيحيه أم إسلامية، أوروبية أم آسياوية صينية أو روسية. . .هكذا من ينتهك قوانين هذا البناء يطارد من ذات القوانين التي ينتهكها.
في الحالة الفنزويلية الوضع يبدو أكثر تعقيداً " وإسقاط النظام " ليس سهلاً بل أصبح سبباً لصداع أصحاب الاحتكارات والكارتيلات في الولايات المتحدة وأوروبا. فرغم الظروف الصعبة اقتصادياً، حيث لم تعد هنالك مقاييس منظورة لقياس التضخم المالي وتضخم الأسعار، والمحاولات المحمومة لمراكز النفوذ والقوة الاقتصادية، الخاصة بشكل أساسي، لتحويل الدولار من نقد وسيط في عمليات التبادل التجاري الخارجية إلى سلعة أي إلى "بضاعة" داخلية تدر الأرباح الهائلة على من يمتلكها، رغم هذه الظواهر ما تزال هنالك " قدرة شرائية" سحرية للمواطن تمنع من الوقوع في المجاعة بمعناها الحقيقي، صحيح هنالك صعوبات ولكن لا توجد مجاعة" وكوارث إنسانية". ومن الأسباب المهدئة هو البرامج الاجتماعية التي تنفذها الدولة ومجانية التعليم والأسعار المنخفضة جداً للبنزين والمازوت والكهرباء والماء بل أن الأغلبية العظمى من الأحياء الشعبية في كافة أنحاء البلاد معفاة من تكاليف هذه الخدمات بما فيها المتوفر من الخدمات الصحية.
الأهم من ذلك التفاف كافة الأحزاب والحركات السياسية والاجتماعية الثورية، رغم اختلافها مع الحزب الاشتراكي الحاكم برنامجياً، على الحكومة التقدمية ودعمها في الدفاع عن المصالح القومية والثروة الوطنية والسيادة والاستقلال اللذين يعتبران خط أحمر ل 86 % من الشعب الفنزويلي حسب آخر استطلاع للرأي بعد تفجر الأزمة في 23 / يناير الحالي.
إن إقدام رئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) المعارض، "هوان وايذوا"، على الاستجابة للطلب الأمريكي بإعلان نفسه " رئيساً مؤقتاً" للبلاد، مخالفاً بذلك الدستور، ومعتمداً بالأساس على الدعم الامبريالي الامريكي الأوروبي، يقوم بقفزه في المجهول ويقدم على مقامره يمكن لها إذا ما فشلت، حيث حقيقة توجد مقومات فشلها وبالأساس داخلياً، أن تطيح بما تبقى للمعارضة من " صرح " أي الجمعية الوطنية.
لو حسبنا ميزان القوى المحلي لوجدناه مائلاً بشكل كبير جداً لصالح الشرعية ـ 19 محافظ من أصل 23 لصالح الشرعية، وأيضاً أكثر من 80 % من المجالس البلدية، الجيش بكل قطاعاته وكافة المؤسسات القضائية والحقوقية والانتخابية بالإضافة إلى الجمعية الوطنية الدستورية والحكومة! مقابل فقط أغلبيه نسبيه للمعارضة في الجمعية الوطنية .
أما على الصعيد الخارجي أي الدولي، فقد اتضح من خلال جلسة مجلس الأمن التي دعت لها الولايات المتحدة، والتي فشلت في أن تنتزع اعتراف " بالرئيس " الذي تحاول أن تفرضه إدارتها، وفشل رئيس الجمعية الوطنية " هوان ويذوا " في أن تُعًين منظمة الدول الأمريكية سفيراً له بدل سفير" ماذوروا "، إن حظوظه في الخارج ليس بأفضل من حظوظه في الداخل.
إن عرقلة المشاريع الأمريكية في " السرق الاوسط " ، وخاصة في سوريا العربية، إن لم نقل هزيمتها، يجعلها ترتد من جديد نحو " حديقتها الخلفية" المزعومة في محاولة منها لتعيد جبروتها وهيبتها التي ثلمت في أكثر من مكان، وهذه المرة، على ما يبدو، إن يأس إدارة "ترامب" من إمكانية التغيير السريع يقودها إلى أخطاء في التقدير لا تحمد عليه، وستعاني من عواقبها في كل أركان القارة، حيث ستصبح العبارة الشهيرة لـ"فيديل كاسترو" عندما جاء فنزويلا لحضور مراسيم قسم اليمين للقائد الراحل "اوغوا شافيز" في يناير عام 1999 حيث خاطب "فيديل" الجمهور قائلا ً: "حتى اليوم، حتى هذه اللحظة، كان مصير القارة والقوى الثورية فيها يعتمد على كوبا والثورة الكوبية، ولكن من الآن ومن هذه اللحظة أصبح مصير القارة والقوى الثورية فيها، بما فيها كوبا والثورة الكوبية، يعتمد على فنزويلا انتصار الثورة البوليفارية" .
إنه صراع على مستقبل القارة والعالم لتساهم كل القوى الثورية والتقدمية في تحقيق النصر لفنزويلا وشعبها، ولا خيار إلا خيار ربح المعركة مهما كلف الثمن.