Menu

حسين البدري في "الحالة السرية للسيد ناصر الدين الجيلاني": مبشر الثورة ونذيرها

أحمد مصطفى جابر

حسين البدري

عن دار أوراق للنشر والتوزيع، صدرت المجموعة القصصية الجديدة للروائي المصري حسين البدري، تحت عنوان: "الحالة السرية للسيد ناصر الدين الجيلاني".

وتأتي هذه المجموعة، بعد رواياته الطليعية "حزن البلاد" و "رهانات خاسرة"، ومجموعة نصوص شعرية "صلوات سبع إلى روح صديقي الميت".

في هذه المجموعة يواصل الكاتب الشاب، نهجه الثائر في الشكل الكتابي والموضوع، مراجعًا وناقبًا في جوهر أزمة الثورة في مصر، ووضع المجتمع، وظروف الناس العاديين، والاستثنائيين أيضًا.

قسّم حسين البدري مجموعته إلى قسمين، يحوي كل منهما تسعًا من القصص الطويلة والقصيرة متصلة الموضوع.

في القسم الأول تحت عنوان: "أجنحة الكآبة"، نقرأ قصص: "سمك الجنة" و "الحالة السرية للسيد ناصر الدين الجيلاني"، التي اختار أنْ يكون اسمها عنوانًا للكتاب، و"امرأة في بئر الشمس"، و"ربيب المقاهي" و"ضريح النصراني" و"حكاية قصيرة عن روائي شاب"، و"المتقريف" و"الحل الودي للنزاع"، وأخيرًا "أشباح في ليل طويل".

حمل القسم الثاني، عنوان "مارش عسكري لذئاب المدينة"، وفيه قصص: "موسيقى الوحدة"، و"جنات الدكتاتور"، و"أحلام عصفور"، و"باقة ورد" و"عائلة سكس"، وأيضًا "ثعالب تتقافز في مرح"، و"ترحيلة" و"نشيد النصر"، و"رجل مسالم".

تعالج المجموعة القصصية التي بين أيدينا، سنوات القهر الأخيرة في حياة المصريين، منذ يوم 25 يناير، يوم الثورة، وحين قرر الشعب أنَّه "يريد إسقاط النظام".

يكشف التاريخ، وهو ما تعكسه القصص أنّ مياهًا كثيرة جرت في النيل منذ تلك الأيام المجيدة التي تستحق بالفعل أنْ تروى ويؤرخ لها، ويكتب لها نشيد نصر خاص، ولكن الخيبات أيضًا كان لها للأسف قَصَبَ السَّبق، وفي هذه النصوص المتعبة والموجعة في آن معًا، فإنَّ حسين البدري، ليس كمراقب خارجي، بل كمنخرط فعّال في أحداث هذا التاريخ، يستعيد مكونات وعناصر الهزيمة، هزيمة الثورة ووأد الأحلام، ويكاد لا يترك أملًا لولا بعض الثقوب التي تتسرب هنا وهناك، وهي وإنْ كانت تعبيرًا عن مساعٍ للخلاص الفردي إلا أنَّ البدري يضعها على طاولة النقد، مبينًا أزمة الحل الفردي وعدم جدواه ليبقى مبشرًا بالمصير الجماعي وعظمة الشعب.

أجنحة الكآبة..

الإنسان ابن بيئته.. لكن بإمكانه التمرد

تدور قصص هذا القسم على محور شقاء الإنسان وفساده، والبيئة التي ينشأ عليها هذا الفساد، ليشكل القارئ تعاطفًا مع الشخصيات أحيانًا، رغم ما حملته من مثالب وسلبيات، حيث يضعها الكاتب في سياق بيئتها الطبيعية، ليقول لنا أنَّ الإنسان هو ابن بيئته التي تكون مخادعة أو مساندة، وبالتالي يضعنا الكاتب أمام مأزق مواجهة ثنائية الأبيض والأسود، حيث لا يوجد شيء كهذا في العالم الواقعي.

في القصة الطويلة  الأولى، "سمك الجنة"، يأخذنا الكاتب إلى عالم الصيادين، يمخرون عباب النيل بقواربهم المتهالكة، حيث هنا عالم متكامل مستقل، وكأنَّ مغادرته إلى عالم البر، تسبب نوعًا من خدش الحياء، أو سبر طرق مجهولة، لا يألفها المتعايش مع الشباك والموج والسمك.

يكشف لنا سياق حياة "السنوسي" المضطربة، أنَّه حتّى عامة الناس يستطيعون طرح أسئلة وجودية، وإنَّ هذا ليس حكرًا على النخب في أبراجها العاجية، ولعلّ هذه القدرة تتضح في الحديث الختامي بين "السنوسي" و"إبراهيم" بعدما تزوج الأول من امرأة دلّه عليها أصلًا صديقه الأزهري العابد حافظ القرآن: "أني اتجوزت سعاد.. كتبت عليها عشية، وسكنتها في شقة مفروشة في أبو سمبل، لحد ما أشوف ح قعدها هنه ولا في البلد" قال، بعد دقيقة من الصمت واصل: "سكت يعني.. عارفك ع تفكر في إيه دلوك.. بس أبواب التوبة فتحها الرب ميقفلهاش العبد.. ولا إيه يا بتاع الأزهر؟". حاول إبراهيم رسم ابتسامة على وجهه، قال: "طالما إنت شايف كديه.. يبقى اللي زي ميقدرش يقول غير ألف مبروك"، تعانَقَا.

في القصة الرئيسية التي يحمل الكتاب اسمها "الحالة السرية للسيد ناصر الدين جيلاني"، يضعنا الكاتب أمام زيف الواقع الذي نعيشه مغطين بكميات هائلة من المساحيق.

الفساد الذي يتلون بألف لون ولون، فهو زعيم ثوري، ومثقف كبير، وفنان، ولكن عندما تتشابك خيوطه تتحول إلى مشنقة، وقد يكون الحكم غير عادل، ولكن الكاتب لا يترك لنا فرصة للادعاء أنَّ المحكمة بحد ذاتها لم تكن عادلة، وكأنَّ للسيدة التي تحمل السيف والميزان لها طرقها وأساليبها الخاصة لتنفيذ عدالتها.

تدور قصة "امرأة في "بئر الشمس"" حول أساليب سيدة العدالة أيضًا، وطرقها الملتوية، ولعلّ تمسك الكاتب بهذا الخط وإصراره عليه؛ مرده السيرة الذاتية نفسها التي هي ذاتها سيرة ثورة يناير المهدورة، ولعلّ هدر هذه الثورة وتهاوي قيمها تحت آلة البطش والاعتداد والثورة المضادة يدفع أبطالها الواقعيين الرازحين تحت ثقل الهزيمة تلك للبحث عن انتصار ولو عن طريق الإخفاق، عن طريق عدالة مزيفة يحصل عليها بطل هذه القصة "الناجي" كأنَّه اسمٌ على مسمى، وعقاب غير مستساغ ربما، ولكنه أيضًا ينتمي لمحكمة عادلة لـ "السمحة" و"أبو صالح"، بينما يظل ملك الفساد "الضابط شريف" متربعًا على عرشه كلاعب شطرنج يشهد تهاوي الأحجار جميعها.

"ربيب المقاهي"، هي سيرة ذاتية للإنسان المهزوم في زمن إرهاص الثورة وهزيمتها، ولعلّ القارئ سيجد فيما بعد أنَّ الكاتب ربما راوغ المصير في النهاية التي اختارها، وربما أراد الكاتب إخراج القارئ من شحنة اليأس الكبيرة التي ألقمه إياها في ثنيات القصة، ولكننا نبحث عن نهاية منطقية، لا تخترع بطلًا من ورق، ولا مبرر له للاستمرار، ولكن مرة أخرى، يبدو أنَّ الكاتب أراد تحميل بطل تلك القصة روحه الخاصة وحلمه بالتحدي الثوري، وربما هنا المطب الذي وقعت به القصة.

بالانتقال إلى القصة الطويلة "ضريح النصراني"، يطرح الكاتب محاولة الإنسان لمواجهة جذوره والتمرد عليها، واستسلامه لها، عندما يتخذ هذا التمرد مسارًا ابتعاديًا عن الواقع نفسه، هل مأساة "ربيع" بطل القصة مرتبطة بسعيه للتمرد أم بأنَّ تمرده كان هروبًا في الأصل من واقعه وبيئته الأصلية التي فرّ منها ثم عاد إليها لتقتله؟

لا شكَّ أنَّ قصة "المتقريف" ستأخذ القارئ إلى حكاية كلب الست الشهيرة التي رواها أحمد إمام نجم في قصيدة شهيرة مغناة، ولكن كاتبنا هنا يصوغ القصة في حبكة فنية سردية آسرة، ليكون البطل هو الرجل "الغلبان"، ولتتركز القصة على حكايته بالذات و"بسالته" التي اتخذت طريقًا غريبًا، فلم يستطع الحفاظ على شنبه وأظهر شجاعته على "كلب".

مارش عسكري لذئاب المدينة:

ذلك عنوان القسم الثاني من المجموعة القصصية، والذي يفترض الكاتب أنَّ القارئ سيقرؤه في سياق معرفي وشعوري مختلف عن القسم الأول، فبينما يغوص أبطال القصص الأولى في وحول المجتمع وفساده، فيتكسبون بطولتهم من الهامش والانسحاب والهزيمة، فإنَّ طموحات كبرى يستلهمها أبطال هذا الجزء في قصصه المختلفة، لنلحظ هنا انتقال مفاهيم القمع والفساد والسلطة من مستوياتها الاجتماعية كما في القصص الأولى إلى مستوى سياسي أو يقاربه، فيصبح القامع والمقموع والمدني والعسكري والمخبر، قابلين للتمييز في حيز اجتماعي يبدو مألوفًا لكل قارئ. حيث يتحول الأبطال إلى عزلتهم، رافضين الانخراط في واقع مهزوم دون أنْ يقرروا تمامًا الانفكاك عنه.

إنَّ جميع قصص المجموعة تدور في هذا الإطار، وتبدو "أحلام عصفور" كأنموذج جامع لها.

في "أحلام عصفور"، يعقد الكاتب محاكمة للسلطة القامعة المتوحشة التي تنتزع أصغر الأحلام وحتّى أكثرها هشاشة.

عصفور كان يحلم فقط بالانفراد بحبيبته في عيد ميلاده الخامس والعشرون، ولكن الذي يحدث هو أنَّه وقع فريسة لـ "الأخ الأكبر" الذي يراقب كل شيء، ويَعِدُ على الناس حتّى أنفاسهم.

هل هي مصادفة أنّه في العيد الخامس والعشرين لعصفور، يتآمر الشيخ والديكتاتور العسكري معًا لإجهاض أحلامه، حيث لا يمكن للقارئ تجاهل المضمون السياسي لرقم 25، ولا فكرة الحرية المرتبطة بالعصفور.

أحلام مجهضة هي أحلام عصفور، لا يجد خلاصه الفردي من دوامتها سوى السخرية وإهانة ممثل السلطة القامعة حتّى لو كان دمية كبيرة ضخمة، وكأنَّ هذه القصة هي ترميز شديد الوضوح لقصة مصر منذ ثورة 25 يناير.