Menu

عن المسؤولية الوطنية في عالم قيد التغيير

خاص بوابة الهدف

جاءت جائحة فايروس "كورونا" لتضع كل العالم أمام واقع مستجد- كما جدّد الفايروس نفسه- إذ وجد العالم نفسه أمام فايروس لا يُرى بالعين المجردة، لكنه خلق واقعًا جعل كل أركان هذا العالم متحفزًا بجميع مجّساته وقوانينه وقراراته وأدوات قهره وأركان أنظمته على مختلف مشاربها لمواجهته؛ مواجهة هذا الخطر الداهم الذي اجتاز حدود الدول دون إذن منها، وفرض عليها قيودًا كانت تحللت منها، وكسر اتفاقات كانت تتغنى بها، وانكفأت داخل حدودها تبحث عن داء يشفي جروح كبريائها قبل آلام شعوبها! فرأس النظام الدولي المعولم، ومنتِج مقولات النيوليبرالية واقتصاد السوق، بطبعته الجديدة دونالد ترامب، بقي مصرًا في البداية على تعميم مفهوم "الفايروس الصيني"، في محاكاة واضحة لبلد المنشأ "صنع في الصين"، دون أن يرى أن عولمته ومقولاتها وسوقه الحر، سقطت في هذا الاختبار، إذ أضحت كل دولة داخل حدودها، بما في ذلك، الولايات المتحدة نفسها، غرفة "حجر صحي" وليست قرية عالمية، بعد أن انكشف زيف كل مقولاتها عن مجتمع الرفاهية ونظام الرعاية الصحية والمجتمعات الرأسمالية المُنتجة، والتي يعود إنتاجُها عليها بتحسين شروط حياتها، وأي شروط تلك هي الأهم إن لم يجد الإنسان له جهازًا يأخذ منه أكسجين الحياة ليستمر على قيدها كي لا يجد نفسه يموت على قارعة الطريق دون أن يأخذ بيده فردٌ ولا دولة، أو لا يجد له حتى قبرًا يأويه.

أي نظامٍ أبشع وأكثر أنانية من ذاك الذي يقول لشعبه واجهوا مصيركم بأنفسكم. أو يرى أن دورة الاقتصاد بجشعه واستمرار نهبه أهم من دورة حياة الإنسان. أو يعتبر "الفايروس" فرصة للتخلص من كبار السن. أو الدعوة إلى "مناعة القطيع"، في تكريس فج لمقولة البقاء للأقوى، وتعبير واضح عن ذاك العرق الأبيض الذي ينتفخ بالعنصرية والكره للآخر؛ إنها الجائحة التي جاءت لتؤكد أن النظام الدولي القائم على مفاهيم النيوليبرالية، وفي مقدمتها: "حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات" ظالم ومستبد ومُدّعٍ حتى الرمق الأخير، حتى في الكوارث الإنسانية التي تحتاج إلى تضامن دولي حقيقي في مواجهتها، لكن ظلمه واستبداده وأنانيته هذه المرة لم يكونوا موجهين إلى الدول "الضعيفة" والمُحارِبة والمحاصَرة فقط، بل ضد شعوبه أيضًا، في حين أن الدول الضعيفة والمحاصرة وتلك التي "طُبعت" بإنتاج الفايروس: الصين وكوبا، انتصرت لإنسانيتها، ومدت يدها إلى من احتاجها، ولم تتأخر في واجبها الإنساني. إنّها القيم التي تُعلي من الإنسان وتضعه في مقدمة أولوياتها، ولا تنظر إليه كرقم أو حساب في أرصدتها البنكية.

في زمن "كورونا" سيكون العالم في ما هو قادم مُغايرًا عما كان سابقًا، وأمام هذا الاختبار الكبير الذي دخلته البشرية جمعاء يبقى أيضًا اختبار عن حدود المسؤولية الوطنية الفلسطينية التي أصابها "الفايروس"، وأدمى الكثير من العائلات، وفي مواجهته اتخذت جملة من القرارات التي حدت من انتشاره دون أدنى شك، لكن كان ينقصها بيئة فلسطينية وطنية صحيّة، لجهة الوضع الفلسطيني الداخلي، والأولويات التي يجب أن تُوضع على أجندة الجميع، وأولها إضاعة فرص الاستثمار في الإنسان الفلسطيني، رأس مالنا الحقيقي؛ من خلال خلق بيئة اجتماعية واقتصادية وتعليمية وصحية وثقافية ووطنية مناسبة له ولأوضاعه الاستثنائية في داخل فلسطين وفي أماكن اللجوء ودول المهجر، على طريق بناء مجتمع متماسك ومتكافل ومتضامن ومتعاضد، خاصة أننا لا زلنا نعاني من الكثير من الفيروسات التي نراها كل لحظة بعيوننا المجردة، ونعيشها كل يوم بطرق متعددة؛ قتل لشعبنا ومصادرة لأرضنا واعتقال لأبنائنا وفقر تكتوي به بطوننا وسرقة قوت أُسرنا وإضعاف لمناعة مجتمعنا. وفي مقدمة هذه الفيروسات "فايروس" مستديم بيننا ويجثم على أرضنا منذ أكثر من اثنين وسبعين عامًا اسمه "إسرائيل"؛ "وفايروس" عدم احترام وتقدير الإنسان والحط من آدميته، من خلال إهدار حقوقه ومكتسباته الوطنية والاجتماعية، باستمرار سيطرة طُغم رأس المال والمصالح الخاصة على مؤسساته؛ "وفايروس" الانقسام الذي لم يُنهِهِ استمرار العدوان متعدد الألوان والأشكال، وخطر مشاريع التصفية، ولا حتى "كورونا" الذي يهدد وجود الإنسان وينذر بكارثة حقيقية إن لم تتوحد الجهود وتُعلي حقًا من درجة المسؤولية الوطنية التي يجب أن يكون هدفها الرئيسي صحة الإنسان والمجتمع الفلسطيني.