الإعلام كمفهوم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعلومة التي تعكس حدثًا ما في حياة الإنسان والمجتمع، وتطور دور الإعلام ارتباطًا بتطور العلوم التي طورت وسائل الاتصال التي وسعت المجال المكاني لتبادل المعلومات، وسرعت من انتقالها واستثمرت في زمن نقل المعلومة .ومع تطور الحياة الاقتصادية واشتداد المنافسة ازدادت أهمية الإعلام كوسيلة للاستخدام السياسي في السيطرة على المجتمعات؛ من خلال بث المعلومة لاستحداث حالة محددة لتبرير فعل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، وأصبحت السيطرة على وسائل الإعلام ضرورة لتمرير سياسات الترويج لأهداف مراكز القوى المالية التي تتحكم في المجتمعات البشرية.
لعب الإعلام الحر دورًا مهمًا في نقل الحقائق الميدانية ولعب دورًا مهما في تغيير الرأي العام، وأبرز مثال على ذلك الحرب الفيتنامية التي لعب الإعلام الميداني دورًا رئيسيًا في كشف حقائق المعارك وحجم الخسائر التي كانت تتكبدها القوات الأمريكية، والجرائم التي كانت تمارسها في حربها العبثية ضد الشعب الفيتنامي . بعد حرب فيتنام أدركت مراكز القوى أهمية الإعلام ودوره، ونتيجة لذلك بدأت بصياغة سياسة ممنهجة للسيطرة على وسائل الإعلام ومراقبة دقيقة للمعلومة التي ستبث عبرها، واستحدثت مراكز لفلترة المعلومات وصياغة المصطلحات السياسية التي تخدم سياساتها وتوزيعها على وسائل الإعلام على سبيل المثال (رويتز BBC,) وحولت الإعلام لمؤسسة (صناعية) أدرجت على لوائح البورصات العالمية. ظهرت هذه السيطرة في حرب العراق وأفغانستان، حيث مهدت وسائل الإعلام الرئيسية التي تتحكم بمصادر المعلومات في العالم لمبررات الحرب التي أظهرتها على أنها حرب خيرة ضد أعداء الإنسانية، الذين يسعون إلى تدمير العالم الحر؛ عبر الإرهاب وامتلاك أسلحة الدمار الشامل.
وبالرغم من أن الشعوب خرجت بمظاهرات كبرى ضد الحرب، لكنها لم تحظَ بأهمية وسائل الإعلام، ولم ثؤثر في قرار الذهاب إلى الحرب، كما أثرت في الحرب الفيتنامية، بل مارس المراسلون الإعلاميون المرافقون للجيش الأمريكي سياسة تضليلية حول حجم الخسائر البشرية نتيجة لعملية الغزو. وفي المقابل تم قصف وسائل الإعلام التي كانت تنقل صورة من خارج سيطرة القوات الغازية، وقتل وجرح بعض الصحفيين.
هاتان الحربان أظهرتا الفارق بين حرية الإعلام التي ظهرت في الحرب الفيتنامية، ودوره في كشف الحقائق، وبين دور الإعلام والسيطرة عليه في حرب العراق وأفغانستان، مع الإشارة إلى تراجع إعلام القوى الشعبية في حربي العراق وأفغانستان، هذا الإعلام الذي لعب دورًا مهمًا في إنهاء حرب فيتنام.
وبالرغم من ظهور الحقائق حول غزو العراق التي تقوض الأسباب التي استندت إليها كل من لندن وواشنطن؛ إلا أن وسائل الإعلام لم تعيرها أهمية بمستوى الأهمية التي روجت فيها للغزو، وهنا تبرز مشاركة وسائل الإعلام الرئيسية في جريمة إخفاء الحقائق والتغطية على جرائم الحرب التي ارتكبت في العراق وأفغانستان. وبرز دور الإعلام السياسي الرأسمالي المدمر وأدواته ووسائله في الحرب على سورية، حيث تم بث كم هائل من الأكاذيب والمعلومات التحريضية التي كانت سببًا رئيسيًا في تحويل جوهر الصراع الاجتماعي ليأخذ أبعادًا طائفية ومذهبية حربية. والجدير بالذكر أن هذا الإعلام روج لحرب أفغانستان على إنها ضد تنظيم القاعدة وأخواتها، وبررت الجرائم الإنسانية لآلة الحرب الغازية. أما في سورية فمارست سياسة إعلامية تدعم هذه القوى التي حاربتها في أفغانستان، بل روجت على أنهم مقاتلي حرية وعدالة اجتماعية وبررت جرائمهم ضد الإنسانية.
أما في موضوع الحرب على اليمن فقد ظهر نفاق وكذب الإعلام السياسي، حيث لم يتطرق للحرب وأسبابها بل لم تظهر لسنوات على شاشاته أو في صحفه المكتوبة أو نشرات أخباره، هذا يدلل على المدى الذي وصل إليه دور الإعلام السياسي، الذي استحوذ على وسائله رأس المال النفطي .ومع تمركز رأس المال المالي أصبحت الوسائل الإعلامية تخضع لشروط مصالحه التي تلعب دورًا مهمًا في اخضاع الرأي العام واعتمدت معيار قوانين السوق الرأسمالية، وأصبج الاستحواذ عليها له أهمية في التحكم بالرأي العام المحلي والدولي، مما جعل كبريات الصحف ومؤسسات البث المرئي والمسموع محط اهتمام كبار المستثمرين الذين أخضعوا المعلومة لخدمة مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وتحولت إلى سلاح فعَّال يستخدم لتدمير الدول وتفتيت المجتمعات، وانتهى دور الإعلام المستقل، وتم توظيف شعار حرية الإعلام والشفافية لخدمة الأهداف السياسية لمراكز القوة المالية.
أما في الدول التابعة، فقد وظف الإعلام لخدمة السلطة وكبار المتنفذين، وأصبح الإعلام خاضع لقوانين فضفاضة ومعايير تخدم النظام السياسي، واستخدمت وسائل الإعلام؛ كمنبر دعائي للسلطة المتنفذة، وأنتجت السلطة مجموعة من الإعلاميين الرسميين الذين يهللون ليل نهار للقائد الملهم ولحاشيته، واستخدموا الجهاز البيروقراطي للدولة في بث المعلومات؛ لخلق رأي عام يخدم مصالح الفئات المتحكمة في السلطة، هذا الشكل في بث المعلومة لا يستخدم، إلا في الدول التابعة؛ لإدراكها أن وسائل إعلامها الرسمية ليس لها أية مصداقية جماهيرية.
في هذه الدول التي غاب فيها الحد الفاصل بين مفهوم دور الدولة التي يجب أن تقف مؤسساتها على مسافة واحدة من القوى الاجتماعية وتعبيراتها السياسية، وبين السلطة كشكل لتداول الحكم، الذي يعكس ميزان القوى الاجتماعي المتغير وفقًا لتداخل المصالح وتباعدها بين ممثلي القوى الاجتماعية. إن الخلط بين دور الدولة والسلطة جعل الإعلام بكل أشكاله يخضع للسلطة الحاكمة، ويلغي دور الدولة ومؤسساتها ويخضعها لمصلحة سلطة النظام، الذي غير دور مؤسسات الدولة؛ عبر تحويلها لمؤسسات تخدم سلطة النظام التي تعكس مصلحة تحالف قوى السلطة، بهدف الحد من حرية التعبير عن الرأي، وتقليص هامش الحرية الفردية والمجتمعية.
وفي هذا السياق ظهر تعارض بين دور الإعلام الدولي، ودور الإعلام المحلي في الحصول على المعلومة من جهة، وبث المعلومة من جهة أخرى، ولحل هذا التعارض قامت وزارات الخارجية للدول الرأسمالية وبعض مراكز الأبحاث التابعة لها؛ بتخصيص أموال من أجل دعم تأسيس مراكز أبحاث في الدول التابعة للحصول على دراسات تخصصية حول المجتمعات وقواها، وأوكلت لهم مهمة مراقبة وبث معلومات ودراسات لتغيير المزاج الشعبي خدمة لمصالحها الاستراتيجية، هذه المراكز التي تستخدم شعارات حقوق الإنسان والحرية والعدالة؛ من أجل استقطاب الشباب تحت عنوان تدريبهم على العمل السياسي، ولكنها في الجوهر تستخدمهم سياسيًا في مواجهة القوى الوطنية ومصالحها؛ ومن أجل استثمارهم في الضغط على النظم لإحداث تغييرات حسب متطلبات الحالة في كل بلد.
أما عن الإعلام الوطني الشعبي، فإنه يعاني من حجم ضغوط السلطة التي تعمل على تقويضه؛ من خلال إزدواجية الضغط والاحتواء التي تخضع لها القوى السياسية؛ عبر عملية ترويضية تستخدم فيها كل الوسائل الشرعية وغير الشرعية، وتحرمها من الوصول لمصادر المعلومات الشفافة، مما يجعل دورها محصورًا في إبراز نشاطها ونشاط قادتها وتعكس نمطية تعظيم دور الفرد في المجتمعات النامية. وتجدر الإشارة إلى أن هنالك محاولات لتغيير هذه النمطية، من بعض وسائل الإعلام التي تطرح رؤية مقاومة لطغيان سيادة الإعلام الرأسمالي الذي حول الإعلام لسلعة تخدم سياساته.
الإعلام الحر أصبح عملة نادرة مجالها الوحيد بعض الإنجازات الأدبية التي وثقت الماضي، ومحاولات بعض الأدباء والسياسيين والإعلاميين الشعبيين وقلة من وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، الذين يعانون من حملة منظمة لحصارهم سياسيًا وماديًا واجتماعيًا، وفي بعض الحالات يخضعون لكتم أصواتهم؛ من خلال كاتم الصوت أو المتفجرة أو القضبان الحديدية.
أما عن وسائل التواصل الاجتماعي التي من خلالها يتم التفاعل الحر المباشر، فقد أخضعت كذلك لذات المعايير التي استخدمت لاخضاع حرية التعبير وشفافية المعلومة. إن استخدامها من قبل قطاع واسع من خارج المنظومة الغعلامية الرسمية، تطلب سرعة من قوى السلطة لمحاصرة الهامش الحر للتفاعل؛ عبر تشكيل جيش من الذباب الأزرق لبث المعلومات المضللة، وتعميم المصطلحات السياسية ذات الاستخدام المزدوج من جهة، وسن قوانين تمكنها من محاصرة هامش الحرية الفردية والجمعية، حتى أن القائمين على هذه المواقع أصبحوا يشاركوا في قمع وحجب الآراء التي تعارض توجهات مراكز رأس المال الدولية، وتخضع المعلومة للمعايير السياسية لوزارة الخارجية الأمريكية.
حرية التعبير هي ناظم لثلاثية الحرية والعدالة والمشاركة، ومعيارًا للكرامة الإنسانية التي تنتج مجتمعات قوية مترابطة لا تقوم على أسس التمييز، بناء على قيم تخالف المعايير الإنسانية وحريتها الفردية والجمعية.