Menu

تقريرعن صناعة الانتخابات في الولايات المتحدة: كيف تصنع ناخبيك؟

ترامب وبايدن

خاص بوابة الهدف

قد يصح تسمية الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية بانتخابات الأرقام القياسية، فلقد حقق الخاسر في هذه الانتخابات دونالد ترامب رقمًا قياسيًا من حيث عدد الأصوات التي حصل عليها وهي حوالي ٧٠ مليون صوت، فيما حقق الفائز جو بايدن رقمًا قياسيًا أكبر بحصوله على أكثر من ٧٥ مليون صوت، ليتفوق بذلك كل من ترامب وبايدن على باراك أوباما الذي سبق له أن حصل عند انتخابه على أعلى رقم حصل عليه رئيس أمريكي منذ تأسيس الولايات المتحدة، كما تجاوز عدد المشاركين في هذه الانتخابات عددهم في أي جولة انتخابية سابقة بالوصول إلى ما يزيد عن ١٤٥ مليون مشارك، وهذا كله يمكن فهمه للوهلة الأولى كجزء من سياق شدة التنافس والتجاذب والانقسام في المجتمع الأمريكي حول عديد من القضايا، لكن فعليًا هل الفارق بين المرشحين وبرنامج كل منهم حاد إلى هذه الدرجة، أم أن أدوات صناعة الاستقطاب قد بلغت هذه الدرجة من حيث القدرة على التأثير.

شكّل فوز دونالد ترامب صانع الاستعراضات وذو الآراء الشعبوية والسلوك الفضائحي على السياسية النخبوية التقليدية هيلاري كلينتون منذ أربع سنوات صدمة حقيقية للنخبة السياسية والخبراء وشركات وهيئات صناعة الاستطلاعات، اذ نجحت حملة دونالد ترامب في صناعة مجموعة من العناوين الملائمة لشخصية مرشحها وأجادت استخدامها كأداة لاستقطاب الناخبين، لتصنع من مليونير فاسد عنصري، صورة عن شخصية محارب ضد الفساد والبيروقراطية والنخب ومنحاز لعمال مجدّين يخشون من فقدان وطنهم وفرص عملهم لمصلحة الآخرين والملونين من الوافدين الجدد للولايات المتحدة، أعادت حملة ترامب صناعة وتشكيل هوية العنصرية البيضاء في الولايات المتحدة لتقدّمها كخطاب مظلومية، وتقنع فيه ملايين من البيض الأمريكيين وتدغدغ فيه عنصريتهم التي قد تبدو فجة اذا ما قدمت في اطار الخطاب القديم عن التفوق العرقي للبيض.

فلقد أظهر  (53%) من البروتستانت البيض تأييدهم  لدونالد ترامب، أما الإنجيليين البيض فقال (78%) منهم إنهم يؤيدون ترامب، بعد أن كانوا (83%) قبل الأزمة الصحية المرتبطة بجائحة كورونا، هذه الموجة من المداعبة المتبادلة للأوهام والمشاعر العنصرية بين ترامب ومؤيديه لم تكن بنت أفكار الرجل أو من صناعته، فتحويل شكاوي هؤلاء عمال وأبناء للطبقة الوسطى الأمريكية إلى موجة عنصرية جارفة ضد المهاجرين والأجانب وكل ما هو مختلف عنه، هو صناعة وجزء من منتوجات مركز الإمبراطورية الامبريالية، بل وجزء من صناعة "الديمقراطية" في الولايات المتحدة.

عن الليبرالية ومسخ الحقوق:

تفترض الليبرالية ومنظّريها أنّها منظومة مضمونة تكفل حقوق الأفراد من خلال منحهم الحق في الكلام والتصويت والملكية، وتتجاوز دور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في خلق أرضية ضامنة لهذه الحقوق الفردية من المصادرة بفعل قوة رأس المال الذي تسهم في تركيزه بأيادي قلة محددة.

قد لا تكون مفارقة ولكن أداة تفسير واضحة، حقيقة أن الأرقام القياسية شملت المال أيضًا ولم تقتصر على عدد الأصوات، حيث أن حملة جو بايدن جمعت أكبر رقم مالي حصلت عليه حملة انتخابية في تاريخ الولايات المتحدة، اذ نجحت في جمع ٤٣٢ مليون دولار، فيما نجحت حملة دونالد ترامب في جمع ٢٨٢ مليون دولار، فصحيح أن الولايات المتحدة لا يتم فيها شراء الأصوات على غرار نظم الاستبداد التي تصنعها الولايات المتحدة لحكم بلدان العالم الثالث، لكن العملية الانتخابية لا تتعلّق في الغالب ببرامج المرشحين أو في الفوارق الشخصية بين كلا المرشحين، ففي كلا الرجلين من العيوب والنقائص ما يكفي في ظل أي نظام إنساني لمحاكمته وإيداعه السجن لسنوات طويلة ناهيك عن صلاحية دونالد ترامب الاستثنائية لدخول مصحة عقلية.

للصناعة الانتخابية في الولايات المتحدة تقاليد عريقة، تضم مئات آلاف المشتغلين، وآلاف من الشركات والخبراء، ليس ابتداء بشركات الاستطلاعات وخبراء الدعاية ومؤسسات المجتمع المدني، وشبكات التوزيع، وخبراء جمع التبرعات، وصغار الموظفين، والساسة المسؤولين عن ابرام الصفقات مع الممولين نيابة عن الحملة والمرشح الرئاسي، واذا ما قدر للمرشح الرئاسي الأمريكي ابرام مجموعة الصفقات الضرورية مع الممولين التي تضمن حصوله على التمويل الكافي لحملة نوعية، فإنه يستطيع الحصول على الخدمات الأفضل في مجال "الفوز في الانتخابات".

بايدن حصل على هذه الوصفة، وقامت الجهات والشركات والمؤسسات الشريكة في حملته بدراسة عوامل تفوق ترامب في الانتخابات الماضية، وبناء حملة انتخابية مدروسة مصممة خصيصًا لا لتقديم الشعارات السياسية الملائمة أو البرنامج الأفضل، إنّها حملة مصممة لهزيمة ترامب فحسب، وكما يحدث في لعبة الشطرنج، نجحت الحملة لاستدراج ترامب لمعارك مخطط لها وكمائن انتخابية، فلقد فاز ترامب وحملته في كل ما ظن أنه يضمن له الفوز بالرئاسة، ولاية فلوريدا، تكساس، كالورينا الشمالية، نورث داكوتا.

لم تنفق حملة بايدن أموالها أو جهودها في ولايات ميؤوس منها مثل تكساس، ولم تحاول القيام بجهد استثنائي تجاه فلوريدا، رغم أنها ولايات من الحجم الكبير، واكتفت من ولايات الصف الأول على مستوى التمثيل في المجمع الانتخابي بكل من كالفورنيا ونيويورك، وراهنت بالأساس على ولايات الصف الثاني (من ٨- ٢٠ مقعد في المجمع الانتخابي)، انقضت الحملة على ترامب في بنسلفانيا واريزونا وجورجيا وكنساس، بل ونيفادا ذات المقاعد الستة، لقد فاز بايدن بالمجموع العام وهذا تعبير عن تأييد جماهيري بالفعل، لكن ما أوصله لمقعد الرئاسة الأمريكي هو فوز فريق من المحترفين البارعين ذو الأجور الهائلة الممولين بأكبر مبلغ مالي حازته حملة انتخابية في تاريخ هذا العالم، على فريق مناظر مثل ترامب، ولم تفعل ذلك باستقطاب الرأي العام فحسب، بل باختيار المعارك ونقاط حيازة الأصوات، فلم تكن ٥ مليون صوت هي الفارق في مجموع الأصوات بين بايدن وترامب هي ما ضمنت لبايدن الفوز، ولكن بضعة آلاف من الأصوات في ولايات محددة اختار فريقه القتال فيها بعناية.

عن البرامج.. دولة مؤسسات وقصص أخرى:

هذا السرد لا يهدف لاستظهار معرفة استثنائية بالعملية الانتخابية الأمريكية، ولكن بالأساس للإشارة لطبيعة العملية الانتخابية وكيف يمكن أن تكون أداة قمع للديموقراطية وحق الأفراد في الاختيار، وليس تعبير عن الحرية الفردية وقدرة الفرد على الاسهام في تحقيق مصيره وصناعة سياسات بلده، لا يصنع الأفراد السياسات بل كبار الممولين والمحترفين في صناعة الانتخابات والعلاقات واجادة صناعة الصفقات داخل معسكر النخبة الرأسمالية المهيمنة على الولايات المتحدة وعلى هذا العالم.

على مستوى البرامج اعتدنا رؤية الرصاص والبارود والغارات كتعبير عن سياسات الولايات المتحدة في بلادنا، سياسة القتل والابادة، واعتدنا بدواعي محقة وأخرى تسببها البلادة المعرفية، الاشارة للولايات المتحدة باعتبارها دولة مؤسسات لا تتأثر سياساتها بتغير الجالس في موقع الرئاسة، لكن الحقيقة أن منظومة رأس المال هي حقل خصب للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تهدف النخب المهيمنة لإدارتها بما يحقق الربح والمزيد دومًا من تركيز الربح في يدها وصناعة الثروة، كما تخوض شرائح هذه النخبة منافسات جدية على هذه الربحية، وتتكون تبعًا لذلك منافسات على انتاج وتعميم القيم الملائمة لكل من هذه الشرائح.

الولايات المتحدة، الشركات، الشعب الأمريكي، هذا مجتمع يتفاعل بطبيعته وتنتج بناه التحتية من مال وأعمال وبنى اجتماعية، بناه الفوقية مثل السياسة والرئاسة والقوة والسطوة والأفكار، هذه ليست مجاملة للرأسمالية فهذا ما تقوله النظرية الماركسية بشأن المجتمعات وبشأن رأس المال.

اختارت شرائح من هذه النخبة بايدن كحارس لمصالحها، هذا صحيح، لكن أيضًا هناك شرائح متضررة من النمط الذي تسير فيه السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، تخوض نضالاتها في الحقل السياسي وتحقق إزاحات في البنية السياسية الأمريكية، وتصنع لذاتها موضع في تركيبة السياسة الأمريكية، هذه الشرائح ليس بالضرورة في مجموعها الأكبر صديقة للشعوب العربية ومثيالاتها في العالم الثالث، لكن لا يمكن اغفال تلك الخروقات الهامة التي حدثت في الحزب الديموقراطي الأمريكي، والتي عبرت بالأساس عن قناعة متزايدة لدى معسكر كبير من الأمريكيين بالخلل الكبير في سياسات الولايات المتحدة، وفي الطريقة التي تدار بها حياة الأمريكيين، هناك ازاحات مهمة في القيم الأمريكية وتزايد لرفض الحرب والتدخل العسكري في الخارج، وكذلك في الموقف من حقوق الانسان داخل وخارج الولايات المتحدة، هذا كله لا يعني أن نتوقع أن ترمينا طائرات الأف ١٦ الأمريكية بالأزهار بدلاً من القذائف والصواريخ، ولكنه يعني أن التعميمات الجاهزة مضرة، ومربكة للقدرة السليمة على تقدير الموقف وخوض الصراع في وجه المنظومة الإمبريالية.