Menu

سؤال طرحه الفقه القديم وأجاب عليه لويس عوض

هل العربية أصل اللغات جميعا؟!

محمود قرني

صورة تعبيرية

خاص بوابة الهدف

في كتابه "من أجل نحو عربي جديد" يشير الباحث والمترجم الراحل "خليل كلفت" إلى أن تفكير العلماء في الظاهرة اللغوية، يخضع لقانون تتراوح درجة ثباته، لكنه في النهاية يخلص إلى أن كل ظاهرة لغوية تساوي العلم الذي يدرسها، وهي حقيقة قديمة يراها "كلفت" من أكثر أخطاء البحث العلمي فداحة، لأن اللغة موجودة قبل ظهور العلوم التي تدرسها، ومن ثم فإن هذه العلوم نشأت على أساس استقرائي من خلال الناطقين باللغة أنفسهم.

هذا يعني بالضرورة أن افتراضات العلم، أياً كانت، لا يجب أن تصادر على التحولات التي تطال اللغة بفعل العوامل الاجتماعية بصراعاتها المتباينة، وهو ما أشار إليه بورخيس بصدد حديثه عن تطوير اللغة، حيث سخر من سطوة المجامع العلمية؛ رافضًا كهانتها، ومؤكدًا أن اللغة لا تنتجها المجامع العلمية ولا رجال العلم، بل ينتجها الصيادون في مراكبهم والفلاحون في حقولهم والعمال في مصانعهم.

ورغم الطرافة التي يتبدى عليها منطق بورخيس؛ إلا أن الأمر ليس كذلك تمامًا، لأن المتفحص لفكرة الإيمان بالصناعة المشتركة للغة على هذا النحو حتمًا سيؤمن بنظريات القرن التاسع عشر في دراسة علوم اللغة، أصولها ومنطوقاتها؛ نحوًا وصرفًا وصوتًا، في تعريف علمي جامع هو "الفيلولوجيا". وقد اتجهت تلك الدراسات إلى العمل على إخضاع اللغة للمنطق التاريخي عبر دراسة أصل اللغات في إطار الدراسات المقارنة أي "فقه اللغة" وهو ما فعله "لويس عوض" في كتابه "مقدمة في فقه اللغة العربية"، حيث اعتمد على البحث في الأصول المشتركة الأولى لكل اللغات استنادًا إلى اكتشافات علم الأثار والأجناس، حيث يعتقد هذا العلم أنه يكاد يصل إلى تاريخ أول ظهور للإنسان المتكلم وكذلك أول لغة مدونة.

وسواء كانت تلك اللغة نشأت في مكان واحد أو في أماكن متفرقة فإن ثمة تأكيد لدى العلم الحديث قال به كثيرون قبل لويس عوض يخلص إلى أن ثمة جذرا واحدا مشتركا لمجموعة اللغات السامية والهندية الأوربية. هذا كان يعني بالضرورة إعادة النظر في معتقد بعض فقهاء الأشاعرة الذين يقولون بأن اللغة العربية، تأخذ حكم القرآن، في أنها ليست مخلوقة، لكنها أزلية، ومن ثم فهي أول اللغات وآخرها، وكذلك هي بالضرورة أصل اللغات جميعًا.

ورغم أن لويس عوض لم يتعرض البتة لقداسة اللغة أو عصمة القرآن الكريم؛ إلا أن الأمر لم يخلو من اصطياد الصائدين مغازلة لمشاعر العامة، وقد وصل الأمر إلى أن كانت الردود على كتاب لويس عوض تتمثل في مجموعات من الكتب قليلها كان يمثل نقدًا موضوعيًا وأكثرها لا يملك من أمر الموضوعية شيئًا، ومنها رد الشيخ محمود شاكر – رحمه الله – في كتابه "أباطيل وأسمار"، وجلال كشك في كتابيه "الغزو الفكري" و "دراسة في فكر منحل"، والدكتور البدراوي عبد الوهاب زهران في "دحض مفتريات ضد إعجاز القرآن ولغته"، والمستشار سالم البهنساوي في "تهافت العلمانية في الصحافة العربية"، ثم كتاب "لويس عوض: الأسطورة والحقيقة" للدكتور حلمي القاعود.

وهي في الإجمال معارك ساهمت في إثراء الساحة النقدية والفكرية طيلة النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، لأنها رغم النقاشات الحادة التي صاحبتها، لفتت النظر إلى كشف جديد في الفقه اللغوي دفع الباحثين؛ دفعًا إلى تحديث رؤاهم حول فكرة تطوير اللغة العربية حتى تفي بحاجات أهلها في عصر يطمح فيه الناطقين بها إلى العبور بأنفسهم من مهاوي الجهل إلى رحابة الأبنية العقلية وتعددها وتوازنها في رؤية وموقع الآخر، خاصة فيما يتعلق بقضايا العلم المستقبلي، وهو أمر آمنت به كل اللغات الأحدث مثل الفرنسية والإنجليزية، وهو أمر ساهم أيضًا في استقطاب بعض الباحثين الجدد الذين ربطوا فيما بعد، بين بحوث فقه اللغة وعلم الأجناس والأنثروبولوجيا بصفة عامة.

والمتأمل لكتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" للدكتور "لويس عوض"؛ سيجد أنه يستند في تصوراته التاريخية للغة العربية إلى جذور فقهية عربية محضة، بحيث يمزج بين الفقه والتصورات العلمية، أي عبر المنهج وقضيته. أما المنهج، حسب "عوض"، فهو ضرورة وضع اللغة العربية أمام العلم الحديث "الفونوطيقا" وهي علم الصوتيات، "المورفولجيا" وهي علم الصرف أو صور الكلمات، وقوانين "الإيتمولجيا" وهي علم "الاشتقاق"، وهي جميعًا قوانين فرغ العلم منها مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ويحاول الدكتور "عوض" هنا أن يكشف ما بين اللغة العربية وبين اللغات الأخرى من أواصر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يبغي الكشف عن الحيوية التي يمكنها أن تدب في أوصال العلاقة بين العربية ولهجاتها المحلية، وكذلك الكشف عن الوشائج التي تربط النحو العربي بالنحو في مجموع اللغات الأخرى. وينقل "عوض" عن " القاضي عبد الجبار" تصوره عن التطور العضوي للغة في رده على المشككين في سلامة لغة القرآن وقوة حجته؛ بسبب احتوائه على بعض المفردات الفارسية عندما يقول: "إن ذلك المزج لا يمثل إلا مبدأ الامتصاص والتمثيل اللغوي"، وتصور القاضي عبد الجبار هنا عن فكرة التفاعل ليس إلا تعبيرًا عن قناعة كاملة بفكرة الدائرة الموحدة للغات عامة، واللغات السامية على نحو خاص، انطلاقًا من ذلك يرى "لويس عوض" أن العربية كغيرها من اللغات وليدة تراكم حضاري يشبه الطبقات الجيولوجية التي كشفت عنها علوم الأنسنة في صورها المستحدثة، وكان هذا هو تصور العرب أنفسهم عندما كانوا ينسبون ما يقولون أنه "جاهليتهم الأولى" إلى "آل جرهم"، وهي قبائل يمنية قديمة من العماليق؛ عاصرت النبي إسماعيل، وقد تزوج منهم. وجُرهُم إحدى القبائل البائدة، وقد مرّ وجودها بمرحلتين، في أولاهما عُرفت بجُرهُم الأولى، ويذكرون أنها كانت في عهد قبيلة عاد، وتذكر بعض الأخبار أن جُرهُماً كان أحد الرجال الستة والثلاثين الذين كانوا مع نوح في السفينة.

وهذا القطع الذي تشير إليه العرب مع من يمثلون جاهليتهم الأولى يعني أن أمة العرب هي على التقريب بين أحدث الأمم؛ هذا إذا كنا نؤمن بعصر التدوين وما وردنا من متونه وحواشيه، وكان أقدم حلقاته في سبأ ومعين قبل ما يقارب الثمانمائة عام قبل الميلاد، ولم تسفر أية اكتشافات مدونة بالعربية أو الآرامية، وكانت هي لغة التدوين في هذا التوقيت في الهلال الخصيب بين من يتكلمون العربية أو الآرامية، لم تسفر عن أية تدوينات أبعد من هذا التاريخ. ويشير "عوض" هنا إلى أن أقدم نص عربي مكتوب يعود إلى عام 328م، وهو شاهد "امرؤ القيس بن عمرو" المتوفى في العام نفسه، والنص يلقب صاحبه بـ "ملك العرب الأكبر"، ويسجل أن امرؤ القيس كان نائب قيصر الروم أو بيزنطة في العالم العربي. والأمر عند لويس عوض لا يتوقف عند تأثر العربية بمئات الألفاظ التي دخلتها من اللغات الأخرى لأن ذلك في البحث اللغوي، كما يري علماء ثقاة مثل "الجواليقي"، "السيوطي"، "البشبيشي"، و"الخفاجي"، هو ما يؤشر إلى حقيقة تاريخية تنتهي إلى أن العربية في متنها وصلبها ليست إلا جزءًا من مجموعة اللغات السامية والحامية والآرية التي أثرت وتأثرت بمحيطها الجغرافي والسياسي والاجتماعي مثلها في ذلك مثل اللغة السنسكريتية واليونانية واللاتينية. والمبدأ الذي يستخلصه لويس عوض من موقف هؤلاء الفقهاء هو شرعية التجنيس، ما يعني أن دخول مفردة إلى لغة من اللغات يجعلها جزءًا لا يتجزأ من هذه اللغة، ما دامت قد اتبعت قواعد الصرف في مهجرها الجديد، " وهو ما يقول به "القاضي عبد الجبار"، حيث يرى أن "القليل من التيسير من التهجين يخرج المفردة من بابها إلى باب جديد تمثله اللغة التي استوطنتها"، ويضرب لويس عوض هنا مثالًا بكلمة "شيك" chic وهي كلمة انجليزية رغم أنها مستعارة من اللغة الفرنسية بنفس رسمها، وهي نفسها الكلمة بعد تعريبها وإخضاعها للنحو والصرف العربيين، فيمكن أن نشتق منها كلمة "شياكة" على سبيل المثال، ومن ثم فقد أصبحت مفردة عربية خالصة مثلها مثل مشكاة وزبرجد واستبرق وهي مفردات فارسية الأصل، لكنها عُربت وأصبحت من بنات اللسان العربي. وهنا يشير "لويس عوض" إلى أن اللغات الحديثة كالإنجليزية والفرنسية تنموان بسرعة بالغة عبر إدخال مئات الألفاظ الجديدة إليها.

فعندما صعدت ثورة الفضاء أخذت تلك اللغة لفظة " كوزمونت". بمعنى رائد فضاء أو ملاح الكون وأدرجتها في معاجمها، رغم أن أصل المفردة يوناني لاتيني وهي مأخوذة من كلمة "كوزموس" التي تتكون من مقطعين. ويريد "عوض" هنا أن يحذر من فكرة العرقية اللغوية أو فكرة النقاء الخالص للغة، لأن هذا ينافي قانون تطور الأحياء ورقيها وكذلك مناف لقوانين تطور اللغات ورقيها، ينسحب الأمر أيضًا على معوقات دمج الأعاجم والجنسيات غير العربية في المجتمع العربي، وهو ما يراه مؤججًا للحركات الشعوبية وتأليب أبناء الأمصار بعضهم على بعض. ويتأسف عوض هنا على إهدار موقف "المعتزلة" من اللغة، وهو موقف يراه الأرجح عقلًا ومنطقًا لأنه يقبل بفكرة التلاقح والتحديث، باعتبار أن اللغة مستحدثة وليست مخلوقة، ومن ثم كان بالمقدور إعادة النظر في إنتاج وتطوير قواعد النحو والصرف والاشتقاق، بحيث تقترب المسافة بين الفصحى واللهجات الدارجة. وسنجد أن "لويس عوض" رغم دعوته المنفتحة على أحدث الدراسات اللغوية، يقول: إنه إذا كان تاريخ اللغات على هذه الدرجة من التعقيد والأهمية، فمن الجدير التقدم فيه بمنتهى الحذر وعدم الاطمئنان إلى نتيجة من النتائج قبل تجميع الأدلة والبراهين من كل فروع المعرفة، ثم يضيف إننا لا يجب أن ندخل مجال هذا البحث ونحن نحمل معتقدات جاهزة، قد تمثل عقبة في طريق الوصول إلى الحقيقة. والوصول إلى التعايش في اللغة هو طريق للتعايش بين العقائد أيضًا، من ثم يبدو من الضروري إعادة النظر في تاريخ وحدة الأنساب والأصول والكتل الجغرافية. ويشير "لويس عوض" هنا إلى أن الشعوب المستقرة تعايشت داخل القومية الواحدة وتعايشت الأجناس والسلالات داخل القومية الواحدة، أما في الشعوب غير المستقرة فظلت وحدة اللغة من أهم آيات القومية وكذلك العنصرية ووحدة الأصلاب؛ ظلت كذلك من أهم عناصر القومية كذلك وحدة العقيدة الدينية، ويضيف عوض أن العنجهية القومية والصلف القومي يصوران للأمة، أي أمة، أنها أصل العالم، فكان المصريون القدماء يقسمون العالم إلى مصريين وأجانب، واليهود يقسمون العالم إلى يهود وقبائل، والعرب يقسمون الناس إلى عرب وأعاجم، وكذلك كان الإغريق يقسمون العالم إلى هلليني وبربري، وهذه حقائق تاريخية لا مجال للتنكر لمخازيها.

وقد قدم لويس عوض في كتابه، عبر أربعة عشرة فصلًا، دراسات تطبيقية في غاية الأهمية حول لغة العرب، ومشكلة اللغة واللوجوس؛ أدوات البحث الفيلولوجي؛ فقه اللغة المقارن؛ أسماء الأعداد والقرابة وأسماء أعضاء الجسم وأسماء الحيوانات، والنباتات والزواحف والحشرات وأسماء عناصر الطبيعة، وقد عرض دراسة شاملة للتغيرات الصوتية في الألفاظ ذات الدلالات المشتركة في العديد من اللغات ليكتشف جذورها وتبيان مدى التلاقح الذي حدث لتلك اللغات عبر التاريخ. ومع ذلك فقد هوجم الكتاب من شتى التيارات الرئيسية في الثقافة العربية، فقد اعتبره غلاة الإسلاميين إهدار لقداسة اللغة، ومن ثم فهو إهدار لقداسة القرآن، واعتبره القوميون استئصال لفكرة العروبة التي تقوم على نقاء اللغة ووحدانيتها، كما اعتبره الأقباط دعوة لاستقطابهم ضمن الثقافة الوافدة على مصر وهي الثقافة العربية، بينما لم يقصد لويس عوض من كل ذلك شيئًا سوى إعادة النظر في بناء لغوي هائل وعظيم؛ تريد له سلطة المحافظين أن يبقى على نقائه المزعوم  في مواجهة نص يطمح إلى أن يتحول لنص يصنع سلطته من حيويته وقدرته على التجدد ليكون قادرًا على أن يكون تمثيلًا مقبولًا للمعرفة المستقبلية.