Menu

الفعل التاريخي عند هيجل وماركس: من "الروح" إلى الجماهير

Mohamed Fayçal Touati أستاذ الفلسفة في جامعة تولوز Cahiers philosophiques ترجمة - : عبد الكريم وشاشا

يؤكد (Reinhart Koselleck) بشكل صحيح على دور المثالية الألمانية في تكوين مفهوم التاريخ، كعملية وسيرورة ممكنة وفعلية يحقق فيها الإنسان ذاته... فمع المثالية الألمانية، وخاصة مع هيغل وجد مبدأ الإمكانية الإنسانية في التاريخ تعبيره. فالتاريخ، لا توجهه أي سلطة متعالية، بل العكس من ذلك، فهو من صنع الناس أو على الأقل يشاركون فيه؛ وهم – أي الناس - نشطون بالكامل في العملية التاريخية. ولكن إذا اتفقنا بشكل عام بالإقرار على أن الناس هم الجهة الفاعلة في التاريخ؛ وبمبدأ الإمكانية في صياغته التقليدية: "الناس يصنعون التاريخ"... فالقول بأن الناس هم الفاعلون على مسرح التاريخ لا يطرح أية مشكلة طالما أن هؤلاء الناس أنفسهم لا يطالبون بهذا المسرح على أنه ملكهم وأن المسرحية التي يلعبونها هي مسرحيتهم. ولكن في اللحظة التي تتحول فيه الإمكانية إلى الفعالية هنا تظهر المشكلة: فالناس على أرض الواقع يمكن لهم أن يطالبوا بالتاريخ كملكية لهم بمعنى أنهم فاعلون فيه وأيضا صانعوه. تفسح "الروح" المجال للأفراد الحقيقيين الذين يخرجون من حالة القصور التي كانوا فيها يعمهون، ويمكِّنهم ذلك، التعريف بأنفسهم، حينها فإن فئة "الناس" لم تعد تعني أي شيء، ووحدة الجنس البشري تنفجر بالمصالح المتناقضة، وتنكشف بعد ذلك الطبيعة الأيديولوجية العميقة التي تخفي الواقع المادي للصراع الطبقي. أن نأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار، يعني أنه لم يعد من الضروري أن نجعل من الإنسان جوهرا مطلقا متعاليا... والطبيعة الخالدة للإنسان ...الخ، بدلا من ذلك نفهم أن "التاريخ كله ما هو إلا تغيير مستمر للطبيعة البشرية"، حيث محركها الأساسي، ليس إلا الصراع الطبقي، بمعنى نضال الجماهير من أجل تحرير نفسها من أغلال الاستغلال. والحديث عن الجماهير يتطلب بعض التوضيحات الأولية.. مع لينين الذي يشير "كل العمال وكل المستغَلين من قبل الرأسمالية، وخاصة الأقل تنظيما وتعليما والأكثر اضطهادا والأقل قابلية للتنظيم"، وبذلك فالجماهير تعني كل مكونات الجسم الاجتماعي، ما عدا البورجوازية. مفهوم "الجماهير" إذا كان يجب التعامل معه بحذر هو ليس مفهوما بسيطا، فهو لديه ميزة أن يكون ما بين مجموع الناس البسطاء (الفضاء ما قبل السياسي - الكم الغير المسيس) وبين الشعب - الكيف (الفضاء السياسي) إن هذا الفضاء الاجتماعي على وجه التحديد، إذا كان يخلو من السياسة (بالمعنى المؤسسي) فهو مع ذلك فهو سياسي (بمعنى الفعل الجماعي) فضاء، حيث يمكن للجماهير ممارسة السياسة بهزيمة السياسة؛ نتحدث إذن هنا عن الجماهير أو الطبقات بدون تمييز، بعد إشارة لينين: "الجميع يعلم أن الجماهير تنقسم إلى طبقات، وأنّ معارضة الجماهير بالطبقات لا تصح. أن كل فئة اجتماعية تحتل موقعاً في نظام الإنتاج الاجتماعي" ومع ذلك فسوف نستمر في تحديد الجماهير والطبقات بدقة خاصة أن الصراع الطبقي ليس منذ البداية حركة جماهيرية، والعكس بالعكس... (...). إن المرور من هيغل إلى ماركس يمكن أن يفهم كراديكالية أو على أنه تجسيد وتحقق لما هو كامن كبذرة عند الأول: فما يقوله هيغل بشكل مجازي، يعبر عنه ماركس بعبارات مناسبة، وبذلك أمكنه أن يكشف للعيان المأزق التي تتخبط فيها المثالية التاريخية من خلال خطاطتها المرسومة سلفا (وعي الذات) التي سجنت فيها نفسها؛ ويعني أيضا أن الدافع إلى الحرية ممكن تحققه: لم تعد "الروح المطلق" هي التي تنجز باطراد فكرة الحرية، بل هي الجماهير التي تخوض الصراع من أجل انعتاقها إلى درجة "أنه ليس من الممكن أن يتحقق التحرر الفعلي والواقعي في أي مكان آخر إلا في هذا العالم الواقعي الذي نعيشه وبالوسائل الفعلية والمادية ليس إلا..."، إنها أطروحة من الضروري اليوم استعادتها بالرجوع إلى رسالة ماركس نفسها (K. Marx, F. Engels, L’Idéologie allemande, op. cit., p. 22.). إذا كان ماركس يسلم لهيغل باكتشافه للديالكتيك، لكنه لن يتوقف أبدا عن تأكيد الشكل الروحاني الغامض الذي يتخذه عنده، والذي سيقوده إلى "مباركة وتمجيد الوضع القائم". إن المتابعة النقدية للديالكتيك الهيغلي تشمل إزالة طابعه المبهم وجوهره "الروحاني"، وفي نفس الوقت الكشف عن جوهره النقدي الثوري الحقيقي كما هو. إن الإطاحة بهيغل، هي ليست رفضا أو إقصاء له، إنه النفي الجدلي كما هو في مخطوطات 1844، وأيضا في كتاب الرأسمال وفي كتاباته حول التاريخ بما فيها كتاب "برومير الثامن عشر للويس بونابرت" مستعملا تلك الصورة الشكسبيرية في مسرحية العاصفة "الهيئة المنفرة على المرآة"، وقد استعملها أيضا هيغل هو الآخر في نهاية دروسه حول فلسفة التاريخ. لكن هذه الهيئة المنفرة التي تم التعرف عليها لم تعد مبهمة وغامضة، لقد أصبحت ثورية، ولم يعد الأمر يتعلق بأن تظهر "الروح المطلقة" على مسرح التاريخ على هيئة شابة متجددة.. فالنفي هنا هو الثورة.... النقد الماركسي يتعلق بوضع الفلسفة ذاتها في اتجاه أن تكون حقا في خدمة التاريخ، والأوان لم يفت بعد؛ فالظلام لا زال يرخي سدوله المستحكمة وبومة منيرفا لا تطير إلا عند الغسق...