Menu

الأدب العربي بين هيمنة الفكر الغربي وآفاق العالمية

جواد العقاد

نُشر هذا المقال في العدد 21 من مجلة الهدف الإلكترونية

بالتأمل في نوايا الغرب ومقاصده من درس الأدب المقارن، نجد أن هذا الدرس يحمل في بنيته الثقافية مفاهيم هيمنة، فهو يتخطى الحدود الثقافية بين الغرب والشرق، بين المنتصر والمهزوم، وبالطبع يفرض ما يريده المنتصر ويصنع الشرق بحسب مزاجه، وهذا ما يُعنى بالاستشراق في عصر ما بعد الحداثة، فهو تجاوز مفهومه التقليدي على أنه دراسة مجموعة من مفكري الغرب للثقافة الشرقية من منظورهم وبمناهجهم وأدواتهم، وأصبح يعني صناعة الشرق بحسب تصور الغرب وأهوائه في سبيل تلبية طموحاته الاستعمارية؛ فالغرب يصور بلاد الشرق على أنها بلاد مليئة بالثروات التي يمتلكها رجال أغبياء، لا يحسنون إدارتها، كما أنها بلاد السحر والجهل والتخلف، وبذلك أهل هذه البلاد  يحتاجون إلى مساعدة، وهي في نية الغرب مبرر للاستعمار، ولا يشترط أن يكون استعمارًا عسكريًا، فإننا نرى اليوم سيطرة الغرب على معظم ثروات دول الخليج، ناهيك عن الغزو الثقافي للبلاد العربية من المحيط إلى الخليج، هكذا يصور المستعمر الغربي الشرق، ويقنع أبناءه بهذه الصورة؛ فيروجون لها ويقدمون أنفسهم على أنهم هكذا، مثلًا: بعض الأدباء يطمحون إلى العالمية فيشرقنون ذواتهم، ويكتبون أدبًا يتضمن الصورة التي كونها الغرب عن الشرق، ربما يطرحون موضوعات موجودة فعلًا، لكنهم يعممونها وكأنها ظاهرة، وبهذا تحظى أعمالهم بالترجمة والنشر، والعالمية المنشودة.

 إن الغرب المهيمن يريد من الأدب الترويج لكل أفكاره التي يبتغي غرسها في وعي الشعوب المهزومة، أو النامية، سواء كانت تلك الأفكار حقًا أو باطلًا، وغالبًا تكون الثانية، وقد نجح هذا في المجتمع العربي؛ فالقومية العربية غدت شعارات مباحة، ولم يفرق العرب بين ما يتوافق مع مبادئهم وبين ما ينقضها رأسًا على عقب، فهم يقلدون الغرب في كل شيء، في أنماط الحياة، وطرائق التفكير، مثلًا: حرية المرأة التي يريدها الغرب تختلف تمامًا عن حرية المرأة في الثقافة العربية الأصيلة، وكل ما يراه الغرب حقًا أو باطلًا أو جميلًا أو قبيحًا تراه العرب كذلك.

لا بد من تغيير طريقة تلقي درس الأدب المقارن، وقراءة الأدب العالمي بعين ناقدة. لو تأملنا في كيفية تلقي الدول التي تعتز بقوميتها وتحافظ على ثقافتها الوطنية للآداب الأجنبية، نجد دولًا مثل: الصين والهند والبرازيل؛ يخضع الأدب العالمي عندها إلى النقد الثقافي، بمعنى أنها تدرس البنية الثقافية للنصوص الوافدة، أي الأهداف الكامنة وراء النصوص، باعتبار الأدب أيديولوجيا، فتأخذ ما يتفق مع ثقافتها وما يختلف لكنه لا يضر، وترفض قطعًا ما هو دخيل هدام، فالاهتمام الأوحد لهذه الدول هو ثقافتها القومية.

 

وقد أسقط الأمريكيون شرط اختلاف اللغة في درس الأدب المقارن؛ لأن الأدبين الأمريكي والإنجليزي مكتوبان بلغة واحدة، وهي الإنجليزية. فليست اللغة وحدها من يحدد القومية، والواضح أن الأمريكيين أسقطوا هذا الشرط اعتزازًا بقوميتهم. إذن: الواعي هو من يسن القوانين، أو على الأقل يفرق بين الهدام والبنَّاء في سبيل المحافظة على قوميته وثقافته الوطنية.  

والحق أن إسقاط شرط اللغة أمر ضروي؛ فقد جعل الترجمة تلعب دورًا بارزًا في شيوع درس الأدب المقارن، وبالتالي عولمة الأدب، فيكفي الأديب التأثر بالنص المترجم من العمل الأدبي، ليمكن دراسة نصوصه؛ دراسة مقارنة. وهذا غير متاح بحسب شروط المدرسة الفرنسية، والتي جعلت اختلاف اللغة شرطًا أساسًا للدراسة المقارنة، وهو بلا شك يضيق دائرة هذه الدراسة، فيَلزم لها قراءة الأديب للنص بلغته الأم، ومن ثم يمكننا البحث في التأثير والتأثر. وهذا يعني أن الترجمة أتاحت تناقل النصوص من لغاتها الأم إلى قوميات مختلفة؛ فيسهل الاطلاع عليها وبالتالي التأثر بها. ولولا الترجمة لما تأثرت الآداب ببعضها بشكل كبير، مثلًا: حركة الترجمة في العصر العباسي كان لها أثر كبير في صقل الأدب العربي وتأثره بغيره من آداب العالم، ولولا الترجمة ما تمكن "دانتي" مؤلف "الكوميديا الإلهية" من الاطلاع على حديث المعراج المكذوب والتأثر به، ولما تمكن محمود درويش من الاطلاع على نصوص الهنود الحمر التي ترجمها صديقه صبحي حديدي، وكان لها الفضل الأول في كتابة رائعته" خطبة الهندي الأحمر". 

ونخلص إلى أن الترجمة ركيزة في شيوع درس الأدب المقارن، بل اعتُبرَ أن الأدب المقارن فرعٌ من الترجمة، بحسب الدكتورة سوزان باسنيت: "ينبغي علينا من الآن فصاعدًا أن ننظر الى دراسات الترجمة بوصفها الدراسة الأكاديمية الرئيسة، وإلى الأدب المقارن بوصفه فرعًا قيمًا من مجالات الدراسة بها" ( سوزان باسنيت: الأدب المقارن. مقدمة نقدية. ص181).

مما تقدم ندرك أهمية الأدب العالمي في إثراء الأدب القومي؛ فانفتاح الآداب والثقافات على بعضها له أهمية بالغة، ورغم ذلك يجب علينا ألا نفتح أبواب ثقافتنا العربية على الغارب، وينبغي التشريح الثقافي لكل النصوص الأدبية التي ترد إلينا من ثقافات أُخرى؛ لأن الأدب طريقة سهلة لتصدير ثقافات مسمومة هدامة باستغلال سطوة الجمال، ولهذا علينا التأمل مليًا في الأنساق الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية التي أنتجت النصوص الوافدة، أو بعبارة أخرى: التعمق في دراسة أفكار النصوص ومدى تأثيرها على ثقافتنا.