منذ أن تسلم جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، بدأت تظهر ملامح سياسته الخارجية المغايرة لسلفه ترامب، وبالرغم من أن تلك الملامح ما تزال أسيرة الدبلوماسية الخفية، إلا أنها تمتلك حالياً مفاعيل سحرية في منطقتنا، وعلى ما يبدو أن الدول الإقليمية (السعودية، مصر وتركيا)، بدأت بتطويع سياساتها مع مختلف القضايا الإشكالية لتتلاءم مع متطلبات الإدارة الأميركية الجديدة، والتي طالت عديد ملفات الصراع في المنطقة؛ ابتداءً بالملف اليمني، ومروراً بالملف الليبي والسوري وبرنامج إيران النووي، وليس انتهاء بملف المصالحة الخليجية، والذي يشهد انعطافة مفاجئة بمسار العلاقات الأميركية السعودية وممارسة الضغط الدبلوماسي الشديد على الرياض، والتي اتخذت بدورها بعض التغييرات الدراماتيكية لمجاراة تلك السياسة؛ سواء على الصعيد الداخلي (إطلاق سراح بعض سجناء الرأي)، أو على الصعيد الخارجي؛ محاولة تبريد العلاقات الخارجية مع مختلف الدول التي كانت تشوبها أجواء من التوتر والاضطراب.
وتعاني السياسة السعودية اليوم مأزقاً شديداً مرده اعتمادها السابق اعتماداً كلياً على إدارة ترامب، بحيث أهملت علاقاتها مع مختلف دول الإقليم لصالح، هذه العلاقة التي انتهت برحيل ترامب، وبقيت السياسات السعودية تواجه مخاطر نهجها، والذي يمكن تكثيفه بعنوان "ما مدى قبول الإدارة الأميركية الجديدة بولي العهد السعودي محمد بن سلمان؟"، حيث كان مثار نقاش وجدل لدى الإدارة الأميركية الجديدة، والتي حسمت أمرها بتصريحات المتحدثة الجديدة للبيت الأبيض جنيفر ساكي بأن "نظير الرئيس بايدن هو الملك سلمان"، وليس ولي العهد الأمير محمد بن سلمان؛ الأمر الذي يعكس تجاوز بايدن لمرحلة ترامب في العلاقة مع السعودية وطي صفحة الاهتمام، والدعم الأميركي الذي كان يحظى بها ولي العهد من ترامب.
وإلى الآن لم تفصح الإدارة الجديدة عن هذا الموقف، فيما يقود محمد بن سلمان دبلوماسية مكوكية مع الكثير من الدول العربية والإسلامية ليظهر نفسه في النهاية أنه من يقود الاوركسترا في المنطقة، حيث استقبل في الأسابيع الماضية الكثير من الزعماء من ماليزيا والأردن و السودان والبحرين وروسيا، وتم مناقشة الكثير من القضايا ذات الطابع السياسي والاقتصادي وإطلاق الوعود باستثمار مليارات الدولارات في الكثير من البلدان، ومع هذا، فإن مأزق بن سلمان يبدو أكبر بكثير من أن يُغطى باستثمارات مالية، وتلك المحاولات لم تعطِ أكلها مع الإدارة الأميركية الجديدة حتى هذا الوقت؛ فهي تفرق بين النظام السياسي في السعودية وشخص بن سلمان وتتعاطى بإيجابية مع النظام السياسي السعودي وتنتظر من بن سلمان أن يتفهم رؤية الإدارة الاميركية الجديدة قبل فوات الأوان، وأن بايدن ليس بوارد تجاهل ثقة الناخب الأميركي الذي أعطى صوته لشعارات "القيم الأميركية" من سيادة القانون والديموقراطية وحقوق الإنسان، ولن يكون باستطاعة إدارته تجاوز ما تنتمي إليه من شعارات، وهي تسير بعلاقاتها مع حلفاء في المنطقة يضربون عرض الحائط بكل منظومة القيم ومبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة، وبالتالي لم تتخلَ هذه الإدارة في خطاباتها وتصريحاتها عن معايير "القيم الاميركية" وهي تنسج علاقها مع السعودية، مما شكل عقدة منشار بينهما فلا الرياض تستطيع تلبية مطالب واشنطن ولا الإدارة الديمقراطية بصدد غض الطرف عن السعودية، وأن تفعل ما يحلو لها داخليا وخارجيا.
في مشهد كالسابق، يبدو أن واشنطن ستواصل الضغوط على محمد بن سلمان، بهدف "تضييق الخناق عليه وإخراجه من الحكم"، وربما يكون نشر تقرير استخباراتي أمريكي حول مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي أول الخطوات في هذا الشأن، ولكن في الوقت ذاته لن تعدم الوسيلة للتواصل معه وإبقاء الباب موارباً وستنشط بالتواصل مع دوائر سعودية مالية واقتصادية وأمنية وسياسية لفتح ثغرات من حوله؛ فالمصالح الأميركية في السعودية، والتي يتوجب الحفاظ عليها تفرض خيارات عديدة، سيما أن واشنطن أكدت مراراً وتكراراً استعدادها وجاهزيتها للحفاظ على أمن السعودية وسلامتها في وجه المخاطر والتهديدات الخارجية، حيث ستبقى الولايات المتحدة على ذات النهج الدبلوماسي في حلول بعض أزمات المنطقة من دون مراعاة الموقف السعودي، حتى وإن كانت الحلول تتعارض مع الحسابات السعودية، وفي هذا السياق عملت إدارة بايدن على تجميد صفقة أسلحة للسعودية تقدر بنصف مليار دولار، وتسعى لإيجاد حل تفاوضي للملف النووي الإيراني، بما يحمله من تأثيرات وتحديات إقليمية ودولية، وأيضا تصر على تفعيل المسار الدبلوماسي للأزمة اليمنية، وتأكيدها على استبعاد الحل العسكري لهذه الأزمة التي يراها الرئيس بايدن بأنها كارثة إنسانية أدت إلى مقتل أكثر من مئة ألف يمني، ونشر المجاعات والأوبئة ومبادرتها أيضا إلى رفع جماعة أنصار الله الحوثية من قوائم الإرهاب، وتفعيل التواصل غير المباشر معها، وفي الملف الليبي اجتمع الخصوم والأعداء برعاية الدول الإقليمية الداعمة لهم وفتحوا صفحة جديدة من العمل السياسي الذي أنضج حكومة وحدة وطنية، أما على صعيد ملف الحرب في سوريا، فقد انبثقت تصوراتٌ جديدة لقوى الإقليم الفاعلة في هذا الملف، والملاحظ هنا أن السياسة العامة للإدارة الأميركية الجديدة؛ تلتزم خطاً بيانياً واضحاً عنوانه تجميد تلك الحروب نهائيا.
وهنا يلاحظ أن معظم الدول أعادت موضعة سياساتها داخليًا وخارجياً في انتظار الإشارات الأميركية لها بفتح عصر جديد بعيداً عن التوترات والصراعات الدموية، بينما تبقى السعودية محط الأنظار، باعتبارها الدولة الأوفر حظاً على مستوى الجغرافيا السياسية وصاحبة الدور القيادي في الخليج والعالمين العربي والإسلامي والمصدر الأول للنفط والطاقة في العالم، لذلك من المرجح أن تنقشع غيمة التوتر بين السعودية وأميركا رويداً رويداً؛ بسبب المصالح المشتركة التي تجمع الطرفين من ناحية، ومن الناحية الأخرى يدرك البيت الأبيض أن ثمة جذور عميقة لابن سلمان في السلطة، وليس من المنطقي تجاهله، وبالمقابل لا يمكن للسعودية الاستغناء عن واشنطن كحليف دفاعي واستراتيجي، لهذا تتمحور مساعي بايدن؛ بإعادة ضبط العلاقة وتوظيف الضغوط على السعودية بما يتناسب وحجم التنازلات في ملفاتٍ إقليمية تصب في نهاية المطاف بمصلحة الولايات المتحدة الأميركية داخلياً وخارجياً.