(5-7)
عرض وتلخيص كتاب
(1876-1983)
(تأليف: باميلا آن سميث، ترجمة: إلهام بشارة خوري، دمشق – دار الحصاد للنشر – 1991)
يدرس هذا الفصل تجزؤ الفلاحين الفلسطينيين كطبقة، وتحولهم اللاحق في الشتات.
إخضاع اللاجئين 1948-1964:
دور الأمم المتحدة:
في كانون أول 1948 حثت الأمم المتحدة على "السماح للاجئين الذين يرغبون بالعودة إلى بيوتهم ليعيشوا بسلام مع جيرانهم في أقرب وقت مناسب، وإعطاء التعويضات المالية لمن لا يرغب بالعودة". ولكن رفض إسرائيل تطبيق هذا القرار وعدم قدرة الأمم المتحدة على تنفيذه ترك اللاجئين في حالة من الفوضى وعدم اليقين. بعد ذلك بعام أوصت بعثة المسح الاقتصادي التابعة للأمم المتحدة، والتي أُرسلت إلى المنطقة لتقييم الوضع، أنه في ظل الأزمة السياسية المستمرة، وعدم تحقيق العودة يجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تواصل تقديم التبرعات الطوعية للإغاثة حتى 1 نيسان 1950. وأوصت البعثة أيضاً بوجوب تأسيس وكالة خاصة للبدء ببرنامج الأشغال العامة والإغاثة المباشرة.
وقد قبل مجلس الأمن هذه التوصيات في كانون ثاني 1949 وأمر بتشكيل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين في أيار 1950.
هدف الوكالة، حسب تصريح الأمين العام، هو "تحويل اللاجئين من الاعتماد على الإغاثة إلى العمل المأجور، بما يخدم اقتصاد الدول التي تساهم في المشروع". أما التساؤلات السياسية المتعلقة بحل الصراع أو بقضايا مثل العودة أو التوطين والتعويض، فكانت خارج مهمات الوكالة، وتركت لهيئة مصالحة فلسطين التابعة للأمم المتحدة (UNCCP)، وهي هيئة أسست في كانون أول 1948 لفرض الالتزام بقرارات الأمم المتحدة.
شكلت توصيات البعثة والطريقة التي أُسست بها وكالة الغوث نقطة تحول حاسمة في مستقبل اللاجئين. فسيصبح اللاجئون عملياً تحت رحمة المؤسسات الخيرية الدولية، ومصدراً لليد العاملة الرخيصة في البلدان العربية.
ورغم أن الدول العربية – باستثناء الأردن – قد اعترضت على الطريقة التي عُرّفت بها مهمة وكالة الغوث وأصرت على ضرورة إعادة اللاجئين إلى وطنهم، وضرورة التعويض عليهم وليس العمل على اندماجهم في المجتمعات العربية الأخرى – كما عرّفت الوكالة بدورها – إلا أن هذه الاعتراضات لم تلق أية استجابة. أما لجنة المصالحة فتحولت، بسبب عدم قدرتها على الوصول إلى اتفاقية مع إسرائيل بخصوص إعادة اللاجئين، إلى مقر للثرثرة، وأصبحت مهمتها منذ عام 1950 تقتصر على وضع قوائم بالممتلكات العربية في إسرائيل والمناداة، بدون جدوى، بقبول العودة أو بدفع تعويضات للاجئين.
أما اللاجئون فقد اعتبروا توصيات الهيئة وتأسيس وكالة الغوث بمثابة خيانة مطلقة لحقوقهم وهويتهم كشعب مستقل. لقد شعر الشعب الفلسطيني بالطعن أكثر لأن الأمم المتحدة – وكان يسيطر عليها حينها حلفاء الحرب وهم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي – التي أمرت بتقسيم فلسطين أول الأمر قد جلست عاجزة وهي ترى الإسرائيليين يحتلون الأراضي التي كانت حسب قرار التقسيم تخص الدولة العربية الفلسطينية.
خرج اللاجئون في كل المنطقة إلى الشوارع للاحتجاج على خطة تجميع اللاجئين في الدول العربية المجاورة وللمطالبة بحقهم في مواصلة القتال ضد قرار التقسيم وضد خلق دولة صهيونية في فلسطين. في عام 1952 كان قد تشكل عدد من المجموعات السرية التي سعت إلى توجيه غضب اللاجئين نحو عمل سياسي وعسكري محدد يهدف إلى استعادة وطنهم. إحدى هذه المجموعات كانت منظمة معارضة السلام مع إسرائيل، وقد بدأت توزع جريدتها (الثأر) في المخيمات. هذه المنظمة كانت تابعة لحركة القوميين العرب، التي كان مركزها بيروت، وضمت في قيادتها عدد من الأطباء وطلاب الطب من اللاجئين أهمهم جورج حبش ووديع حداد وأحمد اليماني.
برغم مرارة حياتهم وصعوبتها، فقد كان تذمر اللاجئين من الحكومات العربية التي يعيشون تحت حكمها واضحاً، فقد اعتبروها المسؤولة عن مأزقهم وعن عدم تمكنهم من أخذ زمام المبادرة بأيديهم، خصوصاً في لبنان والأردن.
امتاز موقف الحكومات العربية المضيفة بخوفها من معركة أخرى مع إسرائيل قد يجرها إليها الفلسطينيون، وبيقينها أن اللاجئين الغاضبين بمقدورهم تهديد سيادتها على أرضها. وخلافاً للدول العربية الأخرى فقد تجلى هذا الوضع بشكل واضح في الأردن الذي رحب بقرار التقسيم وشن حملة سياسية وعسكرية ناجحة ضد إقامة دولة فلسطينية مستقلة في تلك الأجزاء التي لم تحتلها إسرائيل. وحسب شروط اتفاقية الهدنة التي وقعتها مع إسرائيل في ردوس في نيسان 1949، فإن حكومة الأردن توافق على "أن لا يقترف أي عنصر من قواتها البرية والبحرية والجوية... والقوات غير النظامية، أي عمل عسكري أو عدواني ضد القوات العسكرية وشبه العسكرية للفريق الآخر. وبموجب ذلك فرضت حكومة الأردن على جميع أولئك الذين يعيشون داخل حدودها – من الفلسطينيين والأردنيين- الالتزام بنصوص اتفاقية الهدنة، واحترام الحدود الدولية الجديدة.
وتدريجياً تم نزع سلاح المقاومة في الأردن رغم استمرار الغارات الإسرائيلية على اللاجئين والفلاحين الأردنيين، الأمر الذي دفعهم إلى التنفيس عن غضبهم في شوارع المدن الرئيسية، مما دفع النظام إلى قمع كل أشكال المعارضة السياسية.
وفي لبنان كانت القيود قاسية أيضاً، وهنا أيضاً كان الفلاحون المشردون هم الأكثر تأثراً بها. ومنعوا من الانتقال من مخيم إلى آخر أو من المخيم إلى المدينة، دون الحصول على إذن من السلطات الحكومية، وكانت أوامر منع التجول وحملات التفتيش أموراً شائعة في المخيمات.
ورأت الدولة ومنذ البداية خطورة أي اتصال بين اللاجئين وطائفة الشيعة الفقيرة في جنوب لبنان، إذ خافت أن ينضم الشيعة إلى الفلسطينيين في الضغط من أجل إحداث تغيير سياسي في لبنان*.
في قطاع غزة ترافق رفض حكومة الملك فاروق وحكومة عبد الناصر في أيامها الأولى السماح للاجئين بالسفر من القطاع إلى مصر مع رفضها السماح لهم بحمل السلاح للرد على الغارات الإسرائيلية على القطاع.
ولم يسمح عبد الناصر لبعض الفلسطينيين بحمل السلاح وشن غارات مضادة على الأراضي الإسرائيلية إلا بعد الهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزة في شباط 1955، والذي تبعته تظاهرات صاخبة استمرت ثلاثة أيام في القطاع كله ترافقت مع اعتداءات بالحجارة على مراكز الشرطة المصرية.
الظروف في سوريا كانت أفضل، فلقد أسست الحكومة منظمتها الخاصة باسم مؤسسة اللاجئين العرب الفلسطينيين (PARI) لتوفير الطعام والثياب والمسكن لللاجئين. وتم تزويد المخيمات التي تديرها المؤسسة بأجهزة تعليم وخدمات صحية واجتماعية أفضل من تلك التي تديرها وكالة الغوث.
ولكن مُنِع اللاجئون، تماماً كما في البلدان العربية الأخرى، من حمل السلاح حتى أواسط الستينات، ومنعوا أيضاً طوال هذه الفترة من ممارسة أي نشاط سياسي مثل تشكيل أحزاب أو تجمعات دون تصريح من الحكومة.
تفاقمت في كل البلدان العربية المجاورة، وبدرجة أقل في الضفة الغربية، الكراهية التقليدية بين المدنيين والفلاحين نتيجة الهجرة التي أدت إلى فصل الفلاحين عن مواطنيهم الذين نجحوا في إيجاد بيوت ووظائف في مدن بيروت ودمشق وعمان، وعند أقربائهم العرب الذين لم يبالوا بالفلاحين.
وعززت هذه الظروف التي شهدها الفلاحون في مخيمات اللاجئين التضامن الطبقي والروابط العائلية والقروية التقليدية فيما بينهم، والتي اُعتبرت أحد عناصر الاستمرارية والهوية في وقت تميز بالتفسخ الاجتماعي وعدم الاستقرار الجماعي(*).
أُجبر اللاجئون الفلاحون خلال سنوات النفي الطويلة على تغيير طريقة حياتهم بشكل لم يتصوره إلا قليل منهم. وكذلك وجد العديد منهم نفسه في هجرة ثانية عندما تقدم الإسرائيليون أكثر في الأراضي العربية، وبات وجودهم لعنة على الأنظمة العربية المحلية.
تشير الأرقام إلى أنه رغم الازدياد الهائل في عدد الفلسطينيين بين أعوام 1949 و 1979، وفي عدد الذين هم بحاجة إلى الإغاثة، فإن نسبة كبيرة من الفلاحين المهجرين تمكنوا من أن يعيلوا أنفسهم خلال فترة الثلاثين عاماً. والدليل المتوفر يشير أنهم حققوا ذلك من خلال إيجاد أعمال في أحد المجالات الثلاثة التالية:
1- في الزراعة، بشكل رئيسي كمحاصصين أو أُجراء أو عمال زراعيين.
2- في قطاع الخدمات، خصوصاً في مجال تجارة البناء.
3- في الصناعة، في المشاغل والحرف.
العمل الزراعي:
رغم أن الفلاحين شكلوا الأغلبية العظمى من الفلسطينيين الذين أجبروا على السعي للإغاثة بعد عام 1948، إلا أنه وبعد ثلاثين عاماً انخفضت النسبة المئوية للعاملين بالزراعة بشكل ملحوظ.
مهن البناء والصناعة:
في السنوات الأولى للهجرة كان مجال العمل الأساسي بالنسبة للاجئين المسجلين للإغاثة إلى جانب العمل في القطاع الزراعي، هو العمل في مشاغل وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين نفسها، حيث ترافقت حاجة الوكالة الكبيرة إلى كافة أنواع السلع والأدوات المنزلية الأساسية مع العوائد التي حصلت عليها الوكالة من الولايات المتحدة وبريطانيا وحكومات أوروبا الغربية، الأمر الذي مكنها من تشغيل مئات اللاجئين الذين يعيشون في المخيمات.
وظف النجارون لإنتاج أثاث المدارس ومكاتب الوكالة. أما الحذاؤون والخياطون وصانعوا الثياب فكانوا ينتجون ثياباً لتوزع على اللاجئين.
وكان صناع آخرون يصنعون العجلات والسلال المطاطية (من الإطارات القديمة) والحصر والصابون والقرميد. واستخدم عمال آخرون في مشاريع تعبيد الطرق لتمكين الوكالة من إيصال الإغاثة للمخيمات البعيدة، وفي إيصال أنابيب المياه والمجاري وفي بناء عدد من المدارس والعيادات الطبية والمكاتب. أما الشيء ذي الفائدة الأكبر فكان المدارس المهنية ومراكز التدريب التي أقامتها الوكالة أواسط الخمسينات.
خلافاً لوضعهم في سوريا، حيث حصل اللاجئون على تدريب مهني، أجبر اللاجئون في لبنان على قبول الوظائف المتدنية الأجور، لأنهم لم يستطيعوا أن ينافسوا العمال اللبنانيين المهرة، ولعدم تمكنهم من الحصول على أذون عمل.
في الأردن، من الواضح أنه في السنوات الأولى للهجرة وفّر تدفق رأس المال الذي دخل مع اللاجئين الأغنياء عدداً لا بأس له من الوظائف لسكان المخيمات في مجالات البناء والمواصلات. معظم الوظائف في حقلي البناء والصناعة كانت متوفرة في المدن الكبيرة، خاصة عمان واربد والزرقاء.
وفي قطاع غزة كان عدد العاملين في مجالات البناء والصناعة محدوداً جداً خلال الفترة ما بين 1948-1967.
بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 وجدت آلاف الأعمال في مجالات البناء والصناعة في إسرائيل إضافة إلى إقامة معامل الكونسروة وتغليف الخضار ومنتجات الألبان ومزارع الدواجن وورش الأدوات المعدنية التي تتطلب أيدي عاملة فلسطينية، وفي نهاية عام 1977 وصل عدد الفلسطينيين العاملين في الصناعة في المناطق المحتلة إلى 32 ألف عامل أي حوالي 16% من القوة العاملة الفلسطينية.
الهجرة واليد العاملة المهاجرة إلى دول الخليج:
إضافة إلى العمل في مجالات الزراعة والبناء والصناعة كان المجال الرئيسي للهرب من مخيمات اللاجئين هو الهجرة إلى منطقة محتاجة لليد العاملة. فقد ساعد النمو السريع في إنتاج النفط في العربية السعودية ودول الخليج في الستينات والسبعينات، واستيراد بعض الدول الصناعية مثل ألمانيا الغربية وكندا لليد العاملة في الفترة ذاتها، في فتح مجالات عمل أمام تلك القطاعات من الفلاحين الفلسطينيين الذين حصلوا على تدريب مهني. ومع حلول عام 1958 سمح فقط للفلسطينيين الذين يحملون مؤهلات علمية عالية مثل المهندسين والمخططين المدنيين والأطباء والمتخصصين باللغة الانجليزية والتربية بالهجرة إلى الخليج بأعداد كبيرة، أما العمال الفلسطينيون في مخيمات لبنان وسوريا والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة، فقد أغلقت الأبواب أمام هجرتهم.
بعد عشر سنوات أدى ارتفاع عوائد النفط إلى تخفيف القيود على الهجرة إلى الخليج، ووُظّف العمال الفلسطينيون الذين يحملون جوازات سفر أردنية أو وثائق سفر سورية أو لبنانية في مشاريع البناء وفي المستشفيات والمطابع والمغاسل والكراجات والمشاغل وفي المشاريع التي أسستها الدولة.
في نهاية السبعينات تبلورت شريحة جديدة من الطبقة العاملة الفلسطينية تميزت من جهة، عن أولئك الذين ما زالوا في المخيمات أو الذين يعملون في الزراعة، ومن جهة أخرى عن أولئك الذين حصلوا على إقامة دائمة بسبب تعليمهم العالي. لقد فضل هؤلاء العمال التخلي عن النشاط السياسي من أجل كسب المال.
* – محادثاتي مع نساء الفلاحين الشيعة مليئة بالإشارات إلى استغرابهن عندما سمعن من اللاجئين أن الجيش اللبناني لم يشارك بفعالية بالقتال في فلسطين عام 1948وبأن جيش التحرير العربي، كان ينسحب من أمام القوات الإسرائيلية المتقدمة بدل أن يدافع عن القرى العربية. انظر أيضاً نزال، ص20، 22-23، 40-41، 91-97، للحصول على أمثلة عديدة عن آراء اللاجئين. وكادر، ص301، وغابي، ص206-207.
* – وصف الكاتب الإسرائيلي اموس ألون دهشة الجنود الإسرائيليين عندما اكتشفوا قوة الروابط بعد أن دخلوا أكثر من مخيم في الضفة الغربية عام 1967 قائلاً: "لدى دخوله مخيماً للاجئين اكتشف جندي إسرائيلي شاب بأن سكانه منظمين ومقسمين إلى عشائر أو أحياء حسب البلد الأصلي لهم أو حتى حسب الشارع الذي عاشوا فيه في فلسطين قبل 1948.. بير السبع، زرنغا، الرملة، اللد، يافا الخ،" "المؤسسين الإسرائيليين والأبناء"، (نيويورك، 1972)، ص339، موجود في بركات، ص250. انظر أيضاً صايغ ، ص124-128. سرحان، ص101-103، وكراسة سرحان "الأطفال الفلسطينيون جيل التحرير"، مقالات فلسطينية عدد 23، مركز الأبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، (بيروت، 1970)، ص12-17.