الحلقات من (3 – 11)
القسم الأول : ما قبل نشوء النظر الفلسفي
الفصل الثاني : عهد ظهور الإسلام (610 – 632 م)
مُحمد وقريش :
محمد بن عبدالله نشأ يتيماً فقيراً رغم انتمائه لقريش، انه ينتمي إلى فرع من هاشم في قريش، هو فرع بني عبد المطلب جده لابيه، وبنو عبد المطلب هم أقل الفروع القرشية الهاشمية ثراء، لا سيما بيت أبي طالب عمه الذي احتضن سنوات صباه بعد مماة جده.
بدأ محمد حياته العملية باكرا "يرعى غنم اهله ويرعى غنم أهل مكة". ثم اشتغل لخديجة بنت خويلد، التي أصبحت زوجه الأولى، في قافلة تجارية لها تسير بين مكة والشام.
ويبدو أن حكاية اتصاله بالحنفاء حقيقية واقعة، بل ربما كان واحداً منهم.
نجد بعض الوضوح في اشارات المؤرخين إلى الصلة العضوية بين صاحب الدعوة الاسلامية وهذه الجماعة، اضافة إلى الآيات القرآنية التي تؤكد هذه الصلة وهي توضح ان الحنيفية دين ابراهيم، وانها الدين الحق. [2]
لقد وضح، منذ بدء الدعوة الاسلامية، ان صاحب هذه الدعوة يقف في المدى الزمني القريب، على صعيد اخر غير الصعيد الذي تقف عليه زعامة قريش بسيطرتها المادية، وهي الزعامة المتمثلة بكبار التجار والمرابين من اصحاب "الملأ المكي" واركان "دار الندوة".
وواضح من ذلك ان موقع الاسلام في حركة التغيير سيكون الموقع المؤثر في دفع هذه الحركة لصالح التقدم.
من هنا كان "رد الفعل" سريعاً بوجه محمد، وهو "رد فعل" لا يمكن ان لا نرى الواقع "الطبقي" في أساسه، وان كان صحيحاً القول بأن الانقسام الطبقي لم تكن قد نضجت ظروفه بعد. لكن معالم كينونته الأولى كانت تتنامى بوضوح في المجتمع المكي خصوصاً. [3]
فقد انقسم الناس في مكة، لدى اعلان الدعوة، فريقين:
فريق الاغنياء أي كبار اصحاب الاموال التجارية والمرابين ومالكي الارض في الطائف وذوي الامتيازات المتعلقة بالسيطرة على شؤون الحج والاسواق الموسمية.
وفريق الفقراء، أي المعدمين منهم والمستخدمين في الاعمال والرحلات التجارية والعبيد والموالي المضطهدين ذوي الاصول غير العربية.
لقد نادى محمد، منذ بدء الدعوة، بتسفيه من يكدسون الاموال وياكلون أموال اليتامى والمساكين ويمارسون الربا ويحتكرون مواد المعيشة، ثم تسفيه عبادة الاصنام وتعددية الآلهة.
فوجدت زعامة قريش ، في مضامين هذه الدعوة ، شبح انتفاضة اجتماعية وفكرية اذا هي انتصرت ستقضي ، أولاً، على المكانة الدينية الوثنية للكعبة من حيث هي جاذب استقطاب تجاري، ثانياً، على امتيازات الزعامة القرشية بما هي امتيازات اقتصادية وسياسية جوهرياً. [4]
تكاد تكون الآيات القرآنية التي ظهرت في العهد المكي الأول، أي قبل الهجرة الكبرى إلى المدينة، معنية بالكشف عن هذا البعد المعرفي المتعلق بمعرفة "ميتافيزيقاً" الاسلام كنظام متكامل تستقطبه فكرة التوحيد الآلهي، التي تشكل معنى وحدته الكونية ومعنى وحدته في مستوى التصور والوعي ، وفي أساس هذا النظام :فكرة الخلق. فان الكون، بجملته وتفصيله، مخلوق لله الواحد الأحد دون شريك. والخلق مسبوق بالعدم، أي أن الكون مخلوق من "لا شيء" وهذا معنى ان العالم حادث، أي غير قديم (غير ازلي). وكون العالم حادثاً يسلتزم ان المادة والحركة والزمان والمكان، حادثة ليس ازلية. وكل ما ليس ازلياً، هو غير ابدي، لان كل ما له بداية فله –بالضرورة- نهاية. كل الاكوان فانية اذن، فلا أحد ولا شيء خالد في الحياة الدنيا، ولكن فكرة الخلود باقية، فان لم يكن الخلود في هذه الحياة، فهو كائن في ما بعد الموت. في الحياة الثانية حيث يلقى كل احد جزاء ما عمل في حياته الأولى، ان خيراً فخير، وان شراً فشر.
ان عالمنا الأرضي، أي عالم الطبيعة المحسوس ، علينا ان نعرفه من مصدر المعرفة الآلهي (الوحي) هكذا: كان في ظلمات العدم ، فخلقه الله، وسيصير إلى ظلمات العدم: الفناء، لا ازلية ، ولا ابدية لعالم الطبيعة، ارادة الله هي الارادة المطلقة في خلقه وفنائه. [5]
ما موقف الاسلام من حرية ارادة الانسان في افعاله، ومن الاثر المترتب على هذه الحرية، وهو مسؤولية الانسان عن كل ما يصدر عنه من عمل أو سلوك؟
ليس في النصوص – الاصول (القرآن والسنة) موقف مطلق أو محدد، فان الدلالات الظاهرة للنصوص الخاصة بهذه المسألة تتردد بين الموقف الايجابي والموقف السلبي، أي بين القول بحرية ارادة الفعل او الترك للانسان والقول بنفي هذه الحرية وربط كل فعل للانسان بالارادة المنبع لكل الارادات في الكون.
نقرأ مثلاً ، في النصوص القرآنية ما يدل دلالات هذه الآيات:
- "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره". (سورة الزلزلة، الآية 7)
- "من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها". (سورة الجاثية، الآية 15 – وسورة فصلت، الآية 46)
- "فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر". (سورة الكهف، الآية 29).
ان ظاهرة النص في الآيتين الأوليين صريح بأن على كل انسان ان يتحمل مسؤولية عمله، ان خيراً وان شراً، صغيراً كان ام كبيراً. وانه لواضح ان منطق المسؤولية هذه يقضي بأن يكون مفهوم الفعل البشري مرتبطاً بمفهوم حرية الفعل.
وقد جاء نص الآية الثالثة يؤكد بظاهره هذا الاستنتاج ، فهو يدع الايمان والكفر رهناً بمشيئة من يؤمن ومن يكفر من الناس.
لكن ، مقابل امثال هذه النصوص، نقرأ نصوصاً قرآنية أخرى يختلف منطق ظاهرها عن منطق الدلالات الظاهرة للآيات الثلاث السابقة.
فلنقرأ الآن هذه الآية، مثلاً: "فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام، ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" (سورة الانعام).
هذا التعارض في ظاهر الآيات رصد له علماء المسلمين الاقدمين كثيراً من الجهد. [6]
اذا ارجعنا تحديد الموقف هنا إلى وضع مسألة المعرفة في علاقة مع الايمان الديني، لزم عن ذلك ان نستنتج كون الاسلام يحصر المعرفة بمصدر واحد، هو المصدر الالهي، أي الغاء قدرة العقل، أو أي ادراك بشري، على تحصيل المعرفة. وذلك لان دعوة الاسلام قائمة على ان مصدرها الوحي الآلهي. فالعقيدة والشريعة مصدرهما الوحي. ومعرفة العالم، كما يقدم الاسلام تفاصيلها، مصدرها الوحي أيضاً.
فاذا كانت هذه المعرفة الهيَّة المصدر، ووحيدة المصدر، فالمؤدى اللازم عن ذلك هو ان كل ما يتعلق بمعرفة أصل العالم ومسائل الوجود وقوانين الطبيعة والمجتمع والفكر، مرجعه ومصدره غير الجهاز الادراكي الذي يتمتع به الانسان، وغير علاقات هذا الجهاز مع العالم المحسوس. واذا كان الأمر كذلك، فان مقتضى الايمان بالدعوة الاسلامية، اذن، ان نتلقى هذه المعرفة بالتسليم المطلق، أي دون أن يكون لنا الحق، ولا القدرة على الجدل في شيء من ذلك، لان الجدل يتضمن الشك. والايمان يتناقض مع الشك. [7]
الاستنتاج الأولي من كل ما تقدم ان الجدل الفكري مرفوض في الاسلام.
وان جادلوك فقل : الله اعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة في ما كنتم تختلفون" (سورة الحج)، ويسألونك عن الروح. قل: الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم الا قليلا" (سورة الاسراء) ".. وما يعلم تأويله الا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به . كل من عند ربنا.." (سورة آل عمران).
فما دلالة هذا الحديث؟. انه يدور على مسألة القضاء والقدر. أي مسألة حرية ارادة الانسان أو جبريتها. و"سراقة" في الحديث هو من الصحابة، انه يسأل النبي: انعمل عملنا بما هو محكوم علينا ان نعمله، أي بما كتبته اقلام الغيب ثم جفت، بمعنى انها حسمت الأمر اذ اعطت الحكم النهائي علينا.. ام نعمل بما نختاره نحن بارادتنا في ما يستقبل من حياتنا؟, فيجيب النبي : لا ، انما تعملون بما كتب عليكم وبما صار قدرا من اقداركم. فكل منكم ميسر لما خلق له، أي محكوم بما فرض عليه، باصل الخلق، ان يعمله. وليس لكم الا ان تعملوا، دون أن تسألوا ، وسيلقي كل عامل جزاء عمله. [8]
ونخرج من هذه الدلالة بان علم كل شيء مرجعه إلى ما خطه قلم القدر الالهي، ولا مكان للجدل.
العامل الايماني : اننا هنا امام علاقة المعرفة بالايمان، وهي العلاقة الآتية من المفهوم الاسلامي لمسألة المعرفة، أي المفهوم الذي يحصر معرفة العقيدة والشريعة في المصدر الآلهي. وقد جاء التعبير الحاسم عن هذا المفهوم في خطبة النبي عند غدير خم وهو عائد من حجة الوداع، اذ قال: "اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا" (سورة المائدة).
جاءت هذه الآية، على لسان النبي، بصورة خطاب من الله إلى المسلمين، تخبرهم ان الدين الذي بلغه النبي قد اكتمل، وتمت بذلك نعمة الله عليهم، أي نعمة الاسلام : عقيدة، وشريعة.
ان الاكمال والاتمام في هذه السياق، كما في كتب التفسير، يعنيان ان كل ما جاء به الاسلام من عقائد وشرائع، انما هو امر نهائي، يؤخذ كما هو لا يتبدل ولا يتغير.
ان ذلك يعني ان معرفة العقيدة والشريعة يتلقاها الناس كاملة تامة بتسليم ايماني مطلق. واذا كان للناس حق الجهد في تحصيل معرفة ما، بمداركهم، فذلك ينحصر في كيفية فهم النصوص الحاملة تفاصيل العقيدة والشريعة.
لكن حتى هذا الحق مقيد بما يأتي من علم بهذا الشأن عن المصدر الآلهي، وان بوساطة النقل عن النبي بأسانيد مرجعها علماً الحديث والرجل (أي رواة الحديث).
ومما يرد في هذا السياق، تأييداً لذلك، تفسير المفسرين لكلمة "الحكمة" في القرآن الكريم. فهي تترد فيه بكثرة.
ونحن نعرف ان هذه الكلمة كان لها في الجاهلية معنى يتصل بنوع من "النظر العقلي"، البسيط المستفاد من المعرفة المباشرة للاشياء ومن استخلاص الاحكام العامة من التجارب الشخصية. أي ان الجاهليين كانوا يرون "الحكمة" في اخذ المعرفة من المحسوسات واعتمادها وسيلة للتفكير، وان بأدنى درجة من درجات التفكير. اما في القرآن فماذا تعني لمة "حكمة"؟.
روى ابن عبدالبر (-463 / 1070م) في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" عن مالك انه يفسر الحكمة في كثير من آيات القرآن بالفقه في دين الله والعمل به.
والطبري في تفسيره الآية: "واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة" (سورة الاحزاب) يقول من "الحكمة" تعني "ما اوحي إلى رسول الله من أحكام دين الله ولم ينزل به قرآن، وذلك هو السنة".
وبصدد تفسير الآية: "يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" (سورة البقرة) قال ابن عباس ان "الحكمة معرفة الاحكام من الحلال والحرام".
"الحكمة"، بناء على هذه الاقوال والتفاسير، تنحصر -اذن- في المعرفة الحاصلة بالتلقي، أي معرفة الدين: عقيدة وشريعة. أي اننا لا نجد في معاني "الحكمة" هنا ذلك المعنى الذي هو تحصيل المعرفة بعمل من العقل لدى تعامله مع الاشياء، أو لدى استنتاجه الافكار والمفاهيم من هذا التعامل اعتماداً على طاقته اجهزته الادراكية.
من كل ذلك نخرج بفكرة ان علاقة المعرفة بالايمان هي المرجع في فهم الحدود المقررة لمسألة المعرفة في الاسلام. [9]
العامل الاجتماعي: هنا لابد من العودة ثانية إلى البعد المعرفي لقضية التوحيد.
ان تعمق النظر في قضية التوحيد. بمفهومها الاسلامي، من مختلف جهاتها وابعادها التاريخية، يضعنا امام ضررة النظر في أساس العلاقة بين عقيدة الاسلام وشريعته، أي في الاساس الاجتماعي لهذه العلاقة.
فالتوحيد بوجهه الايماني لا ينفصل عن التوحيد بوجهه الاجتماعي، لان تطابقهما شرط وجودهما. الذي كان لابد ان يخرج آنذاك، من اطاره التجزيئي القبلي. ربط المعرفة بالمصدر الآلهي على نحو الحصر، كان هو البعد المعرفي لقضية التوحيد. [10]
هذه الشهادة صريحة بان المعرفة معطى من الله للانسان، وليست تحصيلاً وكسباً يجهد له عقل الانسان.
".. انما مقصوده -أي علم الكلام- حفظ عقيدة السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة. فقد القى الله تعالى إلى عباده، على لسان رسوله، عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والاخبار – يقصد الحديث النبوي- ثم القى الشيطان في وساوس المبتدعة اموراً مخالفة للسنة، فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فانشأ الله طائفة المتكلمين وحرك دواعيهم لنصرة السنة الخ...".
هذا الكلام للغزالي لا يكتفي باعتبار العقائد الاسلامية ملقاة من الله "على لسان رسوله"، بل يتجاوزه إلى القول بان "وساوس المبتدعة" القاها الشيطان اليهم، وان المتكلمين انشأهم الله وحرك دواعيهم لنصرة السنة. أي انه حتى المعرفة العقلية، والمعرفة الفلسفية بخاصة، عند المتكلمين والفلاسفة، تأتيان الانسان بالتلقي من خارج عقله ومداركه، فمصدرها: أما الله وأما الشيطان!.. وابن خلدون أيضاً فهم مسألة المعرفة في الاسلام على هذا النحو، اذ يقول ان "العقل معزول عن الشرع وانظاره". [11]
يلفت النظر، في هذا المجال، ما لحظه الباحثون والمؤرخون لعلم الكلام من أن "المتكلمين" في عصر ازدهار هذا العلم، وان كانوا قد اتفقوا على أن "علم الكلام" يعتمد النظر العقلي في أمر العقائد الدينية، قد اختلفوا في أن هذا العلم: هل يثبت هذه العقائد بالبراهين العقلية كما يدافع عنها ، ام تقتصر مهمته على دحض الشبهات عن العقائد الايمانية الثابتة بالكتاب والسنة؟.. ويلحظ هؤلاء الباحثون والمؤرخون ان منشأ هذا الخلاف "يرجع إلى الخلاف في ان العقائد الايمانية ثابتة بالشره (أي بالوحي) انما يفهمها العقل عن الشرع ويلتمس لها، بعد ذلك، البراهين النظرية، ام هي ثابتة بالعقل، على معنى ان النصوص الدينية قررت العقائد الدينية بأدلتها العقلية؟"
حتى في عصرر ازدهار النظر العقلي على أيدي "المتكلمين"، نرى هؤلاء "المتكلمين" انفسهم – رغم ما كان لهم من فضل في تثبيت النظر العقلي على أرض صلبة – قد ظلوا أسرى المفهوم الأول لمسألة المعرفة. فنحن نراهم، حسب الملحوظة السابقة، لا يزالون يتقيدون باحد الامرين: اما "بأن العقائد الايمانية ثابتة بالشرع وانما يفهمها العقل بالشرع"، واما بان هذه العقائد "ثابتة بالعقل على معنى ان النصوص الدينية قررت العقائد الدينية بأدلتها العقلية"، أي انه حتى الموقف الثاني الاخير يضع المسألة على وجه يظهر منه ان الادلة العقلية ذاتها مقررة سلفاً من قبل النصوص الدينية. [12]
ينبغي التفريق بين موقفين للاسلام والمسلمين في مسألة المعرفة: موقف تجاه امور العقيدة الايمانية، وموقف تجاه الامور التشريعية من حيث استخدام النظر العقلي.
الواقع انه كان هناك بعض الفرق بين الموقفي. ففي حين تركوا مسائل العقيدة الايمانية للتلقي عن الوحي الآلهي دون جدل ودون نظر عقلي مستقل، نلحظ انهم استخدموا النظر الاجتهادي في أمور التشريع إلى حد ما. وهو نظر عقلي من بعض وجوهه.
هذا الفرق بين الموقفين حدده ابن عبد البر بقوله : "ونهى السلف- رحمهم الله- عن الجدال في الله ... وفي صفاته. واما الفقه (علم الشريعة) فقد اجمعوا على الجدال فيه والتناظر، لانه يحتاج فيه إلى رد الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك. وليس الاعتقادات كذلك، لان الله ... لا يوصف عند الجماعة (أهل السنة) الا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله.. واجمعت عليه الأمة".
نواة "نظرية المعرفة" في القرآن؟
على أن لمسألة المعرفة في الاسلام وجها اخر يمكن اعادة النظر خلاله في الاستنتاجات السابقة، او يمكن التسليم خلال بمقولة ابن حزم من ان المعرفة اكتسابية، في الاسلام. هذا الوجه لفت النظر اليه باحث عربي معاصر فهو يعود إلى الآيتين:
- "...والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون" (سورة النحل).
- "افلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، وآذان يسمعون بها.." (سورة الحج).
يقول الباحث ان هاتين الآيتين وامثالهما "تبين ان في الانسان قوى مدركة للاشياء، وان من هذه القرى: السمع والبصر والقلب، أي العقل وان المعرفة الانسانية تعتمد على هذه القوى ، أي انها اكتسابية. ففي القرآن اذن توجد نواة نظرية المعرفة التي سنراها مفصلة في ما بعد عند الفلاسفة". [13]
صحيح أننا نجد في القرآن الكريم اعتماداً واضحاً، في تحصيل المعرفة الحسية، لكن السياق الواردة فيه تلك الآيات هو الذي يحدد مضمونها ودلالاتها. فان هذا السياق القرآني يدل ان المطلوب من المعرفة الحسية التي تؤديها القوى المدركة المذكورة، هو ان تقدم للعقل من مشاهد الكون وظاهراته العظيمة المحسوسة ما يدعم الايمان الديني ويثبت العقائد الايمانية التي يدعو اليها الاسلام كعقائد متلقاة بوساطة الوحي الآلهي.
لكن، إلى أي مدى يسمح للعقل ان يذهب في اكتساب المعرفة بنفسه؟. ان كون مسالة المعرفة في الاسلام مقيدة بحدود معينة غير مسموح للعقل بتجاوزها، هو مما يجعل مسألة "تمجيد العقل" في القرآن، و"تزكيته في أحاديث الرسول" ، مسألة محدودة الافق كذلك. من هنا يمكن مناقشة القول بأن السبب الوحيد في عدم امكان طمس "الفكر العقلي في الحضارة العربية الاسلامية" انما "يعود إلى منابع الاسلام الأولى، الى القرآن الكريم"، وان الفكر العقلي "لو كان موقفاً عارضاً واثرا من اثار التفاعلات التي اكتسبتها الحضارة العربية بمزاملة غيرها من الحضارات، لكان من الممكن طمس هذه القسمة او زحزحتها من الميدان، ولكن ارتباطها العضوي بالمصدر الأول المقدس للفكر الاسلامي، بالقرآن، ثم تزكية الرسول للعقل في كثير من الاحاديث... كل ذلك قد جعل من الفكر العقلي، ومن ثم الفلسفي، قسمة اصيلة في الحياة الفكرية يمكن ان تتراجع حينا من الدهر وتتخلف حقبة من الزمن، او يصيبها الجزر فترة من الفترات، ولكنها تستحيل على الاقتلاع والزوال". [14]
الكتابة كانت نادرة حينذاك في الجزيرة، ولكنها كانت موجودة. وعند هجرة النبي وصحابته إلى المدينة كان سبعة عشر رجلاً وثلاث نسوة يعرفون الكتابة بين المسلمين ومنهم الذين عرفوا باسم "كتبة الوحي" وبينهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وزيد بن ثابت. وبعد انتصار الاسلام في معركة "بدر الكبرى" ضد قريش، كان عدد من الاسرى في الغنائم ، فأعلن محمد تشريعاً يقضي بأن كل اسير يعلم عشرة من أهل المدينة الكتابة ينطلق من الاسر بعد ان كانت تقاليد الجاهلية تجعل المال هو الفدية الوحيدة للفكاك من الأسر. [15]
الاستنتاجات الآتية:
- ان الاسلام، في جوهره ومحتواه الواقعي، بل في شكله الديني ومفاهيمه الميتافيزيقية والمثالية كذلك، كان استجابة موضوعية، مباشرة حينا وخفية حيناً، لما كان يقتضيه مجتمع الجاهلية من تغيير تاريخي. ولما كان يعانيه من تناقضات حادة في مكان (مكة مثلاً)، وغير حادة في أكثر من مكان (البيئات البدوية غير المستقرة)، وهي تناقضات تلتقي كلها تقريباً عند القاعدة المادية لها، وان تباعد بعضها عن بعض من حيث مظاهرها واشكالها الاجتماعية والروحية والفكرية. وقاعدتها المادية هذه هي مظاهر التفكك في النظام القبلي بسبب من انهيار الاقتصاد الطبيعي وشيوع التعامل التجاري والنقدي والربي وبروز ظاهرات من التمايز والتفاوت الاجتماعي بين الاغنياء والفقراء، أي بين كبار التجار والمرابين ورؤساء القبائل وبين صغار التجار والحرفيين والمستخدمين والمعدمين والمدينين بالربا الفاحش وافراد القبائل.
- ان مبدئي التوحيد والقيامة اللذين دارت عليهما عقيدة الاسلام بالأساس ، ينطوي وراء مفهوميها الغيبيين جذر اجتماعي، فاذا كان مبدأ التوحيد يعني، بشكله الديني، وحدة الآله الخالق للكون ، ثم وحدة الدين. فاننا نستطيع ان نلمح في فكرة التوحيد انعكاساً قد يكون خفياً لفكرة التوحيد الاجتماعي، توحيد المجتمع القبلي المتفرق على أساس جديد وليكن هذا الاساس دينياً. فالمهم ان التفكك والانحلال اللذين كان يعانيهما النظام القبلي عند ظهور الاسلام، كانا يتطلبان توحيد مختلف الاطر القبلية ضمن اطار الدين الواحد الذي كان يعني اجتماعياً: اطار الشعب الواحد.
واذا كان مبدا القيامة بمفهومه الديني، وجود عالم اخر وراء عالمنا المادي، فهو يحمل بصورة تكاد تكون مباشرة وعدا للمحرومين والمظلومين اجتماعياً بأنهم سيجدون في ذلك العالم الاخر بديلاً عن الحرمان والظلم وعزاء عن واقعهم السيء، ويحمل مع ذلك تهديداً لظالميهم بالعذاب الاخروي. لكن قوى الاضطهاد الاجتماعي كان يمكن ان تستفيد من احالة العدالة إلى الآخرة. [16]
- المبدأ الاساس لتشريع الاسلام هو اقرار التمايز الاجتماعي. هذا التحديد جاء في القرآن حينا يقول بحرية الانسان في افعاله ، ويقول حينا بالجبرية.
رأينا أن الجدل العقلي لم يكن مقبولاً لدى النبي ، بل لقد كان مبغوضاً عنده، فكان يدعو إلى تجنبه، ولا سيما الجدل في العقائد.
- وكان لابد لنا، وقد رأينا "نظرية" المعرفة في الاسلام محددة بالمصدر الآلهي، من ان ننظر في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعوو إلى استخدام العقل، وتمجد نعمة العقل. وهنا لحظنا ان سياق هذه النصوص يحصر قيمة العقل في نطاق ما يستطيع ان يقدمه من دعم للمعرفة الايمانية الدينية.
فلاحظنا شيئاً من الخمود اصاب الشعر العربي، مع ازدهار الخطابة، وعللنا هذه الظاهرة بمحاربة الاسلام للشعر لتحويل الانظار إلى الأسلوب القرآني الرفيع المستوى اضافة إلى محتواه العقدي والتشريعي. [17]
الفصل الثالث : عهد الخلفاء الراشدين (632 – 661 م)
أ- انفجار الصراع الاجتماعي – السياسي:
مات محمد بن عبدالله، صاحب الدعوة الاسلامية، عام 632م في المدينة، بعد اثنين وعشرين عاماً من قيامه بأمر الدعوة، قضى منها الثلاثة عشر الأولى في مكة، وقضى الاعوام الاخيرة منها في المدينة بعد الهجرة، والمعروف انه ولد عام 570م ، فيكون قد عمر اثنين وستين عاماً.
كان موته صدمة عنيفة فاجأت المسلمين بعامة، ممن كانوا ينظرون إلى محمد، كنبي، نظرة ترفعه إلى ما فوق طبيعة البشر ، بمعنى انه لا يمكن ان يتعرض للموت كما يتعرض له البشر.
ولعل عمر بن الخطاب عرض له مثل هذه النظرة في لحظات المفاجأة. فهو مذ رأى الناس يبكون محمداً سارع إلى منبر المسجد خطيباً، فقال: "لا اسمعن احداً يقول ان محمداً قد مات. ولكنه ارسل اليه كما ارسل إلى موسى بن عمران، فلبث عن قومه اربعين ليلة.. والله اني لارجو ان يقطع ايدي رجال وارجلهم يزعمون انه مات.
ثم جاء ابو بكر وعمر يخطب الناس، فقال له أبو بكر: اسكت، فسكت. فصعد ابو بكر المنبر، فقال: "اما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً فان محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فان الله حي لا يموت"، ثم تلا الآية: "وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، افان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم..". فقال عمر: اهذا في كتاب الله؟. قال أبو بكر : نعم . [18]
وفي رواية ان عمر بن الخطاب قال بعد سماع هذه الاية من ابي بكر : والله ما هو الا ان سمعت ابا بكر يتلوها، فعقرت وانا قائم حتى خررت إلى الأرض، وايقنت ان النبي .. قد مات.
حدثت هذه الهزة رغم ان محمداً لم يخدع الناس عن حقيقة شخصيته البشرية.
لكن الصورة التي انطبعت في نفوسهم واذهانهم عن صلته بالوحي الآلهي، كانت قد بذرت فيهم بذرة الوهم بان للنبي طبيعة تتسامى عن طبيعة البشر.
غير أن تلك المواجهة الجريئة الحازمة من أبي بكر قد حسمت الموقف، وردت إلى حظيرة الواقع أولئك الذين كانوا مستسلمين للوهم.
ما ان اعلن موت النبي، حتى تنبهت لدى كبار الصحابة من المهاجرين والانصار، نوازع الصراع على السلطة.
تنبهت هذه النوازع فوراً، قبل ان يشيع جثمان النبي إلى مرقده الاخير في المدينة.
وعلى الفور كذلك قسمت هذه النوازع صحابة النبي فريقين: فريق المهاجرين، أي المكيين، وفريق الانصار، أي أهل "المدينة" وصار كل فريق يريد ان تكون له سلطة الخلافة بعد النبي.
بهذا الانقسام ظهرت "فجأة" إلى السطح رواسب الصراع القديم بين مكة والميدينة.
وظهرت إلى السطح – من جهة ثانية- المشاعر الطبقية الجنينية التي كان يتحسس بها الانصار من قبل، حيال المهاجرين، دون ان تظهر صراحة في عهد النبي. [19]
ذلك انه في أوائل الهجرة نظمت في "المدينة" مؤسسة اسلامية اشبه "بالمشاعية" قامت على أساس كونها منظمة فوق القبلية، وكون الاسلام -كدين- هو اطار هذه الوحدة الجامعة.
غير ان المؤسسة الاسلامية هذه التي نشأت في "المدينة" عقب الهجرة، ظهر فيها تمايز ملحوظ بين المهاجرين والانصار. فقد كان المهاجرون هم الفئة الأولى البارزة فيها، سواء من حيث اختصاصهم بالقسم الاكبر من غنائم الحرب، ام من حيث رجوع قيادة المؤسسة إلى زعمائهم، لا سيما ابو بكر وعمر بن الخطاب اللذان كان يبدو انهما يؤديان الدور الأول في قيادة شؤن المؤسسة.
من هنا داخل نفوس زعماء الانصار، وهم أهل البلد الاصليون، نوع من الشعور بالخيبة في ما كانوا يرجون من دعوتهم محمداً وصحابته المكيين للهجرة إلى بلدهم ونصرة الدعوة الاسلامية.
وقد حملوا هذا الشعور وكبتوه مدة حياة محمد في "المدينة"، ثم ما ان نادى المنادي بأن محمداً قد مات. حتى سارع هذا الشعور المكبوت للظهور إلى السطح.
اضافة إلى ذلك، حدث انقسام اخر بين المهاجرين انفسهم في الوقت ذاته. فقد تنبهت كذلك رواسب الفوارق القديمة في الجاهلية بين بني هاشم الذين ينتمي اليهم النبي، وصهره وابن عمه على بن أبي طالب من جانب، وبني عبد شمس وتيم واميه وغيرهم، الذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين ومنهم ابو بكر وعمر بن الخطاب من جانب آخر، اذ كان الغالب من بني هاشم يمثل الفرع الفقير بين الفروع الاخرى العليا في قريش بمكة في الجاهلية، فكان طبيعياً ان يفكروا الان، وقد فقدوا بموت النبي مكانتهم التي كان هو -أي النبي- تعبيرها وتجسيدها الاعظم، بل هو الذي خلق معناها الاسمى، بان يستبقوا هذه المكانة لهم عن طريق علي بن ابي طالب صهر محمد وابن عمه والذي ناضل دونه ببطولة في حروبه ضد زعماء مكة بعد الهجرة، وبات في فراشه ليلة خروجه – أي خروج محمد- من مكة مهاجراً إلى المدينة لكي يتلقى عنه المكيدة التي كان الفرشيون قد دبروها تلك الليلة ليقتلوا محمداً في فراشه قبل خروجه من مكة.
كيف انفجر الصراع:
من كل هذه العوامل انفجر الصراع فجأة منذ اللحظة الأولى لموت النبي، والملحوظ هنا ان القوم لم يستطيعوا اخفاء الدوافع الحقيقية، السياسية والاجتماعية، لهذا الصراع تحت ستار من المظاهر الدينية. [20]
يبدو ذلك واضحاً من الصورة التاريخية الصريحة التي يرويها المؤرخون الاسلاميون انفسهم على النحو التالي الذي ننقله بايجاز:
في حين كان علي بن أبي طالب. والعباس بن عبد المطلب عم النبي، واسامة بن زيد احد الصحابة، مشغولين في غسل جثمانه وتكفينه، ثم حمله إلى مدفنة قرب غرفته التي مات فيها ببيت زوجه عائشة، كان منادي "الانصار" ينادي في "المهاجرين" قائلاً: "اجعلوا لنا في رسول الله نصيباً في وفاته، كما كان لنا في حياته".
فبدا -أول الأمر- ان ذلك لا يعني أكثر من انهم يريدون المشاركة في عملية الدفن ، ولذلك بادر علي بن أبي طالب بدعوة احد الانصار، وهو أوس بن خولي، ان يشارك في النزول معهم إلى القبر لدفن النبي.
ولكن سرعان ما ظهر انه بينما علي بن أبي طالب يدعو صاحبهم أوس اذا بزعماء الانصار هؤلاء يعقدون اجتماعاً في "سقيفة بني ساعدة"، ثم يعلنون امارة المسلمين -أي الخلافة- بعد محمد لزعيم الخزرج الانصاري: سعد بن عبادة.
فبلغ الأمر ابا بكر وعمر بن الخطاب وبعض المهاجرين، فجاءوا مسرعين إلى حيث يجتمع الانصار، وشق أبو بكر طريقه إلى صدر الاجتماع وخطب في المجتمعين قائلاً: "يا معاشر الانصار!. منا رسول الله، فنحن احق بمقامه". فأجاب الانصار: "منا امير ومنكم أمير". فقال أبو بكر: "منا الامراء، وانتم الوزراء". واحتدم الجدال بين الفريقين: المهاجرين، والانصار، حتى كادت الفتنة تشتعل بينهم، لولا ان انقذ الموقف واحد من زعماء الانصار: ابو عبيدة الجراح. اذ تقدم إلى ابي بكر وبايعه بالخلافة فانقاد الانصار لرأي أبي عبيدة الحاسم، واصبح أبو بكر أول خليفة من الخلفاء الاربعة للنبي بعد وفاته، ابو بكر من بني تيم، ثم عمر بن الخطاب من بني عدي، ثم عثمان بن عفان من بني أمية، ثم علي بن أبي طالب من بني هاشم، وكلهم من المهاجرين.
غير ان الصراع لم ينحسم، فعلاً، بذلك. فقد كان بنو هاشم – وهم آل محمد- غائبين عما حدث في "سقيفة بني ساعدة" ، فلما علموا بالأمر ثار بهم الغضب، وقدم بعضهم إلى حيث حدث الأمر، ووقف احدهم، عتبة بن ابي لهب، ينشد شعراً يمدح به علياً بن ابي طالب وكأنه يرشحه للخلافة دون غيره، داعياً إلى كونه -أي علي- هو صاحب الحق وحده بالخلافة. [21]
ويقول اليعقوبي (-284 ه – 897م) ، ان عليا بن أبي طالب بعث إلى عتبة هذا ينهاه عن دعوته التي اعلنها . ولكنه – أي علي- تختلف عن مبايعة أبي بكر ومعه جماعة من بني هاشم وبني امية.
ويبدو ان فريقاً من الغاضبين ذهب إلى علي بن أبي طالب يريدون مبايعته بالخلافة، فطلب اليهم ان يرجعوا اليه في الغد وقد حلقوا رؤوسهم، فلما كان الغد لم يحضر منهم سوى ثلاثة نفر.
صحيح ان علياً بن ابي طالب تعاون مع الخليفة الأول ابي بكر ، وتعاون مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وصحيح قبل هذا ان الانصار انقادوا لكبيرهم ابي عبيدة، لكن الصراع بقي كامناً أول الأمر، ثم ظهر واحتدم احتداماً دموياً حيناً، وفكرياً وأيديولوجياً حينا. غير انه صراع ايجابي تاريخياً، فهو – من جهة أولى- كان ضرورة يقتضيها قانون حركة التطور الاجتماعي. وهو -من جهة ثانية- كان مصدراً خصباً لنشوء حركات فكرية أصبحت، فيما بعد، من مكونات حركة تطور الفكر العربي – الاسلامي، ولا سيما الفكر الفلسفي منه.
وبالرغم من ان الصراع كان مسوقاً بدوافع اجتماعية – سياسية غير خفية، قد اتخذ شكله الديني، لان هذا هو الشكل التاريخي له موضوعياً في ذلك العصر. ومن هنا تحول ظاهر الصراع من كونه صراعاً بين المهاجرين والانصار على السلطة، إلى كونه صراعاً بين الهاشميين وسائر الفرقاء على من هو صاحب الحق الديني في الخلافة.
ان مسألة "الحق الديني" هذه كان لها دور في نشوء محور اخر للنزاع يرتبط بتحديد المفهوم الاسلامي للخلافة: هل هي حق آلهي، وهل منصب الخليفة منصب آلهي محضاً ، كشأن مفهوم النبوة والنبي عند المسلمين. [22]
ومعنى ذلك انه واجب على الله ان يختار شخص الخليفة، كما يختار شخص النبي، لمؤهلات خاصة به لمتابعة اداء الرسالة ، واهمهما ان يكن الخليفة افضل الناس واعلمهم. وبهذا المعنى يكون الخليفة اماماً للمسلمين، ويكون اختياره بوساطة الوحي المنزل على النبي، ويصبح واجباً على النبي تبليغ المسلمين هذا الاختيار بنص واضح صريح، ويصبح واجباً على المسلمين، بعد النبي، الخضوع لهذا الاختيار والاعتقاد به كجزء من الايمان، أو كأصل من أصول العقيدة كشأن الاعتقاد بالنبوة والنبي، بحيث لا يكون الفرق بين النبي والامام إلا بالوحي، أي بكون الوحي خاصاً بالنبي دون الامام؟ .
ام ان الخلافة منصب رئاسي لا يأتي اختياره من عند الله، بل هو حق من حقوق المسلمين انفسهم ، فهم الذين يقررون طريقة اختيار الخليفة، وهم الذين يقررون الصفات التي يرون ضرورة توفرها في من يتولى أمر هذا المنصب فيهم؟.
هذا الشكل الجديد من النزاع في أمر الخلافة تفرع عنه لدى القائلين برفض كون الخلافة منصباً آلهياً، نزاع آخر: هل واجب ان يكون الخليفة من بني هاشم في قريش، ام واجب ان يكون من قريش بوجه عام، ام يصح ان يكون من غير قريش في العرب، ام يصح ان يكون من العرب وغير العرب من المسلمين حتى لو كان "عبدا حبشياً" كما قال الخوارج بعد ذلك؟.
اما القول بأن الخلافة حق آلهي، فهو القول الذي اخذ به انصار علي بن ابي طالب، وصار بعد ذلك اصلاً من أصول العقيدة والايمان عند الشيعة. وقد اقتضاهم ذلك ان يثبتوا النص الآلهي الموحى به على النبي باختيار علي اماماً للمسلمين، وان يثبتوا التبليغ النبوي لهذا النص.
وهم يذكرون لاثبات ذلك نصوصاً عدة، ولكن النص الأكثر اعتماداً لهم والأقوى سندا تاريخياً واسلامياً، هو ما يسمى بـ"حديث الغدير".
وقصة هذا الحديث، كما ترويها المصادر الاسلامية كافة. أي مصادر الشيعة والسنة على السواء – هي : ان النبي حين خرج من مكة عائداً إلى المدينة بعد الحج الاخير، ويسمى "حجة الوداع"، أوحي اليه في الطريق: "يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك، وان لم تفعل فما بلغت رسالته" (سورة المائد – الآية 67)
فامر النبي اصحابه فاجتمعوا، في مكان عند غدير يسمى "غدير خم" ، ثم دعا اليه علياً بن أبي طالب، فوقف إلى يمينه، ثم خطب – أي النبي- فقال: "لقد دعيت إلى ربي (يقصد ان موته قريب) واني مجيب، واني مغادركم من هذه الدنيا، واني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، أهل بيتي". ثم أخذ بيد علي ورفعها بحيث يراها الجميع، وقال:
"يا ايها الناس! الست أولى منكم بأنفسكم!." قالوا : بلى. فقال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه. اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق حيثما دار". [23]
فلما انتهى النبي من خطابه، قال عمر بن الخطاب مهنئاً علياً: بخ ، بخ لك يا علي. أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنه".
ثم عاد النبي إلى خيمته ونصب خيمة أخرى بجانبها لعلي. ثم أمر المسلمين ان يبايعوه بالامامة، ويسلموا عليه بأمر المؤمنين رجالاً ونساء.
هذا الحديث يتفق على صحته تاريخياً، كما قلنا، مختلف المذاهب الاسلامية، ولكن يختلفون في دلالته.
ومركز الاختلاف كلمة: "المولى" أو "الموالاة" الواردة في الحديث. فالشيعة تقول ان الكلمة أطلقها النبي على نفسه أولا حين قال: "من كنت مولاه" وهي تعني هنا: من كنت ولي أمره دينياً، ثم اطلقها على علي ثانياً حين قال مباشرة: "..فهذا علي مولاه"، فهي اذن تعني بالنسبة لعلي ما تعنيه بالنسبة للنبي، أي ان علياً في الحديث قد نصبه النبي ولياً لأمر المسلمين كما كان هو، أي اماماً لهم، اذ لا يجوز في الاسلام ان يكون نبياً مثله. لان محمداً خاتم الانبياء ولا نبي بعده.
غير ان الفرقاء الاخرين من المسلمين، قالوا ان كلمة "المولى" أو "الموالاة"، وكل ما ورد في الحديث من افعال ومشتقات للكلمة، انما تدل على المودة والمحبة فقط، وليست تعني النص على الامامة.
هذا جانب من النزاع في شكله الديني على مسألة الخلافة. وفي هذا الجانب نفسه قال بعض المسلمين ان النبي نص نصاً خفياً على خلافة أبي بكر، لا على خلافة علي .
وذلك ما يذكرونه من ان النبي امر الصحابة ، اثناء مرضه الاخير، ان يصلوا جماعة وان يكون أبو بكر امامهم في صلاتهم هذه. فقالوا ان الامامة في الصلاة هي الامامة الصغرى، وان ذلك يوحي باسناد النبي الامامة الكبرى إلى ابي بكر، وهي الامامة العامة في سائر شؤون الاسلام والمسلمين.
وقد استند عمر بن الخطاب إلى هذه الحجة في طلب البيعة لابي بكر يوم السقيفة. [24]
والجانب الاخر من النزاع على منصب الخلافة، هو الجانب الذي يدور على كون هذا المنصب غير آلهي، بل حقاً للمسلمين انفسهم يختارون له من يرونه الاصلح لامورهم.
في هذا الجانب نشأت مشكلة قبلية، ولعلها طبقية بوجه من الوجوه. "الانصار" كانوا يتحسسون مشاعر شبه طبقية تجاه المهاجرين، بسبب من التمايز الملحوظ بينهم وبين "المهاجرين" الذي كان ظاهراً انهم هم "الفئة الأولى" البارزة في ما سميناه "المشاعية الاسلامية" في "المدينة". وقد رأينا، إلى جانب ذلك، من يدخل طرفاً اخر في التنافس على منصب القيادة العليا للسلطة الاسلامية. اذ رأينا، مثلاً، حين انتهى أمر الخلافة إلى أبي بكر، في مؤتمر سقيفة بني ساعدة، ان ابا سفيان بن حرب (وهو أبو معاوية مؤسس الدولة الاموية) تخلف عن مبايعة ابي بكر، وقال مثيراً زعماء قريش: "ارضيتم يا عبد مناف أن يلي هذا الامر عليكم غيركم".
وتقول المصادر ان بني هاشم وبني امية معا – بالرغم من اختصامهم – غضبوا ان يتولى الخلافة رجل من بني تيم، أي ابو بكر. من هنا ظهرت آراء في الخلافة: هل هي حصر في فئة من قريش، او في قريش جملة، أو هي حصر في العرب، أو هي للمسلمين جميعاً، عرباً وغير عرب؟.
كان شكل الصراع ، في كل ذلك، دينياً، وكانت الحجج لكل فريق دينية ايضاً. لكنه اجتماعي – سياسي، شبه طبقي، بجوهره ومضمونه. [25]
مؤتمر سقيفة بني ساعدة الذي اسفر عن نصب ابي بكر خليفة بمبادرة فردية من عمر بن الخطاب، صار مرجعاً في تحديد الرأي وطريقة الاختيار، ثم حدث ان ابا بكر نفسه – وباختياره الشخصي- عين عمر بن الخطاب خليفة بعده ثم اخذ عمر بطريقة اخرى سميت بطريقة "الشورى".
ذلك انه حين اصيب بالطعنة التي أودت بحياته قيل له ان يعين من يخلفه، فاختار ستة رجال من الصحابة وعهد اليهم ان يجتمعوا، بعد موته، ثلاثة ايام، فينتخبوا واحدا منهم خليفة للمسلمين، وحدد لهم عمر طريقة الاختيار بصورة مفصلة ودقيقة وموجهة إلى حد انها تشير إلى النتيجة التي توقعها علي بن ابي طالب، وهو احد الستة ، منذ خرج من مجلس عمر بعد ان أعلن -أي عمر- الخطة، فقال – أي علي- "لقوم كانوا معه من بني هاشم: ان اطيع فيكم قومكم لو تؤمروا ابدا . وتلقاه العباس، فقال: عدلت عنا.." وذلك ما حدث فعلاً ، فقد نفذ عبد الرحمن بن عوف الخطة التي رسمها عمر قبيل موته، بدقة.
نظرة في "الشورى":
فماذا يعني هذا المبدأ؟ لقد حدد بعض العلماء المسلمين المعاصرين مفهوم "الشورى" بانه التشاور بين المسلمين في انتخاب الخليفة وفي شؤون الحياة العامة وشؤون "الحكم في دولة الاسلام". فهل كان اختيار الخلفاء الراشدين متطابقاً مع هذا المفهوم؟. [26]
ان اللوحة التي عرضناها هنا تجيب عن السؤال. فهي تقدم الامر الواقع كما حدث بالتعاقب منذ خلافة ابي بكر إلى خلافة علي. فهل نرى في هذا الامر الواقع تطبيقاً عملياً لمبدأ الشورى يصلح ان يقال عنه ما يقال في معظم المؤلفات الاسلامية المعاصرة؟.
انه لواضح – استنادا إلى هذا النموذج التاريخي – ان مبدأ الشورى لم يتخذ وضعه التطبيقي لدى ممارسة شؤون "الحكم في دولة الاسلام"، بل اتخذ وضعاً اخر لا يتطابق مع مبدأ الشورى بمفهومه الذي يفسره علماء المسلمين، حتى في عهد عمر، رغم كونه العهد الراشدي الذهبي.
هذا ما يقال، اجمالاً، عن مبدأ الشورى في سياق التطبيق فلننظر الان في الوضع التشريعي لهذا المبدأ:
ليس في النصوص الاصول (القرآن والسنة) ما يقضي باعتبار الشورى مبدأ تشريعياً صريحاً، أي اعتباره جزءاً من الشريعة الاسلامية يجب التزامه كشأن التشريعات الواجبهة الاتباع في النظم الاسلامية.. فان اظهر نص قرآني ورد بهذا الشأن هو : ".. امرهم شورى بينهم". ان هذا النص لا يدل على "تشريعية" المبدأ، لانه لم يرد في سياق التشريع في الآية، بل ورد خلال وصف "اخلاقية" المؤمنين و "سلوكيتهم" وهو – أي هذا النص- يخلو من الدلالة على كونه خاصاً بنظام الحكم، ولو انه كان يحمل هذه الدلالة لكان من المستبعد ان يجري اختيار الخليفة على نحو ما جرى في اختيار الخلفاء الراشدين من اللجوء إلى اعتبارات بعضها يرجع إلى منافسات اسرية أو قبلية أو فئوية، اذا لم نقل: شبه طبقية، وبعضها يرجع إلى مواقف ذاتية، وبعضها إلى نوع من الشورى "الفوقية" التي حصرت "أهل الشورى" في اشخاص معدودين كان معروفاً -سلفاً- انهم لن يتفقوا على الأكثر كفاءة فيهم لمنصب الخلافة، لما كان بينهم من خصومات سياسية ومن مواقف ترجع، من جهة، إلى طموح كل منهم إلى المنصب، وترجع – من جهة ثانية- إلى اتفاق "الأكثرية" – سلفاً- على إبعاد علي بن أبي طالب عن قيادة دولة الخلافة.
اذن، فمبدأ الشورى المستفاد من النص القرآني السابق، مبدأ عام ومطلق، غير محدد، فليس من شأنه ان يعتبر ذا وضع تشريعي يقرر الطابع الخاص بنظام الحكم في الاسلام. [27]
ويعترف علماء المسلمين بان "الاسلام لم يحدد طريقة تحقيق الشورى". لكن يمكن القول ان روح التشريع الاسلامي، بوجه عام، يقضي باستبعاد النظام الوراثي الذي اختاره معاوية بعد ذلك، بدليل النص النبوي والذي يشير إلى رفض الاسلام للنظام الذي يقوم على ما سماه النبي "مُلكاً عضوضاً". وهو تعبير مجازي يعني الملك الذي "يعض" عليه صاحبه، بمعنى انه يتشبث به مستأثراً بامتيازاته لنفسه ولورثته، أو الذي "يعض" به على الأمة ويفرضه عليها فرضاً، كما يفسره أحد الباحثين المعاصرين.
غير ان هذا النص النبوي لا يكفي لاقامة وضع تشريعي محدد ايضاً لمبدأ الشورى. وليس ما يصلح لاضفاء هذا الوضع التشريعي على المبدأ المذكور سوى السنة العملية، أي سيرة النبي والخلفاء الراشدين في تصرفهم العملي. فقد كان النبي كثيراً ما يستشير الصحابة في بعض الامور قبل الاقدام عليها، كما فعل -مثلاً- قبل ان يقرر القيام بغزوة "بدر الكبرى" (سنة 624م)، اذ استشار الصحابة واطال المشورة حتى وجد الموافقة منهم.
وفي سيرة كل من الخلفاء الراشدين – عدا عثمان – امثلة من هذا القبيل، ولكنها جميعاً تتصل بشؤون قضائية أو ادارية، أو عسكرية، ولا تعطي المبدأ وضعه التشريعي الذي يشمل نظام الحكم.
لذلك يصح الاستنتاج هنا ان الاسلام لا يحدد نظاماً معيناً من أنظمة الحكم يوجب على المسلمين اتباعه دون غيره. أي ان مبدأ الشورى يتحدد – في نهاية المطاف- بأنه مبدأ استحساني يوصي الاسلامي بمراعاته حين تقتضي المصلحة العامة ذلك. بمعنى ان المصلحة العامة هي المرجع في اختيار نظام معين للحكم. [28]
ب- حروب الردة:
سميت هذه "حروب الردة" لانها كانت ظاهرة ارتدادية تشمل معنى الارتداد عن الطاعة للنظام الضرائبي (ضريبة الزكاة) عند بعض قبائل الجزيرة، كما تشمل معنى الارتداد عن التدين بالاسلام عند قبائل اخرى في اليمامة . وهي بجملتها حروب يصح ان نطلق عليها بلغة العصر الحاضر حروب "الثورة المضادة". والطابع الغالب عليها كونها ذات مضمون اجتماعي رجعي، لانها -في جوهرها العام- تناهض الجانب التقدمي من الحركة الاسلامية.
حروب الردة تمثل الجانب الاجتماعي من ردود الفعل التي احدثها فوراً موت النبي، أي ان هذه الحروب لا يصح ان تفسر كارتداد ديني فقط. فذلك تفسير احادي الجانب ومثالي. انما هناك عوامل اجتماعية تكمن في هذه الظاهرة. [29]
"مسيلمة الكذاب" في اليمامة. فكان له نفوذ شخصي في منطقة اليمامة، وكان – قبل ظهور الاسلام- يبدو انه يمثل دين الحنفاء هناك وانه كانت لمحمد به صلة قبل اظهاره الدعوة الاسلامية. وقد عمل مسيلمة في اليمامة على اجتذاب فريق كبير من سكان المنطقة إلى نفوذه، وقام اثناء حروب الردة بدور "الثورة المضادة" للاسلام في منطقته، فدعاه المسلمون بـ"مسيلمة الكذاب" لادعائه النبوة.
ويقول المؤرخون الاسلاميون انه حاول معارضة القرآن بنوع من الكلام المسجوع، ولكن ليس من الثابت ان هذا الكلام المنسوب اليه هو من كلامه بالفعل، لان النصوص التي يذكرها له هؤلاء المؤرخون اشبه بالهذيان الذي يأبى البحث العلمي ان يصدق بصدور مثله عن رجل عربي كانت له في تلك الفترة التاريخية مكانة بارزة في قومه مكنته من ان يوجد في منطقته تلك المعارضة القوية للاسلام حتى عهد ابي بكر.
اكثر المناطق عناداً في حركة الردة واشدها مقاومة لسلطة الخليفة هي المناطق الزراعية، ولذا كانت قبيلة بني حنيفة في اليمامة (منطقة مسيلمة) اخر من خضع لهذه السلطة بالقوة. [30]
ج- حروب الفتح العربي – الاسلامي:
بدأت حركة الفتح العربي – الاسلامي خارج الجزيرة، بصورة حاسمة، في عهد الخليفة الراشدي الثاني، عمر بن الخطاب. فلم تنقض السنوات العشر التي كان فيها عمر على رأس الخلافة حتى كانت سورية و مصر وفلسطين والعراق وقسم كبير من بلاد فارس رهن الحكم العربي – الاسلامي.
وفي الخمسينات من القرن السابع كان الفتح قد شمل قسماً من شمال افريقية وجزيرة قبرص. وهنا تقف المرحلة الأولى من مرحتلي الفتح العربي. اما المرحلة الثانية فتمتد من اواخر القرن السابع إلى أوائل القرن الثامن، اذ أصبحت الدولة العربية تسيطر على بلدان ومساحات واسعة في كل من آسية وافريقية وأوروبة، بعد ان استمرت حركة الفتح أكثر من سبعين عاماً.
آراء غربيه في أسباب حركة الفتح:
اراء الباحثين الأوروبيين، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في تفسير حركة الفتح العربية – الاسلامية.
من هذه الآراء، مثلاً، ان التعصب الديني الاسلامي هو الذي دفع عرب الجزيرة إلى شن حروب الفتح على البلدان غير الاسلامية. ومنها ان الجزيرة العربية كانت تحوي الكثير من الناس والقليل من الطعام، فكانت حروب الفتح علاجاً لهذا الخلل.
وفي القرن العشرين قال بعض المستشرقين ان الجفاف المسيطر على البادية قد جعل الجزيرة العربية قليلة الماء والعشب، وحرم اهلها وفرة الغذاء كما حرم ماشيتها وفرة العلف، لذلك خرجوا منها باحثين عن العيش الوفير في البلدان الخصيبة. [31]
والواقع ان العصبيات القبلية كانت لا تزال اكثر رسوخاً من المفاهيم والعقائد والمبادئ الاسلامية في نفوس الكثرة من المحاربين في جيوش الفتح العربي – الاسلامي فضلا عما كان يتصف به الكثيرون من جهل بتلك المفاهيم العقائد والمبادئ. فكيف -بعد هذا كله- يصح للباحث تفسير حروب الفتح بعامل التعصب الديني، واهمال العوامل الواقعية.
يبرز امامنا الآن هذا السؤال الكبير:
كيف امكن للعرب ان يحققوا تلك الانتصارات الكبيرة بوجه جيوش نظامية ضخمة لأكبر دولتين متحضرتين (فارس وبيزنطية) حتى القرن السابع الميلادي، مع انهم -أي العرب- كانوا خارجين يومئذ، إلى ما وراء حدود جزيرتهم، أول مرة، كمحاربين فاتحين، وانهم كانوا – مع ذلك- خارجين من حياة لم تكن في مستوى من التطور يبلغ مستوى تطور بعض الشعوب الاخرى التي اخذوا يفتحون بلادها ويبسطون عليها سلطان دولتهم العربية – الاسلامية؟.
ان هذه الواقعات تعكس الصورة الكاملة تقريباً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تعانيها الدولتان المشار اليهما أولاً، وتعانيها الشعوب التي جاءها العرب فاتحين. ثانياً، ثم ان هذه الوقائع وهذه الظروف تحدد الجانب الموضوعي المستقل عن ارادة العرب الذي ساعدهم على ان يؤدي الجانب الذاتي من جهتهم دوره الفاعل. [32]
الغنائم كانت تقسم حسب تشريع الحرب في الاسلام بين المحاربين "وبيت المال" (خزينة الدولة): للمحاربين أربعة اخماس ولبيت المال الخمس الباقي. ثم تقسم الاخماس الأربعة بين المحاربين حسب مراتبهم المصنفة تصنيفاً يجمع بين الصفة القبلية و"الطبقية"[33]. [34]
ضريبة "الخراج" وهي ضريبة عقارية تؤخذ عن الارض من المحصول بنسبة العشر منه. وقد كان معظم سكان البلدان المفتوحة من الفلاحين، فالانتاج الزراعي كان هو الطابع الانتاجي الغالب. ولذلك كان مورد "الخراج" يؤلف جزءاً كبيراً من موارد "بيت المال".
كان المال الوفير الذي كانت تجيء به "الجزية"[35] إلى "بيت المال" احد الأسباب في فتور حركة التبشير الاسلامي في البلدان المفتوحة. يدل على ذلك ما نجده في المصادر التاريخية من الاشارة إلى بعض التدابير التي اتخذت لتحديد عدد الذين يسلمون من السكان المحليين، لان كثرة اعداد الداخلين في الاسلام من "اهل الذمة" قد ادت إلى اضاف موارد الجزية، ومن ذلك – مثلاً- ما ذكره البلاذري من ان الموظفين التابعين للحجاج وإلى الامويين على العراق كتبوا يشكون اليه هذه الظاهرة، وهي "ان الخراج قد انكسر، وان اهل الذمة قد اسلموا ولحقوا بالامصار". ودلالة هذه الشكوى ذات قيمة في هذا المجال، وهي الدلالة على ان المورد المالي للدولة كان في المركز الأول من الاهتمام ، بدل ان يكون اسلام السكان هو صاحب المركز الأول. [36]
لذلك يمكن القول ان عدم رغبة العرب الفاتحين في توسيع القاعدة الاسلامية في البلدان المفتوحة يستند إلى قاعدة مادية، وان هذه القاعدة نفسها تصلح مستنداً ايضاً للتسامح الديني الذي تميز به حكم الفاتحين العرب.
نستنتج امراً بالغ الأهمية في تقديرنا، وهو ما تكشفه لنا هذه الملحوظات من كون العامل الديني ليس هو العامل الحاسم بين العوامل الدافعة لحركة الفتح العربي، بل يبدو لنا ان للعوامل الاجتماعية دورها المؤثر دفعاً وحسما في خروج العرب من محيط جزيرتهم إلى المحيط الفسيح الزاخر بالحياة والنشاط والتنوع.
لا يمكن انكار الدور التاريخي الذي كان للعامل الديني الاسلامي بين عوامل الفتوحات هذه، لا سيما لدى الذين شاركوا فيها مخلصين لاسلامهم وايمانهم.
لكن الامر الذي نبحثه هنا ليس الارادة الذاتية عند امثال هؤلاء المؤمنين، بل الامر الموضوعي الذي حفز جميع الارادات المتدفقة من مختلف قبائل الجزيرة إلى معارك الفتح بما هو اشبه بالمغامرة، ان لم يكن المغامرة كلها.
فان الواقعات التاريخية التي سجلنا بعض اثارها ، لا تستطيع -عند التحليل- الاقناع بأن العامل الديني وحده كان يدفع تلك الجموع الى ساحات المعارك والمخاطر ، بوجه اقوى دولتين في العالم المتحضر آنذاك، دفعاً قوياً حافلاً بكل عناصر الحيوية والبسالة
رفع الفاتحون العرب شعار: لا حرب الا ضد الذين يرفضون الصلح، ثم شعار: "لا إكراه في الدين". [37]
أسس عمر أول "ديوان" في الاسلام، وكان يراعي الترتيب التالي في التوزيع: زوجات النبي أولاً، ثم صحابة النبي ويأتي المهاجرون في اولهم ثم الانصار، ثم اسماء القبائل المشاركة في معارك الفتح والقاطنة في الاقاليم المفتوحة . وبالرغم من ظاهرة هذا التمييز في المراتب، كان تأسيس الديوان ظاهرة حضارية تكمن فيها أولى ملامح "الدولة" الجنينية. وهذا -بالتحديد- ما يسمى بـ"نظام عمر" تاريخياً.
وقد دعيت تدابيره وتوجيهاته واجتهاداته تلك بـ"نظام عمر". يشمل "نظام عمر" تلك السياسة التي اتبعها في خلافته تجاه المسيحيين العرب من سكان سورية وفلسطين والعراق. فهو -أولاً- أمر ان تفرض عليهم اثقل الضرائب ليدفعهم بذلك إلى الدخول في الاسلام ، معللاً هذا تعليلاً يلفت النظر بقوله أن هؤلاء عرب وان العرب هم جيش الاسلام. وهو -ثانياً- اباح لهؤلاء العرب المسيحيين، حتى اذا لم يدخلوا في الاسلام، ان يخدموا في الجيش العربي الفاتح متساوين بالحقوق كلها من العرب المسلمين في حين لم يكن يباح لغير المسلمين من أهل البلدان المفتوحة ان يشتغلوا في هذا الجيش.
هل يمكن ان نستفيد من هذين الموقفين لعمر تجاه العرب المسيحيين هؤلاء ان عمر كان يرمي إلى تكوين عصبية عربية، لا إلى "عصبية" اسلامية تتجاوز العرب؟.
انني اميل إلى الاجابة بالايجاب، دون النفي . [38]
د- عملية التفاعل الاجتماعي والثقافي:
الظاهرة التي يرى فيها بعض الباحثين المعاصرين ان العرب قد رفضوا ثقافات الشعوب التي دخلت في دولتهم الفسيحة.
فالواقع ان الظاهرة هي تأخر عملية التفاعل بين العرب وهذه الشعوب، اجتماعياً وثقافياً، وليست هي الرفض. والتأخر هو واقع موضوعي له عوامله الموضوعية التي اشرنا اليها.
"في عهد عمر استطاع العرب ان يضموا اشتاتاً من الممالك المختلفة أصحاب الثقافات المتباينة: مصر وفيها الاسكندرية معهد العلوم في ذلك الوقت، وفارس والعراق وهما زاخران بالمذاهب المختلفة دينية وفلسفية كالنسطورية والمزدكية والمانوية، والشام كان يضم اليعاقبة وغيرهم من ارباب الديانات القديمة (...) وبذلك أصبح في متناول العرب صيب من المعارف تستطيع ان تغترف منه لو شاءت . ولكن المسلمين في بدء الامر، تحت تأثير اعتزازهم بالدين وأنفة منهم ان يكونوا تلامذة لمن أضحوا من رعاياهم، قد رفضوا هذه الثقافات واعرضوا عنها الا في القليل النادر، ولم يقبلوا على اصحابها الا بعد ان انزلتهم ظروف الحياة من مقام السيادة".
ان هذا النمط من تعليل الظاهرات الاجتماعية – التاريخية يعوزه المنهج العلمي. فان قضية التفاعل بين الشعوب، اجتماعياً وثقافياً ، من القضايا الكبرى المعقدة التي تخضع لظروف موضوعية هي أيضاً معقدة بالطبع. وظروف العرب، في بداءة عهد الفتح، كانت من هذا النوع، فهم – كما اشرنا منذ قليل- لم يكونوا، من حيث علاقاتهم مع شعوب البلدان المفتوحة، في وضع يسمح ان تجري فيه عملية التفاعل الاجتماعي والثقافي مع هذه الشعوب، لانهم وضعوا انفسهم ، خلال المرحلة الأولى، في عزلة عن مجالات النشاط الاجتماعي لها، أي انهم لم يكونوا قد دخلوا – بعد – ذلك الحقل الذي تجري فيه، حسب القوانين الموضوعية ، عملية التفاعل.
اذن، ليس صحيحاً ان العرب رفضوا ثقافات هذه الشعوب، وليس صحيحاً ايضاً -البتة- ان رفضهم -لو انه حدث بالفعل- كان يمكن ان يمنع حدوث التفاعل المذكور. [39]
لكن الحياة العربية بعد تطور الحركة الاسلامية كانت تتوسع شيئاً فشيئاً، والعلاقات الاجتماعية كانت تأخذ طريقها إلى التطور والصيرورة، فكان على التشريع الاسلامي ان يواجه الحاجات والمشكلات التي يخلقها هذا التطور، وان يطبق قواعده العامة عليها بنوع جديد من التطبيق يحتاج إلى النظر العقلي. وكان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب اجرأ الخلفاء الراشدين على الاجتهاد بالرأي، ونذكر من أمثلة اجتهاداته الغاؤه حصة المؤلفة قلوبهم من الصدقات، وهم الذين كان النبي يعطيهم من أموال الصدقة ليتألفهم على الاسلام، لضعف ايمانهم، أو لدفع شرهم أو لعلو منزلتهم في قومهم، وذلك وفاقا للآية القرآنية "انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم.." (سورة التوبة، الآية 60) . وقد استند عمر في الغاء ذلك إلى زوال العلة التي بني عليها النص، وهي نصرة الدعوة الاسلامية في بدء الاسلام، اذ ان هذه العلة كانت قد زالت بعد ان قويت شوكة الاسلام في ايامه. [40]
ه- أول ثورة اجتماعية في الاسلام:
نقول عن الثورة التي حصلت في عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان انها: أول ثورة اجتماعية في الاسلام.
نقول ذلك دون ان نكون قد نسينا حركة الارتداد التي أستوجبت "حروب الردة". ولكننا نرى فرقاً بين "الثورتين" هو الذي يحملنا على وصف الثورة ضد عثمان بأنها الأولى من نوعها في الاسلام. فان حركة الارتداد بالرغم من كونها نتاج عوامل اجتماعية، كان لها طابع "الثورة المضادة" للاسلام. في حين ان الثورة على عثمان متصالحة مع الاسلام، بل هي تتسلح بمفاهيم الاسلام ذاتها، وتنطلق من حرص الثائرين انفسهم على تطبيق قواعد الاسلام وشرائعه تطبيقاً عادلاً وسليماً وفق رووح التشريع الاسلامي كما كانوا يفهمونه ويؤمنون به. من هنا نرى انها أول ثورة في الاسلام من نوعها بالفعل.
مات عمر بن الخطاب، عام 644 للميلاد، بعد ان ترك طابعه الخاص على أنظمة "الدولة" الاسلامية التي يرجع اليه فضل كبير في وضع اسسها العملية.
ومن آثاره في هذا المجال ما احدثه من تعديلات في نظام الضرائب ومن اجتهادات في تطبيق ضريبتي الجزية والخراج، واعفاؤه من اعفي من الضريبة الأولى ولا سيما اعفاء الذين يدخلون الاسلام من الاديان الاخرى. وفي عهده بدئ بفرض ضرائب اخرى ورسوم على الصناعات الحرفية. [41]
ثم ان من آثاره المعروفة ايضاً ذلك التقليد الذي اتبعه في سياسة البلدان المفتوحة من التسامح الديني ومن الحرص على مراقبة سلوك الولاة الحاكمين في تلك البلدان من قبله واخذهم بالشدة والحزم.
تلك كانت سيرة عمر الذي اشتهر في المؤلفات التاريخية الاسلامية وغير الاسلامية بلقب "عمر العادل".
ولكن، ما أن جاء عثمان بن عفان إلى سدة الخلافة بعده حتى ظهرت على سلوك الولاة الحاكمين في الامصار مظاهر جديدة تنبئ بأن سياسة عمر وسيرته تواجهان تغييراً وانحرافاً خطيرين.
فقد بدا الناس يحسون ان الاموال المتجمعة من ضرائب الجزية والخراج وغيرهما، لا تذهب إلى "بيت المال"، وانما تذهب إلى فئة الحكام الذين ولاهم الخليفة الثالث عثمان على الامصار، وهم في الاغلب من اسرته وعشيرته في بني أمية، فاذا بهذه الاموال تتكدس ثروات كبيرة في جماعة معينة من أهل "المدينة"، عاصمة الخلافة الراشدية، ثم يبدو تدريجاً ان قد نشأت في هذه العاصمة طبقة جديدة من ذوي الثراء الفاحش، ونشأت فيها مع نمو هذه الطبقة مرافق الترف والرفاهية المادية المتنوعة.
هذا التغير الجديد يقتضينا ان نتحدث قليلاً عن عثمان نفسه: انه ينحدر من منشأ ارستقراطي في قريش، أو من الفئة العليا التي كانت لها السيادة المطلقة في مكة قبل ظهور الاسلام. فهو من بني أمية أحد الفروع العشرة لقريش واظهرها غنى وسطوة في مكة ايام الجاهلية، فهم المسيطرون والمنظمون لشؤون التجارة المكية، ولا سيما آل أبي سفيان من بني أمية.
وعثمان نفسه الذي ينتمي إلى هذا الفرع الاموي في قريش كان في الجاهلية من كبار اغنياء الفرع الاموي.
وبالاضافة إلى منشئه "الطبقي" هذا كان حين تولى أمر الخلافة بعد عمر شيخاً طاعناً في السن قد فقد السيطرة الكاملة على ارادته لو انه شاء ان تكون له ارادة في غير الاتجاه المنحرف الذي اتجه اليه الولاة الامويون الذين اختارهم لحكم الامصار من اقرب اقربائه.
ويبدو ان هذه الخصائص كان يعرف معظم الصحابة ما ستترك من آثار سلبية. [42]
فلما ظهرت هذه الاثار بالفعل كانت النقمة على سياسة عثمان تشمل مختلف احزاب المسلمين في "المدينة" قبل ان تنفجر هذه النقمة في صفوف بسطاء المسلمين والكادحين في سائر الامصار.
ومن الطبيعي ان يكون حزب علي بن أبي طالب من أشد الناقمين حينذاك. لانهم يرون في مجيء عثمان إلى منصب الخلافة، وحرمان علي هذا المنصب ثالث مرة، مع رؤيتهم الفارق الكبير بين الرجلين من حيث المؤهلات الشخصية والاسلامية معا، ظلماً جديداً لا لعي نفسه وحسب، بل ظلماً جديداً كذلك للحق الالهي الذي يعتقدون انه يختص علياً بالخلافة منذ عهدها الأول.
ثورة البسطا:
لقد تمادى بنو امية الحاكمون في الامصار من قبل عثمان ، بسياسة جمع الثروات لانفسهم ، بل زادوا في ذلك فأخذوا يجمعون هذه الثروات الفاحشة من فرض ضرائب جديدة جائرة وباهظة على الناس، ومن اغتصاب سكان البلدان المفتوحة املاكهم واراضيهم.
حتى انشأ هؤلاء الحكام طابعاً شبه اقطاعي للدولة، اذ اصبحوا من كبار الملاكين للمزارع والعقارات، فطبعوا الدولة كلها، في انظار سكان الامصار، بطابعهم شبه الاقطاعي الجديد.
فأخذ الاستياء بين الناس ينمو ويتسع ويمتد في صفوف البسطاء والكادحين بالأخص، وفي صفوف الاحزاب السياسية في "المدينة" ، ولا سيما الذين ازيحوا منذ ابتداء عهد عثمان عن مراكزهم.
هكذا تجمعت في الاعماق وعلى السطح أسباب الانفجار الذي أحدث ما سمي في تاريخ الاسلام بـ"الفتنة الكبرى" ، أو "فتنة عثمان".
أما حقيقة هذا الانفجار ومغزاه فيكمنان في انه انبثق من جماهير الناس البسطاء ، من عرب وغير عرب، وكلهم من المسلمين الحريصين على ان يبقى الاسلام وان يسود بالروح نفسها التي دخلوا فيه من أجلها، باتجاه تحسين احوالهم المادية وتخفيف الفوارق التي كانت قائمة بينهم وبين الفئات العليا التي بدأت تنمو على حساب شقائهم.
لم يتهم أحد من مؤرخي الاسلام أولئك الوافدين عام 656 من مصر والعراق إلى مكة حجاجا مؤمنين، بانهم خارجون على الاسلام، أو انهم كانوا يدبرون "ثورة مضادة" للدولة الاسلامية. [43]
بل يؤكد المؤرخون ان هؤلاء وفدوا إلى الحج يحملون مع ايمانهم بالاسلام استياءهم ممن يظلمونهم؟
لقد وفدوا يشكون إلى الخليفة، عثمان، سوء معاملة اقربائه الحاكمين بأمره، ثم يطلبون اليه ان يعتزل منصب الخلافة، لا كراهية للخليفة نفسه، بل لان اعتزاله الخلافة كان العلاج الوحيد للمشكلة التي يعانيها أهل الامصار، مشكلة عجز الخليفة عن السيطرة على تصرفات اقربائه الذين يحكمون هذه الامصار باسمه.
ولكن عثمان رفض هذا الطلب، فلم يستطع ممثلو الامصار كبح جماح نقمتهم ونقمة البسطاء الاخرين من مواطنيهم الذين اوفدوهم بطلبهم ذاك، فحاصروا داره، وقاوم الحصار انصار عثمان ولم يكن لهذا الانفجار ان ينتهي الا بمصرع الخليفة نفسه، وانتظار الثائرين ان يقوم على رأس الخلافة رجل يستطيع القضاء على الأسباب الاجتماعية لهذه الثورة الاجتماعية الأولى في الاسلام.
ولا بد هنا من القول بأن المنشأ الاجتماعي الذي خرج منه عثمان كان عاملاً أساسياً في رفضه اعتزال منصبه، كما كان عاملاً أساسياً في سيرته التي أوجدت أسباب الثورة، ومنها بالخصوص مظاهر البذخ المادي في حياته الخاصة حتى قيل انه منح ابنته من "بيت المال" عند زواجها 600 الف درهم كلها من اموال الجزية والخراج، أي من جهد الكادحين على الأكثر.
وبالرغم من ان جماعة من الاحزاب المناوئة لعلي بن أبي طالب، وفيهم عائشة بنت أبي بكر، وطلحة والزبير، كانوا من المحرضين على قتل الخليفة عثمان، لتفضيله بني أمية عليهم في المناصب الكبرى، نجد اولئك الجماعة أنفسهم الذين شاركوا في التحريض على قتل عثمان ينقلبون فجأة فور مقتله إلى مطالبين بدمه، داعين إلى الأخذ بثأره ، متهمين علياً بن أبي طالب نفسه بالتحريض على قتله. وذلك خشية أن تتعرض زعاماتهم ومصالحهم إلى خطر أشد من الخطر الذي كانت تتعرض له في حكم عثمان وبني أمية. [44]
ينبغي أن نتذكر أن عهد الخلفاء الراشدين قد انتهى تاركاً في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية ثلاث تكتلات رئيسة: شيعة "علي" ، وحزب الامويين، والخوارج. [45]
الصراع السياسي على الخلافة سرعان ما أضفي عليه ثوب من النزاع الديني في مفهوم الخلافة: ففريق جعله منصباً آلهياً يأتي النص به على شخص الخليفة بوحي من الله على لسان النبي، وهؤلاء هم انصار علي بن أبي طالب. [46]
[1] حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الأول– دار الفارابي – بيروت – الطبعة الأولى 1978 .
[2] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص331
[3] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص332
[4] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص333
[5] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص344
[6] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص346-347
[7] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص359
[8] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص360
[9] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص362
[10] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص363
[11] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص364
[12] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص365
[13] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص368
[14] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص369
[15] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص375
[16] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص380
[17] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص383
[18] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص389
[19] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص390
[20] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص391
[21] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص392
[22] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص393
[23] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص394
[24] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص395
[25] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص396
[26] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص397
[27] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص398
[28] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص399
[29] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص404
[30] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص405-406
[31] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص411
[32] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص413
[33] تبرز الصفة القبلية و"الطبقية" المزدوجة في ما كان يحدث من تسلم شيخ القبيلة حصة قبيلته فيستاثر بها لنفسه ولاخص اقربائه حتى نشأت فئة غنية من رؤساء القبائل بحيازة الاموال والممتلكات الثمينة من غنائم الفتح، وذلك على حساب الفئات البسيطة التي لم تتحسن حالتها المعيشية من مكاسب الفتوحات، وفي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان نشأت من اقربائه بني أمية اريستوقراطية اموية فاحشة الثراء.
[34] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص415
[35] 1- كان يعفى من الجزية بين أهل الذمة: النساء، الاطفال، المشلولون، المجانين، ورجال الدين.
2- كانت الجزية تدفع نقداً أو عينياً كالثياب مثلاً. وكان الحد الأعلى للجزية النقدية ديناراً واحداً أو 13 درهماً عن الشخص الواحد سنوياً. ثم صار هذا المقدار الحد الأدنى، فيؤخذ ديناران أو 24 درهماً، واحياناً أربعة دنانير عن الغني.
3- تجب الزكاة على كل بالغ عاقل شرط ان يكون المال ملكاً تاماً لصاحبه متمكناً من التصرف به. اما نوع المال الواجب فيه الزكاة فهو: الذهب، الفضة، الابل، البقر، الغنم- الماعز، الحنطة، الشعير ، التمر، الزبيب. واما مقدار المال الذي يجب فيه الزكاة فيختلف باختلاف نوع المال: 1-الذهب: في كل 20 ديناراً من الذهب نصف دينار، وان نقص فلا زكاة. 2- الفضة: ليس في أقل من مئتي درهم زكاة، وليس في ما بعد المئتين حتى يتم اربعون، فيكون فيها احد. 3- الابل: ليس في ما دون الخمس زكاة، فاذا كانت خمساً ففيها شاة الخ.. 4- البقر: كل ثلاين بقرة تزكى ببقرة حولية، وليس في أقل من ذلك زكاة، وفي أربعين بقرة مسنة بقرة (تفاصيل اخرى). 5- الغنم: كل اربعين شاة تزكى بشاة، وليس في الاقل زكاة (تفاصيل اخرى). (ولا تجب الزكاة في هذه الانواع من الماشية الا بشروط هي: بلوغ النصاب المذكور، عدم العمل، مرور عام من عمرها. 6- الغلات (الحنطة والشعير والتمر والزبيب): ما يبلغ 910 كلغم تقريباً، فما نقص عن ذلك فلا زكاة ، شرط ان تكون اصولها مملوكة لصاحبها. اما مقدار الزكاة فاذا كان الزرع يسقى اصطناعياً فالزكاة نصف العشر، واذا كان يسقى طبيعياً (بنهر) أوعين أو مطر) او كان بعلاً، فالزكاة العشر كاملاً (راجع الشيخ محمد جواد معنية: فقه الامام جعفر الصادق، ج2 ، ص59-101). (ص416-417)
[36] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص 417
[37] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص419
[38] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص423
[39] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص428-429
[40] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص430
[41] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص435
[42] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص436
[43] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص437
[44] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص438
[45] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص442
[46] حسين مروة – المصدر السابق - الجزء الأول – ص448