Menu

السعي للاستيلاء على فلسطين: كواليس وعد بلفور وإصداراته

اللورد بلفور في القدس عام 1925

بوابة الهدف/ترجمة وتحرير: أحمد.م .جابر

مقدمة المحرر

[يقول  المؤرخ الأمريكي الصهيوني مارتين كريمر أنه ورغم اعتبار وعد بلفور على مدى مائة عام عملا معزولا لدولة واحدة هي بريطانية، غير أن الحقيقة تبدو مختلفة تماما.

ويسرد الكاتب في نص نشر بمناسبة مئوية وعد بلفور  (على موقع موزاييك للفكر اليهودي الصهيوني) الرحلة الطويلة التي قطعها الوعد، حتى قبل صدوره، ليخرج إلى الضوء عبر جهود مكثفة للحركة الصهيونية للدول الحليفة في الحرب العالمية الأولى وقبلها، وجهود الحركة ليكون لها دور في تقسيم كعكة الانتصار بين الحلفاء، وهكذا حصل الصهاينة على ضمانات فرنسية وإيطالية وكذلك من بابا الفاتيكان ومن اليابان والصين وسيام، ومن الولايات المتحدة عبر تعهد سري للرئيس ويلسون.

وفي ظل الحملة الفلسطينية لإلزام بريطانية بالاعتذار عن وعد بلفور والكارثة التي سببها للشعب الفلسطيني، تأتي دراسة كريمر كهجوم مضاد حيث يجادل بالمسؤولية الجماعية للدول في ذلك الوقت عن وعد بلفور، وأنه لم يكن مجرد "تعهد من بريطاني، لبريطاني آخر" يقصد بلفور وروتشيلد، وهو هنا يطالب الحكومة الصهيونية ببذل الجهود لإلزام حكومات تلك الدول حاليا بالاضطلاع بمسؤولياتها عن هذا الوعد.

لماذا تبنى البريطانيون الاتجاه الصهيوني؟ وكيف خان ويلسون بيانه حول تقرير المصير عندما تعلق الأمر بفلسطين؟ وكيف ساوم المستعمرون فيما بينهم على غنائم الحرب وبقايا الرجل العثماني المريض؟

يتطرق الكاتب بأدق التفاصيل لجهود قادة الحركة الصهيونية للحصول على إعلان بلفور وغيره من الضمانات التي سبقته ولحقت به، متطرقا بالخصوص إلى دور اثنين من زعماء هذه الحركة هما حاييم وايزمان وناحوم سوكولوف والصراع والتنافس بينهما، وكيف لعبا خلف كواليس الدبلوماسية العالمية، مع فرنسا والفاتيكان وإيطاليا والولايات المتحدة وطبعا بريطانية وغيرها لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية وبالذات الحصول على التزام يطابق قرار المؤتمر الصهيوني في بازل بإقامة "وطن لليهود في فلسطين".

ويتطرق الكاتب بشكل غير مباشر إلى التكاسل واللامبالاة والجهل الذي اتسمت به القيادة العربية آنذاك ممثلة بالشريف حسين وابنه فيصل، وكيف خدعهما أو خدعا بوعود مكماهون ولم يفعلا أي شيء لتثبيتها وحتى عندما كان ذلك ممكنا، بينما حول الصهاينة الوعود إلى إعلانات عالمية.

تعود قصة الوعد إلى الثاني من نوفمبر عام 1917، عندما قدم وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور، تعهدا للصهيوني البارز اللورد والتر روتشيلد، ببذل قصارى الجهد من قبل "حكومة صاحبة الجلالة" لـ"تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي".

هذا النص هو ترجمة معالجة من (الهدف) لدراسة مطولة كتبها المؤرخ الصهيوني مارتن كريمر الذي يحمل الجنسية الأمريكية و"الإسرائيلية" ، يناقش فيها ما يزعم أنه خفايا وعد بلفور والحقائق التي تم نسيانها في النقاش العام حوله، وطبيعي أن يدرك القارئ أن ما يقدم هنا هو وجهة نظر مؤرخ صهيوني، ومنسوبة إلى مراجعه الخاصة،  غير أنها مادة تاريخية شديدة الأهمية  وفائدتها في ظل النقاش المحتدم حول وعد بلفور والمطالب الفلسطينية بإسقاطه والاعتذار عنه، تبيان كيف يفكر الصهاينة حول هذه المسائل وكيف يريدون تحويل المعركة الفلسطينية لإلغاء بلفور إلى معركة صهيونية لتعزيزه- المحرر].

جاء تعهد بلفور في خضم الحرب العالمية الأولى وكانت القدس على وشك السقوط بيد المحتلين الجدد، من قوات بريطانية ومتعددة ولكن بقيادة بريطانية. ويعتبر وعد بلفور نقطة تاريخية مفصلية شكلت الخطوة الأولى لتحقيق هدف الصهيونية السياسية، كما حددت في المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بازل، سويسرا عام 1897 حيث نص القرار "تسعى الصهيونية لإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين المضمونة بموجب القانون العام"، وكان ثيودور هرتزل قد فشل في مساعيه لدى السلطان عبد الحميد الثاني وملوك أوربا الآخرين للحصول على مثل هذا التعهد.

النقاش حول معنى الإعلان

ينظر إلى وعد بلفور في السردية السياسية الصهيونية التاريخية بأنه يشكل بداية "شرعية إسرائيل" ، وهو إعلان نص على أن "أمة " ستمنح بلدا "لأمة أخرى" في أرض "أمة ثالثة" لا يمكن أن يكون الموضوع أكثر وضوحا ووقاحة من هذا التبسيط الذي يقدمه الفلسطينيون أنفسهم في عبارة أراها مشوشة أصلا "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، إذ لا أحد يستحق هذا البلد إلا سكانه الأصليين، ما جعل المستعربة البريطانية تصف هذا الوعد بأنه "واحدا من أعظم الأخطاء في التاريخ الإمبراطوري لدينا".

يميل بعض الصهاينة  إلى التقليل من أهمية وعد بلفور، معيدين إقامة كيانهم إلى الجهود اليهودية الخالصة و"كفاح اليهود" من أجل "النجاة". بعضهم الآخر فضل، بسبب موقف من بريطانية إعادة الفضل إلى عصبة الأمم التي منحت بريطانية الوصاية على فلسطين كدولة منتدبة، وضمنّت بنود قرار الانتداب، تنفيذ "وعد بلفور"، حيث يقول المحامي الأمريكي سول لينويتز قبل ستين عاما "إن هذا الإعلان كان في حد ذاته عاجزا من الناحية القانونية، لم يكن لدى بريطانيا العظمى حقوق سيادية على فلسطين، لم يكن لها حق الملكية؛ ولم يكن لديها سلطة التصرف على الأرض"، ما يعزز آراء أولئك المناصرين لإرجاع الفضل لعصبة الأمم حيث أن" الحلفاء المنتصرين في الإعلان الرسمي اعترفوا بحقوق اليهود قبل الفلسطينيين، "وفعلوا ذلك في" وثيقة دولية رسمية للشرعية قانونية لا شك فيها".

وهناك نهج آخر للتقليل من شأن إعلان بلفور هو التخلي الصهيوني مباشرة عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1947 الذي أنهى تقسيم فلسطين إلى دولتين، مثال على ذلك هو مقال نشر مؤخرا من قبل جاليا جولان، وهي أستاذة في الجامعة العبرية حاليا، عنونة حجتها "بلفور ليس صفقة كبيرة" وتضيف " كان الإعلان مجرد تصريح لغوي من  "قوة استعمارية"، في حين أن القرار عام  1947 يشكل "الشرعية الدولية" التي يمنحها "المجتمع الدولي ممثلة في الامم المتحدة".

يُظهر بحث كريمر أن آبا إيبان، والذي لعب دورا رئيسيا في قرار التقسيم عام 1947، كان يرى خلاف ذلك، فقد كتب أنه في الوقت الذي تطغى أحداث 1947-1948 على وعد بلفور، لكن في الواقع، لم يكن لأحداث عام 1947 أن تحدث عواقب "ثورية"، "فـ"اليشوف" أصلا كان أكبر بكثير من أن يسيطر عليه العرب" كما زعم، وهم أيضا كانوا مقاومين بشراسة للوصاية التي يريدون أخذها لأنفسهم، لذلك اعتبر أبا إيبان أن تعهد بلفور شكل  " التمرد على الجمود في الوقائع الثابتة" وعلى "العقبات العقلانية"، وبالتالي يقف هذا الوعد وحده باعتباره "الانتصار الدبلوماسي الحاسم للشعب اليهودي في التاريخ الحديث".

ويتفق كريمر مع ما قاله النائب البرلماني الموالي للصهيونية ريتشارد كروسمان إذ وصف الوعد  بأنه "واحد من أعظم أعمال الحكمة السياسية الغربية في القرن العشرين"، أو على الضد من هذا الإدعاء كلن في الحقيقة  الخطيئة الأصلية ضد العرب الفلسطينيين، كما قال المفكر والمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي  مضيفا "الوثيقة السياسية الوحيدة الأكثر تدميرا في الشرق الأوسط في القرن العشرين". وبهذا المعنى، فإن الذكرى المئوية للوعد أثارت الكثير من الجدل والتناقض

حاييم وايزمان الشريك المنسي

في عام 1916 و 1917، دخلت قوات الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، روسيا، إيطاليا، وفيما بعد الولايات المتحدة) في حرب مع القوى المركزية (المحور) وهي  (ألمانيا والنمسا-المجر، وبلغاريا، والإمبراطورية العثمانية) و خوفا من أن تصل الحرب إلى التعادل، أملت الحكومة البريطانية أن يقتنع اليهود بالعمل ضد تردد دولتين حليفتين هما الولايات المتحدة، وروسيا  والإصرار على بقاء حكوماتها في الحرب حتى النصر الكامل. هذا التأثير اليهودي يفترض أن يترك أثرا في النقاشات حول الحرب في واشنطن وسان بطرسبرغ، ويمكن أن يتم تفعيله على أفضل وجه بوعد يمنح لليهود يتضمن "استعادتهم لفلسطين" وكانت بريطانية مدفوعة بالخوف من أن تسرق ألمانيا الفرصة عن طريق إصدار تصريح مؤيد للصهيونية خاص بها.

بالنسبة لنا اليوم، هذا يبدو وكأنه مبالغة كبيرة في قوة اليهود في ذلك الوقت، لكن رجال الحكومة البريطانيين يعتقدون بما سماه الصهيوني البريطاني هاري ساشر مرة "الأسطورة اليهودية العظيمة"، وهي رؤية وصفت بأنها أغبى حتى من الترويج  لـ "بروتوكولات حكماء  صهيون".

التفسير الثاني هو أن البريطانيين هرعوا إلى تبني الصهيونية باعتبارها وسيلة لتبرير مطالبتهم بفلسطين في فترة ما بعد الحرب حيث سيجري تقسيم الشرق الأوسط، بوصفهم رعاة لليهود،  مستبعدين حليفهم الفرنسي من فلسطين ، ويمكن إيجاد التناغم بين السببين بأن بريطانية كانت في حاجة للوعد لأسبابها الخاصة، وبالتالي الحركة الصهيونية احتاجت إلى القليل من الدفع لإنتاج وعد بلفور لأغراضها الخاصة أيضا.

تزعم المؤلفات الصهيونية أن هناك عامل آخر مهم يتمثل في "عبقرية" حاييم وايزمان" الكيميائي الحيوي الشهير، والرئيس اللاحق للاتحاد الصهيوني الإنكليزي، حيث تزعم هذه الأدبيات بأنه تمكّن بمفرده من استمالة كبار السياسيين في بريطانيا وصناع الرأي العام لفكرة الصهيونية. وتضيف أيضا أن هذا المهاجر الروسي الذي كان وصل إلى إنكلترا فقط عام 1904 تمكن بهدوء، ومن وراء الكواليس من إقناع البعض مثل بلفور ومارك سايكس وألفريد ميلنر، وديفيد لويد جورج وأغواهم بالفكرة، التي ستضع مستقبل الشرق الأوسط بين أيديهم، لذلك تزعم هذه الأدبيات أن إعلان بلفور هو انتصار إرادة رجل لا يكل، وتأثيره الشخصي على مجموعة  من رجال الدولة البريطانيين.

وقد شهد على ذلك فلاديمير زئيف جابوتنسكي في وقت مبكر من العام 1918 حيث كتب "الإعلان هو الإنجاز الشخصي لرجل واحد فقط: د. حاييم وايزمان، أربع سنوات من العمل المرهق والمحسوب أنشأت الصلة بيننا وبين كل من رجال الدولة في هذا البلد. يتحدث شعب إنجلترا بصراحة عن سحره الشخصي باعتباره واحدا من أكثر العوامل فعالية في الدعاية الصهيونية في إنجلترا، وتأييد الصهيونية من قبل روتشيلد في لندن يرجع أيضا إلى نفوذه . . . وفي تاريخنا، سيبقى الإعلان مرتبطا باسم وايزمان".

وقد بلغ وايزمان ذروة نشاطه السياسي بوصوله إلى منصب أول رئيس لـ"إسرائيل" في عام 1949، و توفي في عام 1952؛ عندما احتفلت "إسرائيل" في عام 1967 بالذكرى الخمسين لإعلان بلفور، أصدرت طابعين الأول يحمل صورة بلفور والثاني يحمل صورة وايزمان.

ولكن كريمر يقول أن البحث في أرشيف وايزمان أثبت أنه لم يكن لوحده "كان هناك شركاء إضافيين في هذا النجاح"، ومع ذلك، فإن الإنجاز يتم تحديده بشكل عام لحاييم وايزمان.

من هم "الشركاء الإضافيون"؟

لقد تم نسيان مساهمتهم كليا، ولكن التنقيب في الأرشيفات يثبت أن وعد بلفور لم يكن نتيجة لتوافق الآراء أو انبثاقا للمعاملات السرية، بل كان من أولى الأمثلة على الدبلوماسية العامة.

ويرى كريمر أنه فيما يتعلق بفلسطين، لم يكن بوسع بريطانيا أن تتصرف بمفردها، لأنها تنتمي إلى تحالف، وكانت قوات الحلفاء، وخاصة بريطانيا وفرنسا ولكن أيضا روسيا وإيطاليا، وأمريكا في وقت لاحق، تقاتل معا، ولا بد من تنسيق سياساتها. كان يمكن أن يكون غير وارد بالنسبة لبريطانيا أن تصدر تعهدا علنيا بشأن مستقبل الأراضي التي يتعين تقاسمها بعد الحرب بدون موافقة مسبقة من الحلفاء، خصوصا أولئك الذين لديهم مصلحة في فلسطين أيضا.

وهذه الحقيقة محجوبة تماما في إعلان بلفور، حيث كتبت الرسالة نيابة عن "حكومة صاحب الجلالة" ولا شيء آخر. ووافقت الحكومة البريطانية على الإعلان، وقد وقع عليه وزير الخارجية البريطاني، ولم يوقع أي من الآخرين. وعلى وجه الخصوص، كان الإعلان رسالة نوايا بريطانية أحادية الجانب، بينما كانت في الحقيقة تعبيرا عن توافق واسع في الآراء بين الحلفاء، قد ينظر إليه على أنه يشبه تقريبا قرار مجلس الأمن الدولي اليوم،

ولكي يتم فهم هذا الغموض لابد من تحويل التركيز بعيدا عن لندن إلى باريس وروما وواشنطن؛ وبعيدا عن حاييم وايزمان إلى زعيم صهيوني يذكر بالكاد الآن: ناحوم سوكولوف.

 

ناحوم سوكولوف

العديد من المدن المحتلة في فلسطين تحوي شارعا باسم ناحوم سوكولوف، وفي بيته في تل أبيب يقع حاليا مقر جمعية الصحفيين "الإسرائيليين"، وثمة جائزة صحفية باسمه وأيضا كيبوتس "سدي نعوم" سمي باسمه.

غير ذلك، يقول كريمر أن سوكولوف هذا قد نُسيّ تماما، على العكس من وايزمان فلا يوجد أي معهد يحمل اسمه أو أي نصب تذكاري، ولا يوجد أي فئة من العملة تحمل صورته، وقد استحضرت جثته بعد عقدين على وفاته، في العام 1956 ليدفن على جبل هرتزل، وقالت صحيفة صهيونية أن أولئك الذين رأوا الجنازة تساءلوا: " من هو ناحوم سوكولوف هذا ؟" وبعد 80 عاما من وفاته لا يوجد سوى القليل من المؤرخين يذكرونه.

ولد ناحوم سوكولوف في وقت ما بين عامي 1859 و 1861 في وسط بولندا وحصل على تعليم ديني تقليدي، لكنه تولى تعليم نفسه المواضيع العلمانية وكان متعدد اللغات، وكاتب غزير لمجموعة واسعة من المواضيع. في عام 1880 انتقل إلى وارسو وتولى في وقت لاحق رئيس التحرير للمجلة العبرية هاتسيفراه، التي أصبحت يومية في عام 1886، وسرعان ما اعترف به بأنه الصحفي الأكثر وضوحا في العالم العبري.

في عام 1897 حضر المؤتمر الصهيوني الأول والتحق بهرتزل وترجم روايته "تل أبيب" إلى اللغة العبرية، وترك الصحافة اليومية في عام 1906، وأصبح الأمين العام للمنظمة الصهيونية العالمية، التي كانت تكافح للبقاء بعد عامين من وفاة هرتزل.

كرس سوكولوف نفسه في الحركة الصهيونية للضغط والدبلوماسية والدعاية، مسافرا عبر أوروبا وأمريكا، والإمبراطورية العثمانية، وفي عام 1911، انتخب إلى اللجنة التنفيذية الصهيونية، وفي عام 1914، بعد اندلاع الحرب، انتقل إلى بريطانيا، حيث انضم إلى حاييم وايزمان في الحملة لكسب الاعتراف البريطاني بالأهداف الصهيونية.

يقول كريمر أن سوكولوف يمثل المفتاح لفهم أشمل وأكثر عمقا لوعد بلفور، وفي الواقع كان اليهود في ذلك الوقت يحبونه أكثر من وايزمان ويعتبرونه أكثر شجاعة. فما الذي فعله سوكولوف؟ حقق ما كان الكثيرون يعتبرونه مستحيلا، خلال ربيع 1917، زعم أنه حصل على موافقة صريحة أو ضمنية من الحكومات الفرنسية والإيطالية، وحتى البابا الكاثوليكي، بأن يقيم اليهود "وطن قومي" تحت الرعاية البريطانية، وقد كان هذا الإنجاز مفاجأة للجميع بما في ذلك وايزمان، ويتساءل كريمر عن السبب في نسيان إنجاز سوكولوف الأساسي.

بريطانيا كمستودع للآمال الصهيونية

في أوائل عام 1917، كان للصهاينة هدف واحد. لم يكن هناك شك في أن أفضل احتمالات الصهيونية تكمن في انتصار كامل للحلفاء على العثمانيين المدعومين من ألمانيا ووضع فلسطين تحت حماية بريطانية حصرية، فقط في بريطانيا لم تحظَ الصهيونية بالدعم الكافي في الدوائر الحاكمة للتغلب على المعارضة العميقة من النقاد والمشككين في جميع أنحاء أوروبا، بما في ذلك بعض اليهود المؤثرين المعارضين للصهيونية. وفقط بريطانيا كان لديها مزيج من المصالح الاستراتيجية، والقوة العسكرية، والإرادة السياسية لإنفاذ سياساتها في فلسطين، لكن الصهاينة واجهوا مشكلتين، الأولى: كانت بريطانيا قد وعدت بالفعل بمشاركة فلسطين مع حلفائها في زمن الحرب. والثانية: الصهاينة لا يعرفون ذلك.

في ربيع عام 1916، وضعت بريطانيا وفرنسا وروسيا اتفاقا سريا لتقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها النهائية، وكان هذا "اتفاق آسيا الصغرى"، المعروف باسم اتفاق سايكس بيكو بين المفاوض البريطاني السير مارك سايكس ونظيره الفرنسي، الدبلوماسي فرانسوا جورج بيكو. وقسم الاتفاق بلاد الشام وبلاد الرافدين بين بريطانيا وفرنسا على طول خط "الرمال" بين الشرق والغرب من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى الحدود الغربية لبلاد فارس (كانت روسيا ستحظى برقعة كبيرة من شرق الأناضول).

ولكن فلسطين كانت تنطوي على الكثير من المصالح المتضاربة التي تحتاج إلى وضع خاص، ووفقا لخريطة سايكس بيكو، فإن الجليل الشمالي سيذهب إلى فرنسا، حيث سيتم تخصيص الموانئ في حيفا وعكا لبريطانيا، ووسط البلاد، بما في ذلك القدس ويافا، وكان يأتي تحت عنوان "إدارة دولية بالشكل الذي من المقرر أن يبت" من خلال التشاور مع كل من الحلفاء، الذين كان من بينهم أيضا إيطاليا وروسيا القيصرية. ولو كان اتفاق  سايكس بيكو قد نفذ حرفيا، فمن المحتمل أن يكون قد دمر آفاق الصهيونية، ووصف وايزمان لاحقا ذلك بأنه "قاتل بالنسبة لنا".

ولحسن حظ الصهاينة، كان ديفيد لويد جورج، الذي أصبح رئيسا للوزراء في نهاية عام 1916، يعتقد أن اتفاقية سايكس بيكو قد أعطت الكثير للفرنسيين في فلسطين، خصوصا أن بريطانيا هي من سيقاتل في سيناء وفلسطين، وهكذا طلب لويد جورج من سايكس مراجعة جزء فلسطين من الاتفاقية  بطريقة تجعل بريطانيا تحظى بنصيب الأسد، وقد قاوم الفرنسيون، الذين يمثلهم بيكوت، مصرين على أن مطالبتهم الخاصة بفلسطين كانت على الأقل مساوية لبريطانيا.

أثناء ذلك، كما يقول كريمر، اكتشف سايكس الصهيونية، ويقول سوكولوف في وقت لاحق  "يظهر سير مارك ويقول أن لديه بعض الاستفسارات ثم يعرب عن رغبته في لقاء القادة الصهيونيين، وأخيرا يعقد اجتماع في الواقع". وقد عقد ذلك الاجتماع صباح يوم 7 شباط/فبراير 1917، في منزل خاص في لندن، كان سايكس قد التقى بأهم القادة والمتعاطفين مع الحركة الصهيونية: سوكولوف، وايزمان، واللورد والتر روتشيلد، وجيمس دي روتشيلد، وهربرت صموئيل، ومن سجل ذلك الاجتماع، من الواضح أن سايكس أبقى على احتمال أن بريطانيا قد تمنح الصهاينة شكلا من أشكال الاعتراف.

وقال إن "فرنسا هي الصعوبة الخطيرة. . . . أراد الفرنسيون كل سوريا" و اقترح سايكس أن يتجه الصهيونيون إلى بيكوت من أجل "وضع وجهات النظر اليهودية" أمامه و "إقناع" الفرنسيين. بحث بعض الصهاينة في الغرفة الفكرة، قائلين أن بريطانيا يجب أن تقوم بهذا العمل، ولكن سايكس اعتقد خلاف ذلك، وادعى جيمس دي روتشيلد أخيرا أن سوكولوف كان "الشخص المناسب" الذي يمكنه "التحدث لليهود الروس أيضا". وافق سايكس على تقديم سوكولوف إلى بيكوت في اليوم التالي.

لماذا كان سوكولوف "الشخص المناسب"؟ هاري ساشر، الذي كان حاضرا في اجتماع لندن، وصف في وقت لاحق مزايا سوكولوف " الدبلوماسي فى الحركة الصهيونية، الدبلوماسي كأنه خريج وزارة الخارجية الفرنسية،  كان له مظهر وسيم، تربية جيدة، له أسلوب متميز، له خطاب لطيف، طريقة في التعبير، حذر، أنيق الملبس، كان وفيا للتقاليد  ورأى الدبلوماسيون والوزراء أنه ينتمي إلى ناديهم، ويتحدث لغتهم، وكان واحدا منهم، يمارس فنهم ويحق له الحصول على امتيازاتهم".

ترك سوكولوف انطباعا بأنه رجل دولة، وإن كان من دون دولة، وتجاوز ذلك إتقانه المذهل لعدد من اللغات الأوروبية، و"سطع في حضور وودرو ويلسون، بول بينليفيه، جورج كليمنصو، وأرثر جيمس بلفور ". وبينما لم يمثل سوكولوف أي دولة، رأى زعماء أوروبا فيه "القليل من يهوذا"، يحمل الجنسية الروسية ويتحدث بالنيابة عن يهود روسيا وبولندا، وقادر على تحريكهم.  

سوكولوف: أربع رحلات حاسمة

 اجتمع سوكولوف مع بيكوت، وعقد عدة اجتماعات ذهابا وإيابا بين لندن وباريس، وبعض التعريج على روما وكل ذلك بالتنسيق الوثيق مع سايكس، و كانت مهمة سوكولوف هي إقناع الفرنسيين ليس فقط بجدوى المشروع الصهيوني، ولكن أيضا فضائل حماية بريطانية على فلسطين، وكما بدا حينها كان كلا الاقتراحين غير معقول بالنسبة للفرنسيين. ومن المعروف أن الصهيونية تمتعت بتأييد كبير بين اليهود الفرنسيين، وكان الفرنسيون قد حصلوا بالفعل على حصة من فلسطين مساوية لبريطانيا في اتفاق سايكس بيكو (التفاصيل التي أبقاها سايكس سرية عن سوكولوف ووايزمان).

إلا أن سوكولوف تمكن ليس فقط من نزع سلاح الشبهة الصهيونية، بل أيضا نجح في استخراج بيانات الدعم، ومعظم الكتب عن إعلان بلفور تكرس فصلا للقصة (مثل كتاب ليونارد شتاين: "سوكولوف في باريس وروما"، و أشعياء فريدمان: "الإنجازات في باريس وروما" ورونالد ساندرز: "سايكس وسوكولوف في باريس وروما" ، وكذلك جوناثان شنير: "سوكولوف في فرنسا وإيطاليا" )، وهنا ملخص سريع لإنجازات سوكولوف:

بعد اجتماعين تحضيريين مع بيكوت في لندن، توجه سوكولوف إلى باريس، في جولتين منفصلتين من المحادثات (يتخللها رحلة إلى روما)، التقى ثلاث مرات جول كامبون، أمين عام وزارة الخارجية وأحد الدبلوماسيين الفرنسيين الكبار، والمرة الثانية كانت لقاء مع رئيس الوزراء ألكسندر ريبوت، ثم إلى بيكوت في لندن، كان سوكولوف يفضل بشكل واضح الحماية البريطانية، غير أنه لم يتطرق للأمر و حتى في باريس شدد بدلا من ذلك على جدوى المشروع الصهيوني وكيف حرك الرأي اليهودي في روسيا وأمريكا.

وقد وصف اثنان من المؤرخين البارزين في السياسة الفرنسية هما كريستوفر أندرو و أ.س كانيا فورستنر نهج سوكولوف بأنه "أكثر دبلوماسية، وأكثر تصالحية، وأكثر تضليلا". وأعرب الفرنسيون عن دعم عام للصهيونية غير أن سوكولوف طلب ذلك مكتوبا، وحصل على طلبه في الرابع من حزيران/ يونيو عام 1917، حيث أصدر له كامبون بسلطته كرئيس وزراء بأنه لن يعارض تصريح بلفور وأنه سيمهد الطريق.

وهنا نص رسالة كامبون المنسية تقريبا " كنت جيدا بما فيه الكفاية في تقديم المشروع الذي يكرس جهودكم الهادفة لتطوير الاستيطان اليهودي في فلسطين، وأنت ترى أن الظروف التي تسمح بذلك  مع استقلال الأماكن المقدسة التي يتم الحفاظ عليها من جهة أخرى، سيكون عملا للعدالة و للجبر وللمساعدة، من خلال حماية دول الحلفاء، في نهضة الجنسية اليهودية [ في تلك الأرض التي نفي منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة]. الحكومة الفرنسية، التي دخلت هذه الحرب الحالية للدفاع عن شعب هوجم خطأ ، والتي تواصل الكفاح من أجل ضمان النصر، تخولني أن أضع تعاطفي مع قضيتك،  التي يتحقق انتصارها بانتصار حلفائها ..ويسعدني أن أقدم لكم هذا الضمان".

وكما لاحظ جيهودا راينهارز، كاتب سيرة وايزمان، فإن خطاب كامبون "في مضمونه وشكله كان أكثر ملاءمة للصهاينة من الصيغة المخففة لإعلان بلفور" الذي أعقبه، قبل الفرنسيون من حيث الاختصاص من حيث "العدالة" و "الجبر"، واعترفوا بالانتماء اليهودي التاريخي للأرض، وربطت الرسالة الصهيونية بقضية جميع الحلفاء، ولم تشر على الإطلاق إلى حقوق غير اليهود.

وقال أندرو كانيا فورستنر"إن الصهاينة لديهم الآن تأكيد مكتوب على الدعم الفرنسي، لكن فرنسا لم يكن لديها أي ضمان للدعم الصهيوني ولا أي احتمال للحصول عليه"، وتم تحييد العائق الفرنسي أمام إعلان بريطاني محتمل.

وأوضح سوكولوف أن "هدفنا" هو أن نحصل من الحكومة [البريطانية] على موافقة قصيرة عامة من نفس النوع الذي نجحت في الحصول عليه من الحكومة الفرنسية ". ولدى وصوله إلى لندن، أودع رسالة كامبون في وزارة الخارجية، حيث حفز روح المنافسة، وحث المسؤولين البريطانيين الذين تعاطفوا مع الصهيونية الآن على أن تحذو بريطانية حذو الفرنسيين.

لم تكن رسالة كامبون الوحيدة التي حصل عليها سوكولوف خلال إقامته القارية. "نعم، نعم، أعتقد أننا سنكون جيرانا جيدين!" هذه الكلمات، التي تحدث بها إلى سوكولوف البابا بنديكتوس الخامس عشر في 4أيار/ مايو 1917، مغادرا تماما النهج الكاثوليكي السابق البعيد عن الصهيونية، وقد حث الفرنسيون سوكولوف على زيارة روما وسهل سايكس هذه الزيارة، وكانوا يأملون بأن يحظى بدعم حكومة أخرى من الحلفاء بمستوى الحكومة الإيطالية، ولكن دعم الكنيسة الكاثوليكية لم يكن جائزة أصغر: فقد كانت تدعي بحقها في الأماكن المقدسة في جميع أنحاء فلسطين، وحافظت، كمسألة لاهوتية، على موقف أن اليهود قد تم نفيهم كعقاب على رفضهم قبول يسوع كمخلص. في عام 1904، التقى هرتزل مع البابا بيوس العاشر، الذي قال له في عبارات لا لبس فيها أن "اليهود لم يعترفوا بربنا، وبالتالي لا يمكننا أن نعترف بالشعب اليهودي".

أكد سوكولوف للبابا  أن الصهاينة سيحترمون حقوق الفاتيكان على الأماكن المقدسة، وتبادلا الضمانات، كما منحت الحكومة الإيطالية سوكولوف تأكيدا على حسن نواياها وتعاطفها، وكان الصهاينة في لندن لم يتوقعوا أن يذهب سوكولوف إلى روما، و عندما فعل، كتب وايزمان  إلى اللورد روتشيلد "أخشى أن يؤثر الكاثوليك ويفرضوا أنفسهم بقوة ويتم التعتيم على القضايا السياسية" ولكن عندما سمع  وايزمان النتائج في الفاتيكان قال أنه هنأ سوكولوف في رسالة "نتيجة رائعة".

في تلك المرحلة، كانت بريطانيا قد تعهدت بشيء، لذلك يمكن أن يغفر سوكولوف لوايزمان، ومع ذلك أعلمه من باريس "حققنا هنا ما لا يقل وربما أكثر مما حققت في بلدك [انجلترا] حيث كنا نعمل منذ ما يقرب من ثلاث سنوات" في الأشهر التي تلت ذلك، عمل وايزمان وسوكولوف جنبا إلى جنب مع سايكس لإغلاق الفجوة وانتزاع إعلان بريطاني بناء على إنجازات سوكولوف في القارة، وقد تم البحث في تاريخ هذه المساعي وتحليلها بعمق كبير، وهنا أيضا، لعب سوكولوف دورا رئيسيا، في صياغة وثائق عديدة، بما في ذلك الصيغة المقترحة للإعلان المقدم من الصهاينة إلى بلفور، كان سوكولوف الذي صاغ عبارة "البيت الوطني".

ولكن جزءا حاسما من القصة تكشف ليس في لندن ولكن في واشنطن، لمجرد أن بريطانيا لن تتحرك أبدا حول فلسطين دون موافقة مسبقة من حلفائها الأوروبيين، لذلك لن تتصرف  دون موافقة الرئيس وودرو ويلسون. في أبريل 1917، أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا (وإن لم يكن على العثمانيين)، فموضعت نفسها كلاعب رئيسي في التسوية المتوقعة بعد الحرب، وهذا حليف آخر يجب إقناعه قبل أن تتمكن بريطانيا من التحرك. هنا، أيضا، كان سوكولوف مؤثرا، إذ كان قد جند لويس برانديز لهذه القضية، حدث ذلك خلال زيارة سريعة  إلى أمريكا قبل الحرب مباشرة، في مارس 1913.

وكان برانديز، الذي عينه ويلسون قاضيا في المحكمة العليا في عام 1916، هو من  قاد الحملة للحصول على موافقة أمريكية على إعلان بريطاني. أبقي برانديز في الصورة الكاملة عن التطورات في بريطانيا وفي القارة؛ كما كتب سوكولوف في وقت لاحق، "كانت المفاوضات في الأوساط السياسية في إنجلترا وفرنسا معروفة في أمريكا، ورحب هناك بحماس بكل نجاح، وكثيرا ما تلقى أيضا مزيدا من الدعم".

كانت مؤسسة السياسة الأمريكية معادية تماما للصهيونية: فالفكرة الصهيونية تبدو غير عملية، وعارضتها المصالح التبشيرية. في أول طلب، في سبتمبر 1917، حجب ويلسون موافقته، و في المرة الثانية فقط في منتصف أكتوبر، عندما تلقى ويلسون النص المقترح من لندن، هل غير رأيه؟ "لقد وجدت في جيبي المذكرة التي أعطيتني عن الحركة الصهيونية"، كتب إلى مستشاره للشؤون الخارجية الموثوق به، العقيد: إدوارد هاوس، وأضاف "أخشى أن لا اقول لكم أنني أتفق مع الصيغة التي اقترحها الجانب الآخر [بريطانيا]، نعم أفعل، وسوف أكون ممتنا  إذا لم تبلغهم  بذلك" وهكذا حتى خارجية ويلسون لم يتم تبليغها.

لحظة حاسمة

"عندما يمنح الدعم البريطاني سيكون بالتعاون والاتفاق مع الحلفاء" أعلن وايزمان في المؤتمر الصهيوني في أيار/مايو 1917، كما كان يعرف جيدا، فإنه لا يمكن أن يكون خلاف ذلك، إذا الفرنسيين والأميركيين، أو ربما حتى الايطاليين قد ألقوا  الماء البارد على المشروع الصهيوني، الذي من شأنه كسر الزخم في لندن، وترك الصهاينة دون إعلان بريطاني. وهكذا فإن الثلاثي سوكولوف، وايزمان، وبرانديز لم يتركوا  شيئا للصدفة، وبفضل جهودهم، عندما جاءت اللحظة الوحشية في الحكومة البريطانية ، يمكن أن يدعوا  موافقة الحلفاء: " ثم قرأ بلفور إعلان متعاطف جدا من قبل الحكومة الفرنسية الذي نقل  إلى الصهاينة، وذكر أنه كان يعلم أن الرئيس ويلسون كان مؤيدا للحركة للغاية".

وكانت رسالة كامبون لا غنى عنها. المؤرخ إشعياء فريدمان، الذي ربما لديه أدلة أكثر من أي شخص، يعتقد أنه من دون ذلك "لما كان هناك وعد بلفور" (يقال أن بلفور قال هذا بنفسه لسوكولوف)، أما بالنسبة لموافقة وودرو ويلسون، فإن مجلس الوزراء الحربي البريطاني أصر عليه؛ وبدون ذلك، كما أشار المؤرخ الدبلوماسي فرانك بريشر، فإن إعلان بلفور "شبه مؤكد" لن يصدر.

بعد هذا، كان إعلان بلفور أكثر من حركة حجر شطرنج وحيد، خلفه وقف الحلفاء، كل من ما بقي هو المضي قدما، وعندما أصدر بلفور وعده أخيرا، لم يشك أحد في أن الحلفاء يقفون بجانب بريطانيا. بعد نشر الإعلان، أكدت جويش كرونيكل من لندن أن الحكومة البريطانية تصرفت "في اتفاق- من دون شك "مع بقية الحلفاء". ووصف الصهيونيون  الإعلان بأنه "اعتراف علني رسمي من قبل بريطانيا العظمى (وهذا هو، من قبل الحلفاء) أن إسرائيل كدولة تعيش وتستمر ". ستيفن وايز، رئيس اللجنة الصهيونية المؤقتة في نيويورك، عرف كل التفاصيل عن تحركات سايكس والصهاينة كما ألمح إلى "أن بريطانيا لا تتصرف وحدها ".

جمع الاصدارات

أصدرت بريطانيا وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917، ولكن الصهاينة فهموا جيدا أن الحلفاء سوف يتعين عليهم إجراء مشاورات مرة أخرى في "يوم السلام" بعد انتهاء الحرب، وأن قبول فلسطين كـ"وطن قومي" لليهود سيكون أمرا متنازعا عليه، فإعلان بلفور فتح فصلا آخر، عمل فيه الصهاينة على إقناع كل حكومة حليفة بتصديقها علنا.

وهنا أيضا، أمسك سوكولوف زمام المبادرة في القارة، ولم تكن مهمة صغيرة، كان الفرنسيون يبردون. كانت أمريكا الآن في الحرب، وروسيا (بعد الثورة البلشفية في تشرين الثاني / نوفمبر 1917) خرجت، وبالتالي فإن الرأي اليهودي في كلا البلدين لم يعد يهم كثيرا (على افتراض أنه كان يهم في  أي وقت مضى)، وكان هناك تغيير في الحكومة في فرنسا منذ خطاب كامبون. وفي كانون الثاني / يناير وشباط / فبراير 1918، عاد سوكولوف إلى باريس، هذه المرة بهدف الحصول على إعلان فرنسي عام دعما لإعلان بلفور، وهناك اجتمع مع وزير الخارجية الفرنسي ستيفن بيشون، وهو صديق قديم، و حصل على شيء لم يتغير في موقف فرنسا منذ خطاب كامبون.

ولكن سوكولوف طلب بيانا رسميا: تأييد فرنسي صريح لإعلان بلفور، وقال سوكولوف لـ "بيشون" إن "اليهود الأميركيين يقدرون ذلك، وهذا سيساعد فرنسا في مؤتمر السلام"، وتسلم  تأييد بيشون الذي نشر في 10 شباط/ فبراير، 1918. بيشون أكد على  "التفاهم  الكامل بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية بشأن مسألة قضية اليهودية في فلسطين"، وكان سوكولوف غير راض عن هذه العبارة التي لم تصل إلى "البيت الوطني" المذكور في إعلان بلفور، حتى أنه دعا بيشون لاستخدام تلك العبارة. في 14شباط/ فبراير، أرسل بيشون رسالة إلى سوكولوف نصت على هذا بالضبط.

جمع الصهيونيون موافقات أخرى، بعضها صريح، وبعضها مع انطباعات، وأهمها جاء من إيطاليا واليابان - وهما الدولتان اللتين ستشاركان مع بريطانيا وفرنسا في مؤتمر سان ريمو وتصبحان أعضاء دائمين في مجلس عصبة الأمم. في أيار/ مايو 1918، تعهدت الحكومة الإيطالية إلى سوكولوف بالمساعدة في "تسهيل إقامة مركز قومي يهودي في فلسطين"، و في كانون ثاني/  يناير 1919، أبلغت اليابان وايزمان أن "الحكومة اليابانية تأخذ علما بتطلعات الصهيونية بكل سرور لتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي  في فلسطين ويتطلعون مع الاهتمام المتعاطف إلى تحقيق هذه الرغبة ". (جاءت موافقات مماثلة من سيام والصين، وهما الدول الأخرى المستقلة في شرق آسيا).

وأخيرا وليس آخرا، في آب/ أغسطس 1918 أرسل وودرو ويلسون رسالة إلى ستيفن وايس يعبر فيها عن "رضاه عن تقدم الحركة الصهيونية. . . منذ إعلان السيد بلفور "، وهو النص الذي كرره ويلسون، وأعلن وايز أن "تخمين البعض" هو أن إعلان بلفور "حاز على موافقة الرئيس"، "قد ثبت الآن كيقين للجميع".

في تشرين الأول / أكتوبر 1917  أدخل ويلسون مبدأ جديدا  في العلاقات الدولية، وهو مبدأ: تقرير المصير، وقال "يجب أن تحترم التطلعات الوطنية"، وقال الرئيس في خطابه "تقرير المصير" وفي 11 شباط/ فبراير 1918" الشعوب لا يمكن الآن أن يسيطر عليها وتحكم  إلا بموافقتها"، من هذه النقطة فصاعدا، اعتبر نقاد  وعد بلفور أن العرب في فلسطين حرموا من حق تقرير المصير كأغلبية، ويلسون نفسه (كما قال لويد جورج) كان "ملتزما التزاما كاملا بوعد بلفور وكان، في الواقع، من المؤيدين المتحمسين للمشروع و المشاركة" وخفف تأييد ويلسون أي شكوك متحالفة حول ما إذا كان إعلان بلفور يتفق مع القاعدة الجديدة للنظام الدولي وكان الثمن بالطبع هو خيانة ويلسون لمبدئه المعلن.

جلب الصهاينة كل هذه التأييد لمؤتمر السلام في باريس في شباط/فبراير 1919. افتتح سوكولوف العرض الصهيوني في المؤتمر قبل وزراء خارجية بريطانيا (بلفور)، فرنسا (بيشون)، الولايات المتحدة (روبرت انسينغ)، إيطاليا ( سيدني سونينو)، واليابان (ماكينو نابواكي)، وفي العصر الذي يسبق الأمم المتحدة وعصبة الأمم، لا يوجد محفل دولي أعلى من ذلك. وتحدث سوكولوف في مقدمته عن إعلان بلفور كما لو كان قد أدلى به جميع الحلفاء: "في خضم هذه الحرب الرهيبة، لكم، وكممثلين عن القوى العظمى في أوروبا الغربية وأمريكا، أصدر إعلان يتضمن الوعد لمساعدتنا، مع حسن النية ودعمكم، لإقامة هذا البيت الوطني الذي يتحقق لأجيال عاشت وعانت".

وفي كلمات سوكولوف المختارة بعناية، تحول إعلان بلفور إلى إعلان للحلفاء، وقد سمح له جهد ضخم في العديد من العواصم أن ينطق بهذه الجملة دون خوف من التناقض.

وكان مؤتمر سان ريمو في نيسان/ أبريل 1920 امتدادا لمؤتمر السلام، وكانت إحدى المهام تجزئة  الأراضي العثمانية السابقة إلى ولايات، تديرها القوى بالنيابة عن عصبة الأمم، واتفقت هذه القوى على أن بريطانيا ستحصل على فلسطين.

ولكن ما التفويض المعطى لها؟ سعت بريطانية بكل جهدها لتضمين فكرة  تسهيل "وطن قومي"، ووعد بلفور، الذي سيصبح  جزءا من القانون الدولي، بناء على إلحاح صهيوني، وهكذا ضمن  وعد بلفور في نص الانتداب.

ويجب الإشارة إلى أنه منذ انتصار سوكولوف في باريس تغيرت الحكومة وكان المفاوض الفرنسي  فيليب ترتيل، يحاول استبعاد وعد بلفور من الانتداب على أساس أنه كان "إعلان غير رسمي أدلت بها قوة واحدة، والذي لم يكن مقبولا رسميا من قبل الحلفاء عموما، "على وجه الخصوص، فإنه " لم يتم قبوله رسميا من قبل الحكومة الفرنسية ".

أجاب اللورد كيرزون، خليفة بلفور في منصب وزير الخارجية، أن ترتيل "ربما لا تعرف تماما تاريخ هذا الوعد" ثم أبرز رسالة بيشون لسوكولوف، وكان المترجم يقرؤها  بصوت عال. "لا يمكن أن نقول أن بيشون لا علم له بأهمية الإعلان،" لاحظ  كيرزون، مضيفا أن بيشون "لم يوافق فقط، نيابة عن حكومته، على وعد بلفور، ولكن قد أضاف في رسالته: "إلى جانب ذلك، يسعدني أن أؤكد أن التفاهم بين الحكومة الفرنسية والبريطانية على هذا الأمر هو كامل".

ورد ترتيل بأنه  "لم يكن بأي حال من الأحوال واضحا أن بيشون قبل الإعلان كله في مجمله"، لكنه بدا كما أنه في النهاية، لا يمكنه التراجع عن تأييد بيشون و تراجع ترتيل، ودخل وعد بلفور كله في ديباجة انتداب عصبة الأمم، وعند هذه النقطة التي حصل فيها على الوضع القانوني الكامل في القانون الدولي الذي صاغته القوى المستعمرة، كان "الوطن القومي" لليهود في فلسطين أصبح التزاما قانونيا للمجتمع الدولي الذي صاغته القوى المنتصرة في الحرب، وجعل الحلفاء بريطانيا "مسؤولة عن وضع حيز التنفيذ للإعلان  الصادر أصلا في 2 نوفمبر 1917، من حكومة صاحب الجلالة البريطانية، واعتمد من جانب الدول المذكورة".

ضعف التعهدات السرية

يلاحظ كريمر أنه كثيرا ما تم وزن قيمة  وعد بلفور مع مجموعة سابقة من الوعود: في عام 1915 وأوائل عام 1916، قدمت بريطانيا تعهدات مختلفة للشريف (لاحقا الملك) حسين في مكة المكرمة، قائد الثورة العربية، في سلسلة من المراسلات المعروفة باسم حسين-مكماهون، في الخطابات، وعد البريطانيون حسين بأنهم سيدعمون استقلال العرب داخل حدود معينة - على الأقل في سوريا وبلاد الرافدين، وربما في فلسطين. كيف كان إعلان بلفور قانونا دوليا، في حين بقيت مراسلات حسين - مكماهون حبرا على ورق؟ الجواب عند كريمر: لم يكن هناك سوكولوف عربي، ولكن أيضا يلاحظ تقرير آخر أن ماكماهون كتب "لم يكن المقصود مني أن أعطي هذا التعهد للملك حسين لضم فلسطين في المنطقة التي وعد فيها بالاستقلال العربي، كان التعهد مفهوما جيدا ".

وبمجرد أن حصل حسين على تعهدات سرية من البريطانيين، لم يبذل جهدا يذكر لاستخراج التزامات مماثلة من حلفاء آخرين، على وجه الخصوص، حاول سايكس أن يضغط على ابن حسين فيصل ليعمل كما فعل سوكولوف ويتفاهم  مع الفرنسيين حول سوريا. فحسب مكماهون شملت وعوده تحفظا رئيسيا، فوعوده باستقلال عربي اقتصرت على  الأراضي "التي بريطانيا العظمى حرة في التصرف بها دون إضرار بمصالح حليفتها فرنسا". ومصالح فرنسا في سوريا (وفلسطين) كانت معروفة جيدا ، ومن المعروف أن هذا كان حافزا قويا للعرب للتوصل إلى فهم شامل مع الفرنسيين، لكن حسين وفيصل لم يفعلا قط، وجاء فيصل إلى مؤتمر السلام في عام 1919 دون أي دعم فرنسي.

ليس ذلك فحسب: لقد أعطيت له التعهدات البريطانية سرا. في مؤتمر السلام في باريس، ذكر لويد جورج الالتزامات البريطانية تجاه حسين كما لو كانت ملزمة لفرنسا، واشار بيشون إلى أن  "هذه المهمة قامت بها بريطانيا العظمى وحدها، وكانت فرنسا لم تعلم بها حتى قبل أسابيع قليلة [من هذا المؤتمر] "رد لويد جورج بأن فرنسا" لم تكن لتقبل الأغراض العملية لتعهدنا للملك حسين، بيشون: " كيف يمكن لفرنسا أن تكون ملزمة باتفاق غير معروف لها؟".

كان بيشون يبالغ في جهل فرنسا، ولكن لأن مراسلات حسين - مكماهون كانت سرية، فإن المعرفة بها يمكن أن تنكر، وكان فيصل قد دخل دورة تصادم مع فرنسا، التي احتلت سوريا في عام 1920 بالسلاح وأخرجته من دمشق، وبالنظر إلى العزم الفرنسي على الحكم في سوريا، كان من الصعب تجنب الصدام، ولكن غياب سوكولوف عربي في باريس جعل ذلك أمرا لا مفر منه.

ولا تقل أهمية تعهدات ماكماهون السرية لحسين فقط في أن العرب لم يعلموا بها إلا بعد فترة طويلة من الحرب، بل لأن إعلان بلفور كان مختلفا تماما: تعهدا "للشعب الراسخ"، قبل كل العالم. تم حجب هذا فقط جزئيا في نسخة تابعة  للإعلان، وفي  حفل عشاء في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1917  قال سوكولوف إن الإعلان "أرسل إلى الرب وليس إلى الشعب اليهودي لأنه لم يكن لهم عنوان، حيث كان الرب لديه واحد جيد جدا".

إعلان بلفور تحول فيما بعد إلى ما سمي بالدبلوماسية العامة، ولم يكن للحركة الصهيونية أي شأن بأي التزامات سرية من النوع الذي قدمته بريطانيا إلى حسين، كما أصر هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897. سعت حركته إلى "ضمانات شرعية عامة" و "لا يمكن إلغاؤها في أي وقت" ، كان لدى هرتزل نظرة متشائمة إلى "التدخلات السرية"، ودعا إلى "مناقشات حرة ومفتوحة للموضوع تخضع للرصد المستمر والكامل من قبل الرأي العام العالمي " كما يزعم كريمر، وكان الهدف من ذلك هو توفير ضمان عام من قبل أي حكومة ذات سيطرة على فلسطين، وإدراج هذا في القانون العام.

في هذا الجانب، كان سوكولوف، وهو صحفي مثل هرتزل، منضبطا تماما لهذا الأخير وهو الذي صاغ عبارة هاسبارا العبرية ("التفسير")، وهي كلمة توازي تماما الدبلوماسية العامة بمعناها الحديث، ورأى سوكولوف أن هاسبارا شكل طبيعي للدعوة الصهيونية بين مستشاري أوروبا، في قاعات التحرير، وفي الخطب العامة.

وقال في خطاب بلندن منتصف عام 1917 "إننا لا نقوم بأي دبلوماسية سرية"، وأضاف "من الواضح أن مثل هذا الأمر مستحيل بالنسبة للشعب اليهودي.. القادة الصهاينة يسعون لتوضيح  تطلعات الشعب اليهودي للسلطات. "في عام 1919 قال إنه أصر على أن" في الإجراءات كلها لا توجد معاهدات سرية، لا الدبلوماسية السرية، في الواقع لا الدبلوماسية ولا المؤامرة، ولكنها تحدد بسلسلة من المفاوضات والخطط والاقتراحات والتفسيرات والتدابير والرحلات والمؤتمرات وما إلى ذلك ".

في حين أن سوكولوف قد يبدو وكأنه دبلوماسي، فإنه تصرف كصحفي،  أخذ كل تأكيد حصل عليه وجعله علنيا، و في منتصف عام 1917 وقال وايزمان لجمهور في لندن أنه من الواضح أن سوكولوف كان "ناجحا تماما" في الفوز على الحكومتين الفرنسية والبريطانية، و "نجاحنا مع الحكومة الإيطالية تجاوز كل توقعاتنا"، وأن البابا بنديكت السادس عشر قد أعطى له "أحر التأكيدات على تعاطفه". (تحولت أخبار سوكولوف إلى نكتة يهودية شائعة : اثنان من اليهود  في ساحة القديس بطرس، يلمحان شخصان واقفان على شرفة البابوية فيسأل أحدهما الآخر: من الذي يقف بجانب سوكولوف؟".

ورغم طلب ويلسون صراحة أن لا يتم الإعلان عن موافقته المسبقة على إعلان بلفور، وأنه لم يكن كذلك، لكن الصهاينة نشروا كل ضمان آخر، وكان لهذا غرض مزدوج: حفز التنافس بين الحلفاء ورفع معنويات الصهاينة، ولكن قبل كل شيء، لا يمكن التراجع عن ضمان مفتوح، يتم إبلاغه إلى جمهور واسع، إلا بتكلفة.

في الواقع، كان قد وعد بلفور صدر أساسا  بمثابة رسالة سرية إلى القادة الصهاينة دون أن يتم تظهيرها من قبل الحلفاء (وهذا يعني، مثل الوعود البريطانية للحسين)، كان يمكن أن لا تدخل أبدا ديباجة قرار الانتداب، وأن تتنصل منه بريطانية في عام 1920 أو 1923، في ضوء المعارضة العربية المتنامية، حيث أصدرت حكومة بريطانية الجديدة أمرا بإعادة النظر في سياسة فلسطين. هل يمكن التخلي عن إعلان بلفور؟ أشارت لجنة المراجعة (تحت اللورد كيرزون) أن الإعلان قد "قبل، ليس في الواقع دون بعض التردد، من قبل كل من حلفائنا، و أقر رسميا في سان ريمو، و برز في معاهدة سيفر الأصلية، وتكرر حرفيا في قرار انتداب فلسطين، الذي قدم رسميا و وافق عليه مجلس عصبة الأمم في يوليو 1922. "في ظل هذه الظروف، كان"  من المستحيل على أي حكومة أن تخرج نفسها منه دون التضحية الموضوعية بالاتساق واحترام الذات، إن لم يكن الشرف ".

 لماذا تم نسيان سوكولوف؟

وبالأساس يطرح المؤرخ الصهيوني تساؤلا عن الكيفية التي تم بها استعادة ذكرى بلفور كمنتج بريطاني فقط، وغياب حكومة أخرى شريكة في المئوية مع العلم أن مئوية تصريح كانبون مرت في الرابع من /تموز/يونيو؟ ويتساءل لماذا فشلت  "إسرائيل" نفسها في تذكير واشنطن وباريس وروما بأدوارها الحاسمة؟

يرى المؤرخ أن السبب هو الذاكرة الانتقائية  فمن السهل أن نفهم لماذا يفضل البريطانيون أن ينسوا أنهم بحاجة إلى موافقة مسبقة من الحلفاء (الفرنسيين على الأقل). في البداية، أراد البريطانيون أن يحوزا على  امتنان اليهود،  وفي وقت لاحق، عندما أصبحت الصهيونية عبئا أرادوا تخفيض "الوطن القومي" بأي شكل من الأشكال وحتى اليوم، يزعم المؤرخ الصهيوني أن البريطانيين يعانون من الذنب الإمبراطوري تجاه الفلسطينيين.

ولكن المؤرخ يرى أنه من مصلحة "إسرائيل" أن تُظهر ما هو عليه، وعد بلفور بالفعل كنتاج توافق معياري بين مصالح الدول المنتصرة في حينه.  ومن المجتمع الدولي الناشئ حوالي عام 1917. لماذا نسيت؟ يتساءل كريمر: هناك سببان برأيه:  أولا، عندما أصبحت بريطانيا القوة الإلزامية في فلسطين، حددت الصهيونية عملها السياسي بشكل حصري تقريبا في لندن، وبعد التسوية السلمية، تبدد التعاطف مع الصهيونية في فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، وعاد الفاتيكان إلى عداءه التقليدي، وأصبحت بريطانيا تقريبا الداعم الوحيد للصهيونية. وقد قضى وايزمان سنوات ما بين الحربين يذكر بلا كلل بريطانيا بالتزامها بتعزيز "البيت الوطني"، مع انخفاض النتائج بشكل مطرد، وكانت استراتيجيته يائسة لتقديم وعد بلفور البريطاني بدقة، بعد أن انبثقت تماما من أعماق التقاليد البريطانية الخاصة المفترضة "الصهيونية غير اليهودية".

أيضا، كتب سوكولوف في التاريخ الجدلي للصهيونية في مجلدين، نشرا  في عام 1919، وهدف إلى إقناع القراء البريطانيين أن وعد بلفور توج قرونا من الحب الإنجليزي لصهيون. إن احتمال أن فرنسا أو إيطاليا أو الولايات المتحدة، قد انعدمت حماستها وبالتالي قتل المسعى في مهده وهذا لم يكن مقبولا للحركة الصهيونية ، ولكن كان هناك سبب ثان. أراد وايزمان الحصول على ائتمان كامل لإعلان بلفور، لتأمينه، وبالتالي قطع كل الجهود التي قام بها سوكولوف في القارة، التي كانت أداء منفردا.

قصة وايزمان وسوكولوف، ووايزمان مقابل سوكولوف، يمكن أن تملأ مقالا أطول بكثير، ويكفي القول بأن كل جانب من جوانب دور سوكولوف في عام 1917 جلب التوتر بينهما.

 في سيرته الذاتية، وصف وايزمان سوكولوف كمن يفتقر إلى "التطبيق العملي"، "لم يكن لديه فكرة عن الزمن"، ادعى وايزمان "، أو معنى الالتزام العملي"، كما زعم كان سوكولوف يعاني من "الإفراط في التنويع في الآراء والقناعات، "و" كان دائما يميل لصالح التوفيق " وهي سمة خطيرة طبقا لكتاب وايزمان.

هذه العناصر من عدم الثقة ظهرت بقوة عندما قبل  سوكولوف البعثة إلى باريس، وايزمان لم يعجبه فكرة انحرافه عن تقاليد مدرسة كواي دورساي، حتى تحت العين الساهرة من سايكس. على وجه الخصوص، يشتبه وايزمان، خطأ، في أن سوكولوف قد يشتري النجاح في باريس مع تنازلات للفرنسيين في فلسطين، ويشجعهم على الضغط من أجل الوقوف على قدم المساواة مع بريطانيا، وقد حذر وايزمان سوكولوف "عملك في فرنسا"، قد يفسر على أنه مفاوضات نيابة عن حركتنا لصالح فرنسا، في  أي حساب  مثل هذا الانطباع يُرى مقبول ".

انتهى وايزمان إلى المطالبة بعودة سوكولوف إلى لندن. من جانبه، نفى سوكولوف فكرة أن مهمته قد تشجع طموحات فرنسية واصفا إياها بأنها "محض خيال"، وأضاف "إما لم تكن قد تلقيت رسائلي"، كما كتب إلى وايزمان "، " أو أنك لم يتح لك قراءتها" وبقي سوكولوف في القارة لمدة ستة أسابيع كاملة، يعمل بمفرده وبالتوازي مع سايكس.

ووفقا لجيهود راينهارز، وكان وايزمان "يقلل من مهارات سوكولوف بوصفه دبلوماسيا"، ولكن بالطبع وايزمان لم يفشل في وضع الضمانات التي جلبها  سوكولوف لحسن استخدامها في بريطانيا، وحتى أنه مدحه بقوة، ولكنه لاحظ أن القول بالحصول على ضمانات كاملة مبالغ به حيث "لدينا ضمانات من أعلى الدوائر الكاثوليكية التي سوف تنظر لصالح إنشاء منزل وطني يهودي في فلسطين"، كان هذا تفسيرا محرفا لكلمات البابا بنديكت لسوكولوف.

ثم، بمجرد صدور إعلان بلفور، عكس وايزمان التروس، وأصبح من عادته تقليل إنجازات سوكولوف. قدم سوكولوف  نفسه شرحا في عام 1918، بعد عودته من باريس حيث حصل على تأييد بيشون لإعلان بلفور: "في مكاتبنا [في لندن]، وجدت وايزمان وأفدت له بنتائج جهودي في باريس، لا أستطيع مقاومة الانطباع بأنه ليس مخلصا، وأن الطموح يأكله كله، ويبدو لي أنه يتجاهل بصورة متزايدة الهدوء والموضوعية، وبدلا من ذلك ينطلق من دوافع شخصية تنبع من قلقه، إنه مشبوه جدا، يخشى منافسيه، ولا يحتج بأي معارضة، وأظهرت له الوثيقة الفرنسية، وقال، هذا أمر جيد جدا، ولكن شعرت أنه رأى أنها نوعا من المنافسة".

وكتب الزعيم الصهيوني الأمريكي ستيفن وايس في وقت لاحق أن "هاوية عميقة" فتحت بين إصدارات سوكولوف و وايزمان عن كيفية صدور إعلان بلفور، وقد أشارت زوجة وايزمان فيرا إلى ذلك في مذكراتها في تذكير المؤتمر الصهيوني الذي عقد في أوائل 1920. وذكرت بعض المندوبين، كانت غريبة نوعا ما من أن يكون رجل واحد من قرية موتول [الروسية] [مسقط رأس وايزمان] قد حصل على إعلان بلفور، وقد شعر اليهود البولنديون على هذا النحو بالذات لأنهم كانوا يفضلون أن يكون ناحوم سوكولوف، والد الصحافة العبرية.

في الثلاثينيات من القرن العشرين، بقي تلاميذ سوكولوف يدعون أن إعلان بلفور هو إنجازه، ولكن سوكولوف لم يفعل عمليا أي شيء لدعم قصته، لم يعكف على كتابة مذكراته، حتى عن الأحداث التي أدت إلى إعلان بلفور، ووفقا لابنه، دون سوكولوف الملاحظات وحتى أنه  بدأ في تقديم المواد، لكنه توفي في عام 1936 دون أن يكتب أي شيء.

وايزمان، على النقيض من ذلك، كرر قصته عدة مرات في كتابه التجربة والخطأ، و كرس جملة واحدة لدبلوماسية سوكولوف قائلا: "كان سوكولوف قد عهد إليه بمهمة تعديل الموقف الفرنسي، والفوز بموافقة إيطاليا والفاتيكان مهمة اضطلع بها بمهارة فائقة "(وهذا، مع الاعتراف بأن" الخطر الرئيسي يأتي دائما من الفرنسيين").

كتب المؤرخ ماير فيريتي "ليس من السهل أن تقرر ما إذا كانت حصة [وايزمان] أكبر من حصة سوكولوف" في تأمين إعلان بلفور. وقد اعترض هذا التأكيد من قبل كتاب لسيرة وايزمان (على الرغم من أن أحدهم نورمان روز، قد اعترف بأن مساهمة سوكولوف كانت "غالبا ما يتم تجاهلها في أعقاب إنجازات وايزمان"). والمشكلة هي أن نسيان شراكتهم، لم تمح سوكولوف  من الذاكرة فحسب، بل أزالت الوعي بالسوابق المتحالفة لإعلان بلفور. أصبح النجاح الصهيوني المبكر في تعبئة الشرعية الدولية قصة تواطؤ بين يهودي بريطاني و بريطاني آخر.

 تراجع بريطانيا عن الإعلان

بحلول أواخر الثلاثينيات كانت بريطانيا تتراجع تماما عن الإعلان؛ في الكتاب الأبيض البريطاني لعام 1939، رأى الصهاينة أنه ألغي تماما،  وقد حجب الكتاب الأبيض، الذي حكم السياسة البريطانية طوال الحرب العالمية الثانية، الهجرة اليهودية إلى فلسطين في الوقت الذي واجه فيه اليهود في أوروبا ما واجهوه وحاولت بريطانيا وضع فلسطين على مسار لتصبح دولة عربية ذات أقلية يهودية.

ومع اقتراب أفول شمس دعم بريطانيا للصهيونية، جادل وايزمان بأن بريطانيا ليس لها الحق في تجاهل أو حتى تفسير إعلان بلفور من تلقاء نفسها. لماذا؟ ليس لأن نصه ظهر في ديباجة ولاية عصبة الأمم. فبحلول عام 1939، كانت العصبة متشابكة، وبدلا من ذلك، استشهد وايزمان بالتزامات الحرب العالمية الأولى التي قدمها الحلفاء الآخرون إلى الصهيونية، وكان لبريطانيا "الحق الأخلاقي" لحكم فلسطين فقط لأن "الدول المتحضرة في العالم" قد منحتها هذا بغرض صريح هو "للمساعدة في بناء الوطن القومي اليهودي"، وفعلت هذه الدول ذلك بسبب الجهود الصهيونية .

واعترف وايزمان بالطابع الحقيقي لإعلان بلفور، فهو لم يضفِ الشرعية على الصهيونية  كانت الصهيونية،  برأيه من خلال جهودها الدبلوماسية بين "الدول المتحضرة"، هي التي شرعت في إعلان بلفور، ولم تعتمد مسألتها فقط على الاتفاق الضمني أو الصريح من قبل قوات الحلفاء، ولكن هذا الاتفاق قد تم تأمينه من قبل الصهاينة أنفسهم - من قبل وايزمان، برانديز، وقبل كل شيء، من قبل سوكولوف المنسي.

الوقت لإصلاح التشوهات

يرى المؤرخ الصهيوني أن الذكرى المئوية لإعلان بلفور هي الفرصة المثلى لإصلاح ما يزعم أنه تشوهات قرن كامل حول وعد بلفور،  وأكبرها هو أن إعلان بلفور نشأ خارج أي إطار شرعي، كمبادرة من السلطة الإمبراطورية التي تتعامل مع نفسها، زاعما أن هذا كذب، ويضيف أن  إعلان بلفور لم يكن فعلا المعزول لأمة واحدة، بل تمت الموافقة عليه مسبقا من قبل قوات الحلفاء التي شكلت توافقا للآراء أصبح بعد ذلك المصدر الوحيد للشرعية الدولية، وقبل توقيع بلفور على إعلانه، وقع قادة ورجال دول ديمقراطية أخرى أسمائهم على رسائل وضمانات مماثلة.

ويزعم المؤرخ الصهيوني أن الذكرى تمثل مناسبة لتذكير الحكومات بمسؤوليتها المشتركة عن تعهد بريطانيا بإنشاء "بيت وطني" يهودي في فلسطين.. في واشنطن وباريس وروما والفاتيكان، يرى أن من المهم للسفراء الصهاينة وأصدقائهم التحدث صراحة عن الدور التاريخي والأساسي لكل حكومة في الإعلان، وينبغي أن يتم ذلك في جميع العواصم التي وافقت على إعلان بلفور بعد صدوره، ولكن قبل أن تكون مشفوعة بالانتداب، وسيشمل ذلك بكين وطوكيو.

وهو يرى أنه يجب التركيز خاصة على الدور الأمريكي حيث  عدد قليل من الأميركيين يعرفون أن ويلسون وافق على إعلان بلفور مقدما، أو أن هذه الموافقة كان لها تأثير حاسم في الحكومة البريطانية، ولم تدخل الولايات المتحدة أبدا عصبة الأمم، ولم تقيم أبدا انتدابا، ولكن في يونيو 1922 أصدر الكونغرس الأمريكي قرارا مشتركا (ما يسمى قرار لودج فيش) يورد النص الدقيق لوعد بلفور ( "الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد إقامة.." إلخ) . ووقع الرئيس وارن ج. هاردينغ القرار في أيلول/ سبتمبر التالي . ويزعم المؤلف أن الذكرى المئوية فرصة فريدة لتذكير الجمهور الأمريكي بهذه الحقائق، وكلها تشير إلى مسؤولية أمريكا المشتركة عن إعلان بلفور.

ويعتبر الكاتب البريطاني المتصهين أن البريطانيين فخورين بدورهم  في خلق دولة "إسرائيل" ورغم ذلك فإن "إسرائيل" لا يمكن أن تنسى أنه في مايو 1939 ألغى البريطانيون من جانب واحد إعلان بلفور، وأغلقوا الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وليس لهذا أساس قانوني، وخلصت لجنة الانتداب الدائمة التابعة لعصبة الأمم إلى أن الكتاب الأبيض "لم يكن متفقا مع التفسير الذي وضعته اللجنة، بالاتفاق مع السلطة الإلزامية والمجلس، دائما على ولاية فلسطين"، ولم تكتف بريطانيا بحرية إعادة تفسير "البيت الوطني" من أجل منع الدولة، ولكن بريطانيا نفت حتى أنها تعني ملاذا، لذلك منعت بريطانيا اليهود في أوروبا من الدخول إلى "البيت الوطني" المعترف به قانونا، و"اليهود يموتون بالملايين" على حد زعمه.

ويزعم الكاتب إن استثنائية وضع اليهود تبرر تجاهل مطالب العرب الفلسطينيين، و إذا كان إعلان بلفور يعتبر الآن مصدرا للاعتزاز البريطاني، فإنه ينبغي اعتبار إلغائه مصدرا للعار البريطاني.