Menu

تقريرخالدة.. جرّارٌ يَحرُثُ الأرضَ بإيمان فلّاح

هند شريدة

المناضلة خالدة جرار

خاص بوابة الهدف

وشى بها الكثيرون وشكوها لأبيها. "الحَقّ يا (كنعان).. بنتك محمولة عكتاف الشباب وبتهتف في المسيرات".

لطالما باغته الواشون في محل الألعاب الذي يقتنيه لكسب قوت يومه هو وزوجته وأطفاله الثمانية، داسّين برأسه ما بجعبتهم من "أحكام العِيْب" التي اقترفتها بِكْرُه في مدينة مُحافِظة كنابلس. فكيف لفتاةٍ بعمر الورد أن تخدش الحياء، وأن تعتلي الأكتاف، وتهتف بوسع حنجرتها ووجدانها للوطن والشهداء والأسرى.

تمخّض جبل النار فولد ثائرة كخالدة في التاسع من شباط 1963، مزيج ما بين الهدوء والاتزان، جذرية في مواقفها، وثاقبة في رؤيتها، تنتمي لقضايا مجتمعها، فتراها تشارك في قضايا تحاكي هموم المواطن. لا تُستفزّ البتّة، وتقابِل اللامنطق والكلام العبثيّ بابتسامة، لتردّ حين يجيء دورها بكل هدوء ودهاء، مقابلةً الثرثرات لأجل الاستعراض بالأدلة المنطلقة من فكرها الراسخ. هي ليست نائبة في المجلس التشريعي فحسب، بل هي الزوجة، والأم، والصديقة والرفيقة والأخت لأكثر من فردٍ وعائلة، و"ظهر من لا ظهر له" كما يصفها المتظلّمون الذين يتوافدون على مكتبها.

خالدة أثناء مشاركتها في فرقة الدبكة في جامعة بيرزيت
خالدة أثناء مشاركتها في فرقة الدبكة في جامعة بيرزيت

تعتبر خالدة جرار أحد أبرز الرموز السياسية والمجتمعية الفلسطينية، فهي حاصلة على ماجستير في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد عملت كمديرة لمؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان منذ العام 1994 حتى عام 2006، لحين انتخابها كنائبة في المجلس التشريعي الفلسطيني والمسؤولة عن ملف الأسرى، وعُيّنت بعدها نائبة لرئيس مجلس إدارة مؤسسة الضمير، وأحد أعضاء اللجنة الوطنية العليا لمتابعة ملف انضمام فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية.

تجرّعت حب الوطن من عائلتها، سيّما أمها وخالها، المناضل "العُتقي" والأسير المحرر المُبعد في الأردن (قدري هنود)، أحد قيادات حركة القوميين العرب. وربما كان الحرق الذي يعتلي رقبتها، جراء حادث انسكاب الشاي، وهي تحتسيه مع خالها الحبيب، العلامة الدامغة لِلُّحْمَة بينهما، والسرّ الذي يؤكد على علاقتهما الوطيدة وتأثّرها لتحذو حذوه.

اعتقلت (خالدة) للمرة الأولى عام 1989، لاذت بالفرار من جندي "إسرائيلي" يلاحقها بعد إحدى المسيرات، وما إن التفتت خلفها حتى رأت أختها (سلام)، وقد تعثرت بحجر، ووقعت في قبضته الملعونة. لم تفكّر (خالدة) مرّتين حتى ركضت نحو أختها لتساعدها، وتفكّها عنه، إلا أن وقعت هي الأخرى في شِباك الاعتقال، ولحقتهم حينها أختهم (نهاية).

ففي يوم المرأة بالتحديد، وبينما كان العالم بأسره يحتفي بيوم المرأة العالمي، احتفت عائلة (الرطروط)، المهجرة من مدينة بيسان المحتلة بطريقة مختلفة، مقدمة ثلاث أخوات على مائدة الوطن، وسرعان ما لحقهم أخيهما (خالد) و(طارق) في قبضة المُحتل أيضًا.

هكذا كان أول اعتقال لها، تبعه ثانٍ وثالثٍ ورابع. تقبع (خالدة) اليوم في سجن الدامون، الذي كان اسطبلاً للحيوانات في السابق، وهي موقوفة منذ أواخر تشرين الأول- أكتوبر 2019، إذ خُطِفَت من عقر دارها بعد ثمانية شهور من الإفراج عنها من اعتقال إداري دام عشرين شهرًا. ليس بعيدًا عن المقاطعة والمربع الأمني، تقطن (خالدة) في بيتها الكائن في البيرة، مع زوجها ورفيق دربها (غسان جرّار) وابنتها (سهى)، في حين تتواجد ابنتها الكبرى (يافا) خارج الوطن. اقتحم جنود الاحتلال منزلها، واقتادوها لمعسكر عوفر حيث جرى تفتيشها، وخضوعها للاستجواب، نُقلت بالبوسطة إلى سجن هشارون في ظروف صعبة، حيث قبعت ما يقارب الثلاثة أيام قبل أن تنتقل من جديد لمركز تحقيق المسكوبية، الذي خضعت فيه لتحقيق قاسٍ، لتُنْقَلَ من جديد إلى سجن (هشارون) ومن ثم إلى (الدامون). رحلة عذاب في "البوسطة" تزيد من معاناة جرّار، حُرِمَت خلالها من استخدام المرافق الصحية، وكأن السجّان يختبر صبرها، ويستنفذ طاقتها.

96814656_559574754978001_1440482656134365184_n.jpg
حرة رغم القيد

قدّمت سلطات الاحتلال لائحة اتهام بحق خالدة تتضمن بند توليها منصب في تنظيم الجبهة الشعبية المحظور بموجب الأوامر العسكرية، ووفقًا للائحة الاتهام الجائرة وغير الشرعية، فإنها ومنذ بداية عام 2014 حتى تاريخ اعتقالها كانت مسؤولة عن الجوانب السياسية والعلاقة مع السلطة الفلسطينية لصالح الجبهة الشعبية.

إن التهمة التي تحاكم عليها خالدة الآن، سبق وأن حوكمت عليها في عام 2015، ما يشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وتعارضًا مع المبدأ القانوني الراسخ دوليًا بعدم جواز محاكمة الشخص عن ذات الفعل مرتين.

الاحتلال يخشى الفكرة

يظل الاحتلال يلوكُ كلّ حين وبكلّ اعتقال لخالدة تُهمةَ الانتماء لتنظيم سياسي "محظور" حسب ادعائهم، كالجبهة الشعبية، هكذا يروي (غسان)، رفيق درب خالدة، مستذكرًا مجريات إحدى المحاكم التي عقدت إبّان محاكمتها في عام 2015، إذ رافع المحامي مستهجنًا اعتقالها، في ظل عدم وجود سبب حقيقي للتوقيف والاحتجاز، فاستنفر الادّعاء حينها ليجاهر بأن خطورة خالدة تكمن في كونها مؤثّرة! وأكمل (غسان) قائلاً: "مناورات النيابة الجائرة التي شهدتُها يومها، تؤكّد حقيقة أن الاحتلال يخشى الفكرة، وخالدة تملكها!".

يتابع غسان مع رجفة الحبّ والاشتياق في صوته: "تشابكُ مثير ومتكامل، بأن تملك امرأة كخالدة الفكر، والقلب، والعاطفة، والوجدان. فهي السياسية المتطرفة في حب الوطن، المناصرة للمظلومين والمسحوقين، والإنسانة التي تتميّز بالحِكمة في تقدير الأمور وموازنتها، إذ كان مكتبها مفتوحًا لاستقبال جميع المواطنين من كافة الأطياف السياسية والطبقات الاجتماعية. في الوقت ذاته، تملك خالدة الحنان والجمال والرقة كزوجة وأم. نفتقدها كثيرًا، فبرغم غيابها، نراها حاضرة في كل زوايا المنزل، وحدها من تُرَتّب تفاصيل حياتنا كأُسرة".

96383142_169254027793510_5835234231537631232_n.jpg
خالدة ورفيق دربها وزوجها غسان جرار في تخريج بيرزيت

لا يكفّ (غسان) عن الإعلان عن حبّه الكبير لخالدة، والمشاعر التي يكنّها لها في ثنايا جُمَلِهِ، أو التصريح مباشرة بوضوح العبارة "خالدة كل شيء لإلي.. خالدة الهوا اللي بتنفّسه.. هيّ أوكسجيني".

لولا الأثير

تقول ابنتها (سهى): "نحن لا نعرف عن أمي شيئًا منذ انقطاع الزيارات والمحاكم في بداية آذار- مارس الحالي. قلوبنا تغلي قلقًا عليها، فلا توجد وسيلة للاطمئنان عليها سوى نقل سلاماتنا باتجاه واحد عبر أثير الراديو"، بالأخص بعد إصدار مخابرات الاحتلال قرارًا بمنع ثلاث معتقلات من إجراء مكالمات هاتفية مع عائلاتهن بدلاً من الزيارات المعلّقة، منهنّ خالدة، ما يزيد الإجراءات العقابية التي تطالها.

تعاني خالدة من أمراض مزمنة جرّاء احتشاء في الأنسجة الدماغية نتيجة قصور التزويد بالدم الناتج عن تخثر الأوعية الدموية، وارتفاع في الكولسترول. تُكمل (سهى): "تحتاج أمي لفحوصات أسبوعية، ولجرعات منتظمة ومحسوبة من مُميّع الدم الذي لا تقطعه بتاتًا، فجرعة زائدة قد تتسبب لها في نزيف داخلي، أو أخرى أقلّ من اللازم قد تكون كفيلة في تخثر الدم وإحداث الجلطات، خاصة وأن أمّي نجت من جلطتين. جُلّ ما نعرفه حتى اللحظة أنه وبفعل جائحة كورونا، عُلّقت جميع زيارات العيادات. ونتساءل جميعًا- مع أبي الذي يعتصر ألمًا عليها- هل يوجد من يعطيها دواءها بانتظام؟ وهل توجد لديها قفازات أو كمّامات، أو حتى منظفات معقّمة في معتقل يفتقد لأدنى مقوّمات الحياة؟".

كَثُرَ الحديثُ بأن سلطات السجون توفّر مادة الكلور بكميات شحيحة، لكن الكلور أصلاً ليس بمادة معقّمة، وانما سامّة تُهيّجُ الجلد، وتُعْمِل الرئة بالسّعال المتواصل. لا يحتمل جسد أمي، البالغ 57 عامًا، والذي نجا من جلطتين في السابق، رَكْبَاً ثقيلاً وفيروسًا مثل كورونا.

المُعزّي.. أمّي أمٌّ لأخريات

"شهدتُ وأنا طفلة صغيرة اعتقال والدي، الذي بقي رهن الاعتقال الإداري مدة تزيد عن سبع سنوات، ولطالما استرقنا السمع -أنا وأختي- لنعرف شيئا عنه، وعن التعذيب الذي تعرّض له حينها، ما أثّر في طفولتنا وتنشئتنا. اعتقدتُ أنّ ما مريّنا به، جعلنا محصّنين ضد صدمات الاعتقال وتداعيته، لكن اعتقال أمي كان ثقيلاً ومؤلمًا، ولا يشبه شيئًا على الإطلاق. ظننت أنني بالغة وقادرة على امتصاص الألم، وأن عملي كباحثة قانونية ومسؤولة عن المناصرة الدولية قد ساعدني ببناء سور أتحكّم فيه بمشاعري، إلا أنّ اعتقال أمي تجاوز كل شيء، لكن ما يعزّيني أن خالدتنا أمّ رؤوم لإثنين وأربعين أسيرة أخرى، يُشاركنها الحياة في زنزانة الأسر".

تعرّضت جرّار لمضايقات عديدة من قبل قوات الاحتلال، منها قرار إبعادها إلى أريحا، قبيل سجنتها الثانية في 2014، والتي تعدّ أيضًا منطقة أ حسب التقسيم الذليل عقب اتفاقية أوسلو، وذلك بحجّة ملف سريّ شبيه بالإداري، الأمر الذي رفضته خالدة، فاعتصمت هي وعائلتها ليل نهار أمام المجلس التشريعي، إلا أن اعتقلها الاحتلال لمدة خمسة عشر شهرًا. كما وأُصْدِرَ قرارًا بمنعها من السفر منذ عام 1998 وحتى الآن، وذلك بعد مشاركتها في الاجتماعات التحضيرية للإعلان العالمي لحماية المدافعين عن حقوق الانسان في باريس.

طبخة العكوب عالنار.. وكلنا منستناكي

أما أختها (نهاية)، طرقت الذاكرة باستحضار طفولتهما سويًا "أتذكرها إما تقرأ أو منغمسة في العمل التطوعي، ونشيطة كعادتها في اتحادات الطلبة. منذ صغرها، وهي تقرأ عن تاريخ فلسطين، وتتخذ من روايات غسان كنفاني تِرسًا لها، شغوفة ومعطاءة، ومن الشخصيات القيادية، التي تُؤْثِرُ الآخرين على نفسها، وتؤثّرُ فيهم أيضًا. وأكملت: كسرت (خالدة) الأعراف في المجتمع ورفضت التقاليد البالية لدينا كعائلة أيضاً، كل مرحلة في حياتها قصّة بحد ذاتها، كانت تؤسس دومًا لنهج مختلف، وتحثّنا على التطور والتقدم فيما نقوم به. فهي مؤمنة وَرِعة بحريةّ المرأة، تزوّجت من صديقها ورفيق دربها أيام الجامعة، بعد قصة حبّ عاصفة، لم تشبها شائبة أسر زوجها، بل استمرّا بحبهما، إذا ما استطاع (غسان) من الكبسولات سبيلاً. حتى مهرها، لم ترضَ خالدة بأن يكون سوى دينارًا واحدًا، وهكذا أسّست لسائر خواتها من بعدها عُرفًا جديدًا في العائلة، لنتّبعه من بعدها".

96791077_315349996113484_7947941976018518016_n.jpg
صورة عائلية لخالدة وزوجها وبناتها يافا وسهى

أما والدة خالدة، الناشطة منذ نعومة أظافرها باتحاد لجان المرأة الفلسطينية، ولها من العمر 80 سنة، تعترف جهارة أمام أولادها وبناتها بانحيازها الكامل لخالدة، "الكل كوم وخالدة عندي كوم تاني". "تصحى ابنتى كل صباح مؤمنة أن لها شيئًا في هذا العالم، فتقوم لتقبض عليه بأظافرها وأسنانها"، هكذا علّمتها وسأظل فخورة بها ما حييت. أقول لها:"اشتقنالك يما يا حبيبتي. طبخة العكّوب اللي بتحبيها عالنار.. كلنا منستناكي".