Menu

معادلة الضغط الفلسطينية

كميل أبو حنيش

مضت سنوات أطول مما تخيلناها على استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي، ولما نتمكن من إحداث ثغرة أو صدعاً صغيراً في هذا الجدار، الذي بات يُمثل عائقاً جديداً وحقيقياً أمام معركتنا الوطنية التحررية، ومنذ خمس عشر عاماً كرس العدو جهوده في محاولة اقناع العالم أن المشكلة ليست بالاحتلال وإنما بالفلسطينيين المنشغلين بخلافاتهم، والذين لا يعرف أحدٌ ماذا يريدون وهم منقسمون إلى قبائل وفصائل متناحرة.

لقد نجحت "إسرائيل" في تسويق فكرة أن العائق أمام الحل السياسي هو انقسام الفلسطينيين، واستطاعت أن تقنع الكثير من الدول والكيانات والزعماء بهذه الفكرة، أما داخل الساحة الحزبية والسياسية "الإسرائيلية" فقد استطاعت حكومة نتنياهو طوال أكثر من عقدٍ من إخماد كافة الأصوات المنادية بضرورة انجاز التسوية مع الفلسطينيين، وبهذا نجحت هذه الاستراتيجية في تهميش القضية الفلسطينية بصورة لم يسبق لها مثل، وبتحييد العامل الفلسطيني كأحد العوامل المؤثرة في الحياة السياسية اليومية.

وفي ذات الوقت سعت لتطوير مفهوم السلام الاقتصادي وتسويقه عالمياً وإقليمياً على أنه المتاح حالياً، وذلك بهدف امتصاص الضغوط الخارجية والداخلية، واشغال الشعب الفلسطيني بتوفير قوته اليومي وبث الأوهام بتطوير واقعه الاقتصادي، حيث سمحت مثل هذه السياسة ببروز مراكز قوى فلسطينية تواطأت مع هذه السياسة، وتقاطعت مصالحها مع مصالح "دولة" الاحتلال في تجميد اللحظة السياسية الفلسطينية المأساوية، والتركيز على الجانب الاقتصادي، وهكذا تَحوّلت القضية الفلسطينية إلى قضايا ثانوية: الرواتب، العمل، جمع شمل العائلات، تخفيف الحصار على غزة، انعاش الاقتصاد الفلسطيني.

أما عن اللوحة السياسية واستعصاء الواقع الفلسطيني في ضوء تمترس الفصائل لاسيما الكبرى منها حول مواقعها ومصالحها، وارتفاع حدة الاستقطاب في الساحة الفلسطينية، فهي مسألة تبعث على الأسى وتفاقم من مستوى الإحباط، وصارت نداءات وجلسات الحوار الوطني التي يجري استحضارها بين الفينة والأخرى مجرد لقاءات للاستهلاك الإعلامي والاستخدام السياسي، والابتزاز والمزايدات، ولم نعد ندري ما هي أولوياتنا في هذه المرحلة العصيبة.

إن الجمود الحاصل، في عملية إدارة الصراع سمحت بتفاقم أزمة المشروع التحرري الفلسطيني، وإذا سألت أي قيادي فلسطيني عن سبل الخروج من عنق الزجاجة، لما تمكن من الإجابة عن هذا السؤال سوى ببعض العبارات المكرورة والمملة، في وقت لم يعد أحد يحتمل استمرار مثل هذا العبث والتبرير والقفز عن الحقائق الساطعة.

إن العجز السياسي عن الاستجابة للتحديات الماثلة ينبع من الرؤية الضبابية، وغياب الاستراتيجية الموحدة المتفق عليها من قبل الجميع، مع التأكيد أن الفرصة لا تزال سانحة لإحراز تقدمٍ على هذا الصعيد، مع إدراكنا أنه لا توجد حلول سحرية للتحرر من المأزق القائم، ومع ذلك ينبغي المحاولة من جديد.

كما يتعين على القائمين على السلطة الوطنية أن يدركوا أن السلطة باتت تمُثّل عائقاً في طريق استكمال مهمة التحرر الوطني، في ضوء اخفاقها في التَحوّل إلى دولة، وفي ظل فشل مشروع التسوية واستعصاء حل الدولتين. أما البقاء في مصيدة أوسلو فمن شأنها أن تبقينا مكبلين بالاتفاقيات التي نقضتها "إسرائيل" ذاتها منذ أكثر من عشرين عاماًن ولم يتبقَ من أوسلو عملياً سوى الالتزامات الفلسطينية، السياسية والأمنية والاقتصادية.

إن "إسرائيل" لا يمكنها التسليم والاذاعان للحقوق الفلسطينية إلا إذا شعرت بالخطر على أمنها ومصالحها الاقتصادية وعلاقاتها الخارجية.

أما الوصول إلى معادلة الضغط الناجعة والقدرة على احراز إنجازات ملموسة، يمكن في قدرة الفلسطيني على استعادة حضوره المؤثر والقوي في الميدان السياسي والدبلوماسي وفي مقدان المقاومة الشاملة، الأمر الذي يرتبط بالضرورة باستعادة الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.

إن ألف باء العملية التحررية الوطنية تقتضي الوحدة الوطنية. وهذه الوحدة مُعطّلة لأنها مرهونة للأمزجة، وهذه الأمزجة لا تعكس المصالح الوطنية، وإنما تعكس المصالح الشخصية والحزبية والفئوية الضيقة.

ينبغي مواصلة قرع جرس المخاطر المحدقة بالقضية الوطنية، وضرورة التنبه لما يجري على الأرض قبل فوات الأوان. أما التلكؤ واستمرار التراشق الإعلامي، والمزايدات السياسية، واستخدام الحوار الوطني كوسيلة للاستهلاك الإعلامي، فإنه لن يفيد أحداً سوى العدو، وليس من شأن هذه السياسة سوى إطالة أمد الاحتلال، والسماح له بمراكمة الإنجازات على حساب خسائرنا الصافية.