Menu

واقعيّةُ الرؤيةِ عندَ غسّان كنفاني (أم سعد أنموذجًا)

سعيد بشتاوي

نشر هذا المقال في العدد 40 من مجلة الهدف الإلكترونية

قد قِيل: إنَّ الشعرَ ديوانُ العرب، والحقيقةُ أنّ الأدبَ بشعره ونثره ديوانُ العرب، ووثيقةٌ لكلّ انتصاراتهم وانكساراتهم وحتى أفراحهم وأتراحهم، ولقد أدركَ غسّان هذه الغاية التوثيقية من الأدب إلى جانب إدراكه الغايةَ الإنسانيّة له، ألا وهي أنَّ الأدب وعاءٌ لكل أحاسيس الإنسان ومشاعره.

من يتتبّع نتاجَ غسّان سيجد أنّه مزجَ الغايتين، بغلبة غاية توثيق مرارات الشعب الفلسطيني عن طريق الأدب، يقينًا منه بخلود الأدب في هذه الحياة العابرة، لذلك نجد أنّ غسّان أخذ على عاتقه توثيق حياة الفلسطيني بكلِّ صورها وحالاتها وقد التصق بهموم شعبه، فعايشها وتذوّق مرارة اللجوء والشّتات، فما كان من أدبه إلا أن يكون مرآةً صادقة لحال الشعب المهجَّر المضطهد المقتلع من أرضه، وكان يرى في نفسه كلَّ فلسطيني، بغضِّ النَّظر عن انتمائه السياسي، ولم يكن رومنسيًّا أفلاطونيًّا حدَّ الإفراط كحال غيره من الأدباء؛ لأنّه وجدَ من المعيب أن يسير نتاجُه بعيدًا عن معاناة شعبه، وقد تمرّد على الوسائل الفنيّة الأدبيّة تمرّدًا استطاع أن يجعله وسيلةً فنيًّةً جديدةً، فما كان إلّا إضافةً جديدةً على عالم الرواية والقصة في الأدب العربيّ؛ ومن مظاهر تمرّده تحويله الرمزَ – كما يرى الناقد إحسان عبَّاس - وسيلةً غير ضروريةً؛ جنوحًا منه إلى واقعية النص، وقد وقع غسّان إثر ذلك في صراع حادٍّ بين أن يلتزم الواقعية فيتخلى عن الفنية، وبين أن يلتزم الفنية الأدبية بما فيها من صور موحية، وإشارات بعيدة، وعناصر قصصية كالعقدة والحبكة والحل إلخ.. فيتخلى عن الواقعية، ولكن ببراعة أدبية يخرج غسّان بنص أدبي يحمل كل تلك الصراعات، وكان رمزُه على قلّته وخصوصًا في رواية (أم سعد) التي سأستند عليها في دراسة واقعية الرؤية عند غسّان وفي رواية (ما تبقّى لكم) ورواية (عائد إلى حيفا).. قليلَ الحضور في الروايات المذكورة وحاضرًا في (رجال في الشمس) التي حملت صرخة (لماذا لم يدقُّوا جدرانَ الخزّان؟) فكان هذا السؤال استنكاريًا لاستكانة الشعوب لحكوماتهم – الخزّان وأضحى أبو الخيزران كما يرى الدكتور إحسان عبّاس رمزًا للحكومات والقيادات العربية التي أصابها العجز إبّان نكبة 1948.. وعلى كلٍّ فقد كان عمله بنظري واقعيًّا أكثر منه خياليًّا، فهو يريد من نصِّه أن يكون واضحًا مقروءًا مفهومًا لأيِّ قارئ على اختلاف درجة ثقافته ووعيه؛ لذلك يتَّخذُه وسيلةً فنيةً أدبيّةً يشرح من خلالها رؤيته للواقع الفلسطيني الممزّق. وقد جهدت كي أحدد أيَّ الأعمال أكثر واقعية عنده فوجدتُ رواية (أم سعد)، ولكن قبل الدخول في هذا الحيِّز الضيّق من الدراسة، أجيب على سؤال قد يطرحه القارئ، ما الواقعية؟

  • الواقعية الأدبية: مذهب أدبي يلتزم فيه الكاتب بكتابة الواقع الاجتماعي كما هو في حالته، مبتعدًا عن الأفلاطونية وزركشة الواقع وتجميله، ويحيلنا الدكتور شكري عياد في كتابه (المذاهب الأدبية ص128) إلى أن الواقعية الأدبية تُعنَى بالنّاس العاديين سواءً أكانوا أخيارًا أم أشرارًا، وما فيهم من أخلاق وعادات وما تعرّضوا له من أحداث ووقائع فعلوها، أو فُعِلت بهم، وتصوير واقعهم تصويرًا صادقًا بما فيه من حالات مختلفة، وتسعى لكشف حقيقة الإنسان، والواقعية تزدهر خصوصًا في النظم الديمقراطية، والحالة الوطنية، وفي حالة العلمية، ولا شكّ أن الحالة الفلسطينية فيها شيء من حرية الحركة الأدبية لاختلاف مشارب التنظيمات الفلسطينية، ولا شك أن الحالة الوطنية الفلسطينية حيّة لأنها ما تزال في حالة تحرر وطني، ولا شكّ أن غسّان يؤمن بالاشتراكية العلمية، وهذه المعطيات الثلاثة جعلت الواقعية تزدهر في صفحات غسّان. وليس من المبالغة أن نقول إنّ غسّان كان جدليًّا في صناعة واقعية نصِّه؛ إذ احتاج أن يجمع بين نقيضين وصولًا لهذه الواقعية ونقيضتها الصورة الأدبية، وهذا ديالكتيك جدلي أدبي، استنبطه غسّان من قراءته المادية الجدلية، وسنجد ذلك في رواية (أم سعد) وانطلاقًا من العنوان، فإنّ أمّ سعد تتعدّى حدودَ الأم التقليدية، هي رمز الحنان والرأفة لأنها أم، وهي رمز للسعادة لأنَّ ابنها سعد، وهي أم الفدائيين لأنَّها دفعت بابنها إلى العمل الفدائي، وهي بنت المخيم لأنها عاشت فيه، وعلى سعة وثقافة غسّان إلا أنّه يُخضع ذاته لأم سعد، هي معلمته وهي كل الجماهير التي يتعلّم منها وسيعلّمها، وخضوع صاحب النص لشخصياته يعني المدى الكبير لتعايش الكاتب مع نصه، وكانت أم سعد صورة الكل في الواحد (ومع ذلك فأمُّ سعد ليست امرأةً واحدة..).

يُدخلنا غسّان مباشرةً إلى مناخ الرواية القاسي، إذ تمشي أم سعد تحت شمس ملتهبة في صباح تعيس، فهي (تصعد من قلب الأرض..) هذه الصورة تستحيل واقعًا لأنَّ الكل الفلسطيني يشقُّ الأرضَ وصولًا لحياته، وبعد تفجّر القتال تختفي أم سعد وتعود بعد الهزيمة لتبصق في وجوه الجميع وقد (قاتلوا من أجلها وخسروا وخسرتْ مرّتين..) وفي الحقيقة من خسرت هي فلسطين التي قُوتِل من أجلها فخسرت مرات، كما يجعل غسّان صورة الريف في صورة أم سعد جزئين بجزء (دخلت أم سعد ففاحت في الغرفة رائحة الريف) ويؤكّد غسان ريفيّةَ أم سعد (جبينها الذي له لون التراب..) وكأن هذه الصورة توحّد أم سعد بالتراب وبالعكس، ثم يحيلنا غسّان إلى صورةٍ غير تقليدية للحبس حين تصف أم سعد أن كلًّ شيء حبس (الراديو – المخيم – الجريدة – الباص – الشارع..) هذه صورة جديدة وواقعية لحبسنا وزنزانتنا، ثم تَعلَمُ أمُّ سعد بذهاب ابنها إلى الفدائيين فتحزن، ويظن القارئ أنَّ حزنها بسبب ذهابه، ولكن حزنها في الحقيقة سببه قولُها: (أودُّ لو عندي مثله عشرة..) بهذه البراعة المكثّفة يرسم غسَّان صورة الأم الفلسطينية الدافعة أولادَها للقتال.. وفي صباح ماطر تدخل أمُّ سعد الخيمة مبتلة بماء المطر.. تبكي، فيصور غسان بكاءَها وحزنها كأنه جبل يتفجّر بهموم كل المخيم الذي طاف بالماء وكان رجال المخيم يحاولون جرف الوحل وسعد يشاهدهم باستغراب حتى قال لهم: (ذات ليلة سيدفنكم هذا الوحل..) فيرد أبوه: (هل تعتقد أنه يُوجَد مزراب في السماء وعلينا سدُّه؟!) وهنا يبدو سعد مفكِّرًا في عبارة أبيه (كأنه سيذهب في اليوم التالي ليسد ذلك المزراب)، ولكنّ الناظر في هذا الحوار القصير، سيظنه حوارًا بسيطًا عابرًا، لا ليس كذلك، فسَعد سيغلق مزراب الألم والمرارة والمعاناة؛ والمزراب هو الاحتلال، وكان سعد وحده من يدرك حقيقة المزراب، وبعد، تتفجّر أم سعد فرحًا عندما يهديها ابنها سيارة، ولكن سيارة إسرائيلية منسوفة بقنابل الفدائيين الذين عادوا سالمين، ثم يبدو في كفّ أم سعد جرح بسبب سحبها (واوي) من تحت سلك شائك وكان الواوي قد سرق دجاجة لها، ولكن هذا الجرح لم يكن جرحًا ماديًّا وحسب، لأن الكنفاني يربط عودة سعد – الفدائي بالتئام جرح أمه، ولكن الحقيقة أنّ ذلك السلك قد صار رمزًا للاحتلال وبفناء السلك – الاحتلال سيعود سعد، يشف غسّان ههنا عن واقعية مُوجِعة باحترافية أدبية، ثم يرسم لنا شخصيتين كانتا رمزين لحالتين سادتا زمن الرواية. هما شخصية (عبد المولى) صاحب رأس المال الذي لديه من الرجال ما لديه وشخصية (فضل) ذلك الرجل خشن الملمس حافي القدمين تعب الجسد، وكان من أوائل من صعد إلى الجبل وقاوم الإنكليز واليهود إلّا أنّ الناس بعفويتها تصفّق في إحدى الحفلات لعبد المولى هذا الذي خرج إليهم يخطب عن الانتصارات والثورة، وكان فضل وحده يعرف الحقيقة التي يجهلها الكثير، وهاتان الشخصيتان ترمزان إلى نقيضين وجود الآخر يرتكز على فناء الأول، وبالعكس، أما شخصية فضل فمثّلت الكادحين والثوار الذين ثاروا بلا صخب، وشخصية عبد المولى تمثل الفئة التي تجعجع ولا تطحن، وينتهي الصراع بينهما بموت فضل، ثم يبيِّن لنا أن حجابَ شعبِنا الفلسطيني الذي يحميه من الذل والهوان لم يعد تقليديًّا مستندًا لبعض بهلوانات الشيوخ بل أصبح الرصاصة تلك الرصاصة التي كانت تعلِّقها أم سعد على صدرها هديًة من ابنها، وبالفعل أصبحت صورة الرصاصة – الحجاب واقعًا لأنّ صراعنا مع العدو صراعٌ يحتاج قوّة فقط، ثم تشرق صورة (أبو سعد) الذي كان مستسلمًا في بداية الرواية متشائمًا غير مبالٍ بعد أن ذهب سعد للثوار وبعد فوز ابنه سعيد في صراع قتال مع غريم له في الشارع يتحوّل أبو سعد الذي كان (مدعوسًا بكرت الإعاشة ومدعوسًا تحت سقف الزينكو ومدعوسًا تحت بسطار الدولة..) وقد صار (يمشي مثل الديك) كناية عن فخره بفضل أم سعد وابنيها، وتُختتَم الرواية بإخبارنا أن الدالية التي زرعتها أم سعد في بداية الرواية في أثناء نزولها المخيم قد برعمت وكبرت وطالت، ذلك كله ازدهر بفضل التحول الكبير في عائلة أم سعد، وتبرعمُ الدالية بعد هذا العناء الطويل كان رسالة من غسّان أنه لا بدَ للألم أن ينطفئ ذات يوم، وأن المعاناة هي الجسر للفجر.

 

بهذه البساطة الواضحة تتّضح واقعية الرؤية عند غسّان؛ فكل حرف كان واقعيًّا شارحًا حياة المخيم وأهله، وبؤس الجماهير، وحلمهم المالح، كما يؤكِّد غسّان حقيقة أنه ليس كلُّ الشعب كان ثوريًّا؛ حيث لاحظنا وجود شخصيتين متخاذلتين كعبد المولى والمختار. إذًا لم يُكّذب علينا غسّان ولم يُكّذب على نفسه، فالتزم الواقع كما هو واتّضحت رؤيته وتركنا نعيش فيها.