عام دراسي جديد بدأ في قطاع غزة، ومع بدء توافد الطلبة إلى مقاعد الدراسة تدب الحياة في القطاع المنهك، الذي تمرد على الموت مراراً وتكراراً، ومن جديد تُضخ الدّماء في شرايينه ليقف مجدداً قويّا عتيداً مباهياً الأمم، متحدّياً آلة القتل والغدر والدمار، صارخاً بصوت أِشد من الرّعد "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا، ونرقُصُ بين شهيدين، نرفع مئذنةً للبنفسج بينهما أو نخيلا".
تتعالى في الشوارع والطرقات أصوات ضحكات أطفال القطاع، يركضون في الأزقة بحثاً عن سعادتهم البسيطة التي قد تُشترى بقطعة حلوى، ولكن في غزة حتى قطعة الحلوى قد تكون حلماً لدى طفل جائع بات ليلته بمعدة فارغة، قطعة الحلوى تعد رفاهية بثمنها تدبّر الأم لأطفالها طعام العشاء.
بقعة من العالم غالبية سكانها من الفقراء، ظلم ذوي القربى يجلدها، وكأنه لا يكفيها ما وقع عليها من ظلم من أعداء الحياة ومن عدو يتربص بها، وضحية هذا الظلم أبرياء كثر، وأفئدةٌ تمزّقت لعجزها عن تلبية احتياجات أبنائها.
وللاطلاع بشكل أكبر على الأوضاع والظروف الاقتصادية في قطاع غزة، تواصلت "الهدف" مع أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر بقطاع غزة د. سمير أبو مدللة، الذي أوضح أنّ سنوات الحصار والانقسام الطويلة، أثرت بشكل سلبي على جميع المناحي الحياتية والاقتصادية والاجتماعيّة.
ولفت إلى أنّ الإجراءات التي اتُخذت تجاه الموظفين منذ العام 2017 باقتطاع أجزاء من رواتبهم، جعلت قطاع غزة يعيش بأوضاع مأساوية حيث وصلت البطالة في قطاع غزة إلى 49%، "ناهيك عن وجود 170 ألف عاطل عن العمل من بينهم 150 ألف خرّيج جامعي، مشيراً إلى أنّ سيطرة "إسرائيل" على المعابر خلال السنوات الماضية أدّت إلى تراجع القطاع الخاص الفلسطيني.
وقدّم أبو مدلّلة إحصاءات دقيقة حول حجم المساعدات التي يتلقاها أهل القطاع حيث يعتمد أكثر من 70% من المواطنين " 1,060,000 مواطن" على مساعدات الأونروا التي تشهد أزمات مالية تهدّد استمرار تقديم مساعداتها، وما يقارب 83,000 أسرة تتلقى مساعدات من الشؤون الاجتماعية والتي توقفت منذ ما يقارب العامين، و100,000 مواطن يعتمدون على برنامج الغذاء العالمي".
وأفاد أبو مدللة بأنّ جميع هذه المساعدات، مساعدات إغاثية ليست تنموية، بمعنى أنّها تسهم في تحسين وضع الأسر لفترات قصيرة لكن على المدى البعيد لا تحل أزمات.
وتعقيباً على بدء العمل في الفصل الدراسي الجديد، قال أبو مدلّلة: "نحن في أوضاع صعبة وخاصّة أنّ هذا الموسم جاء بعد انتهاء موسم رمضان وموسم عيدي الفطر والأضحى، بالتالي المواسم أصبحت متلاحقة على الأسرة، التي تحاول بالجزء اليسير أن تسيّر أوضاعها وتجهّز أبنائها للمدارس".
وشدّد أبو مدلّلة على أنّ أولى خطوات الحل للتخفيف من معاناة أبناء شعبنا، تتمثل في أن ترفع "إسرائيل" حصارها بشكل كامل عن قطاع غزة، لأن رفع الحصار من شأنه أن يحسن وضع القطاع الخاص الذي يعتبر المشغّل الأكبر والمساهم الأكبر في الناتج ولديه القدرة على استيعاب أعداد لا بأس بها من العاطلين عن العمل.
كما طالب السلطتين في رام الله وفي قطاع غزة، إلى تقديم مساعدات لهذه الأسر وفق قاعدة بيانات محدّدة تضمن وصول المساعدات إلى محتاجيها، مع ضمان توفير التعليم المجاني وكافة مستلزماته بمراحله الابتدائية والإعدادية والثانوية، إضافة إلى ضرورة تراجع السلطة في رام الله عن إجراءاتها بحق الموظفين وعلى رأسها التقاعد المبكر.
ونوّه إلى ضرورة أن يكون لدى المؤسسات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني برامج راعيّة للطلبة من خلال تقديم مساعدات دورية لهم طيلة العام الدراسي.
من جانبه لفت القيادي في الجبهة الشعبيّة ماهر مزهر إلى أنّ الحصار "الإسرائيلي" لازال يشتد على أهلنا في قطاع غزة بهدف تجويع سكان القطاع وإذاقتهم مزيد من الويلات والمعاناة والفقر والبطالة، وجعلهم في ظروف تحول دون تمكنهم من الحصول على المأكل والمشرب والحاجات الأساسية.
وأشار مزهر خلال حديثه مع الهدف، إلى أنّه "مع بداية العام الدراسي الجديد ودخول ما يزيد عن 1,300,000 -طالب ما يزيد عن نصفهم من قطاع غزة- نجد أنفسنا أمام مجموعة من التحديّات والمسئوليات الوطنية والأخلاقية والإنسانيّة باتجاه جماهير شعبنا الفلسطيني".
وتابع القول: "عند الحديث عن طلابنا نحن نتحدّث عن رصيدنا الوطني الذي من خلاله نستطيع أن نواجه الاحتلال، وإذا عجزنا عن توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية كالتعليم والصحة والظروف المعيشية الملائمة سنكون أمام كارثة خلال السنوات القادمة، ومزيد من المعاناة والمأساة وإشكالية كبيرة تتعلق بالتعليم".
وأكّد مزهر على أنّ هذه المعاناة تتطلب الوقوف أمامها بجرأة ومسؤولية، داعياً المسئولين، والقيادة الفلسطينية لتحمل مسئولياتها بتقديم يد العون والمساعدة، أولاً من خلال صرف كل مستحقات الشئون الاجتماعية، وثانياً عبر تقديم قسائم شرائية لمحدودي الدّخل، من أجل الحصول على الزي المدرسي والقرطاسية.
كما طالب إدارة الوكالة بتحمل مسؤولياتها وتقديم كل ما يلزم سواء من قرطاسية وزي مدرسي وأحذية لكافة الطلاب كونهم لاجئين، داعياً القوى الوطنية والإسلامية للوقوف أمام مسئولياتها الإنسانية والأخلاقية، من أجل تعزيز الحالة الشعبية ودعم صمودها، لبناء جيل واعد يقود عملية التحرير.
وفي مقابلة مع "الهدف"، أشارت السيدة (ن.ع) إلى أنّ بدء العام الدراسي يلقي على كاهلها أعباء كبيرة، نظراً للمتطلبات الهائلة التي يتحتم عليها توفيرها لأبنائها من زي مدرسي وحقائب وقرطاسية ومستلزمات إضافيّة.
وتابعت السيدة: "نحن لا نملك أي مصدر دخل يقيت أسرتنا سوى دخل الشئون الاجتماعية المتقطّع الذي يكاد لا يكفي حتى لتلبية احتياجاتنا الأساسية من مأكل ومشرب.
وأفادت بأنّ كل صباح يحمل "كسرة خاطر" لطفليها -مصطفى بالصف الخامس وهدى بالصف الثالث الابتدائي-، حيث تعجز الأم عن إعطائهم مصروفاً كنظرائهم من الطلاب، فيتجدد مذاق الحرمان في أفواههم.
وواصلت القول: "ألا يكفي أبنائي الصّغار معاناتهم النفسية التي يمر فيها جميع أطفال القطاع، جرّاء الاعتداءات الصهيونية المتواصلة، ليعانوا من الفقر والحرمان، والعوز والحاجة".
وتساءلت أم مصطفى عن دور المسئولين في القطاع في حل مشاكل الأسر المهمشة والمسحوقة، مضيفةً القول: "لماذا لا يجد المسئولون آليةً للتخفيف من معاناتنا ومآسينا، آلاف المساعدات تصل إلى القطاع ولا يصلنا منها أي شيء".
ومع تنهيدة أفصحت عن حجم المعاناة التي تقاسيها أم مصطفى، تتوالى الأسئلة في أذهاننا، أي مستقبل ينتظر هذا الجيل الذي حرم من أدنى حقوقه التي تكفلها المواثيق الدولية والإنسانية؟، وإلى متى ستستمر سرقة أحلامهم وطموحاتهم وآمالهم؟.