Menu

هل ما زالت أمريكا اللاتينيّةُ الحديقةَ الخلفيّةَ للولايات المتّحدة؟

اسحق أبو الوليد

نشر في العدد 41 من مجلة الهدف الرقمية

كاتبٌ سياسيٌّ فلسطينيّ/ فنزويلا

"إنّ المهمّة المباشرة لنا الآن هي تطويرُ الرأسماليّة في كولومبيا؛ لأنّنا لا نستطيع الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى قبل القضاء على الإقطاع في كولومبيا، وحلّ مسألة الفلّاحين وتوزيع الأراضي وتطوير الإنتاج الزراعي، وسنعملُ من أجل فتح حوارٍ مع الولايات المتّحدة دون أن نستثني أحدًا، وأن يضمَّ الجميع؛ لأنَّ في ذلك مصلحةً مشتركةً للولايات المتّحدة، وكلّ دول القارة" من خطاب الفوز للرئيس الكولومبي الرفيق غوستابو بيترو.

في السابعِ من شهرِ آب الماضي أقسمَ الرئيسُ الجديدُ لكولومبيا، غوستابو بيترو، اليمينَ الدستوريَّ مدشّنًا عصرًا جديدًا لكولومبيا، بل وللقارّة اللاتينيّة، التي خضعت لحكم اليمين الرجعيّ المحافظ منذ أكثرَ من مئتين عام؛ أي منذ انقلاب خوسي انطونيو بايس وسنتاندير، أهم القادة العسكريين ورفاق بوليفار في حرب التحرير من الاستعمار الإسباني، على المحرّر سيمون بوليفار، وإنهاء حلمه بإقامة كولومبيا الكبرى، وتكريسهم للنزعة الرجعيّة الانفصاليّة ال قطر يّة الإقطاعيّة، التي شكّلت أحد أهمّ مداخل الولايات المتّحدة ومسالكهم للسيطرة على القارّة اللاتينيّة بأكملها، واعتبارها ملكيّةً خاصّةً لها وحديقتها الخلفيّة.

المحرّر سيمون بوليفار، صاحب النظرة الاستراتيجيّة الثاقبة، كان قد حذّر من نوايا الولايات المتّحدة ومن خطّتها واستراتيجيّتها المتعلّقة بالقارّة اللاتينيّة، ومن أطماعها فيها، وقد عبّر عن ذلك بعباراتٍ واضحةٍ وحاسمة. ففي هذا السياق قال: "مسكينةٌ هي المكسيك كم هي بعيدة عن الله، وكم هي قريبةٌ من الولايات المتّحدة"؛ مستشرفًا الأطماع الجغرافيّة للولايات المتّحدة بأراضي هذا البلد الحدوديّ معها، التي لم تتأخّر في غزو شماله، واقتطاع مساحاتٍ واسعةٍ منه وضمّها لولاية تكساس التي أصبحت معظم أراضيها هي أراضٍ مكسيكيّة. وأيضًا أدرك بوليفار مبكّرًا الطبيعة العدوانيّة للولايات المتّحدة، بل انفرد في هذا الإدراك، من أنّها "ستغرق شعوب القارّة بالدماء باسم الدفاع عن الحريّة والديموقراطيّة"، والواقع أثبت أنّها لم تُغرق بالدماء شعوب القارّة فقط، بل كلّ شعوب العالم، وأخذت تهدّد الوجود البشريّ نفسه؛ بسبب مخزونها الهائل من القنابل الجرثوميّة والنوويّة وتلويث تجاربها ومصانعها للطبيعة والبيئة.

أمريكا اللاتينيّة، كما وطننا العربيّ؛ أحكمت عليها الولايات المتّحدة، بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، قبضتها الحديدية لنهب وسرقة ثرواتها، من قبل الاحتكارات ومتعددات الجنسية ونصًبت أنظمة ديكتاتورية رجعية وفاشية؛ مارست أقسى أنواع الاضطهاد والبطش بحق شعوبها، التي لم تكف عن النضال وتقديم التضحيات لإسقاط حكوماتها العميلة والتابعة للمركز الإمبريالي، وأخذت تتسارع خطوات شعوبها للإفلات من النير الإمبريالي، الذي تحررت منه كوبا ونيكاراغوا في زمن عالم القطبين، ولحقت بهم فنزويلا في بداية زمن القطب الأمريكي الأوحد؛ عندما أطاح القائد الراحل هوغو شافيز بحكم اليمين التابع للولايات المتحدة في أهم دولة نفطية وللمواد الخام في القارة.

لقد وصف فيدل كاسترو انتصار الثورة البوليفارية في فنزويلا، بأنه حدث تاريخي وأنه نقل مركز الثقل الثوري في القارة اللاتينية من كوبا إلى فنزويلا التي "سيعتمد على نجاح الثورة فيها مصير العملية الثورية في كل القارة، بما فيه كوبا".

المتحدة هي أيضا استشعرت مبكرا "الخطر الاستراتيجي" للثورة البوليفارية ولمفجرها وقائدها الرئيس الراحل هوغو شافيز، وأخذت تتآمر عليهما وتدعم وتحصن حلفائها في القارة، وخاصة قي كولومبيا التي وصفها شافيز "بإسرائيل أمريكا اللاتينية"، بسبب دور نظامها وحكوماتها منذ عشرات السنين في خدمة الاستراتيجية الاستعمارية للإمبريالية الأمريكية، مما جعل منها المتلقي الثالث للمساعدات والدعم الأمريكي بعد الكيان الصهيوني ومصر، وأعُلن لاحقا عن وجود سبعة قواعد أمريكية في أراضيها بحجة "مكافحة عصابات المخدرات". في الوقت نفسه؛ تم توثيق العلاقات الكولومبية التجارية والأمنية مع الكيان الصهيوني؛ ثاني أكبر شريك اقتصادي بعد الولايات المتحدة، الذي عزز أيضا حجم صناعاته العسكرية في كولومبيا من أجل تمكينها من مواجهة الخطر الذي تمثله عليها فنزويلا، كما صرح ليبرمان خلال جولة قام بها للقارة في أواسط العام 2009، شملت كل من الأرجنتين والبرازيل. وأيضا لعب الكيان الصهيوني دور مباشر في الحرب الداخلية، بدعمه الأمني والعسكري للجيش الكولومبي في حربه على القوى الثورية المسلحة وفي تدريب وتأهيل عناصر النخبة من الجيش الكولومبي داخل الكيان ومشاركة بعضهم في مهام مشتركة في فلسطين المحتلة؛ ضد المقاومة والشعب الفلسطيني في إطار ما يسمى التعاون المشترك بين الطرفين.

من هنا يأتي انتصار اليسار الثوري في كولومبيا ويسار الوسط في كل من الشيلي والبيرو وصمود الثورات الاشتراكية، في كل من: كوبا ونيكاراغوا وعودة اليسار الثوري الى بوليفيا، واحتمال عودة اليسار الإصلاحي إلى كل من البرايل والإكوادور، ووجود حكومة متمردة على البيت الأبيض في المكسيك واليمين الإصلاحيين في الأرجنتين؛ يدلل على خروج معظم أنظمة القارة من القبضة والهيمنة الأمريكية والسير الجدي والحثيث في طريق تثبيت الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية.

إن الولايات المتحدة التي لم تخفِ الأهمية الاستراتيجية للقارة، منذ أن أطاحت بالرئيس اليساري الشيلي المنتخب سلفادور الليندي وتسليم الحكم للجنرالات الفاشين الموالين لها؛ فقد صرح في ذلك الوقت وزير الخارجية هنري كيسنجر أن "أمريكا اللاتينية، حديقتنا الخلفية، لا تكمن أهميتها للولايات المتحدة فقط في المجال الاقتصادي، بل من أجل تثبيت قيادتنا للعالم، لأننا إن لم نحقق السيطرة على حديقتنا الخلفية لن نستطيع أن نفرض أنفسنا لقيادة للعالم؛ إنها أهم مجال حيوي لنا". أما أوباما؛ فقد صرح عندما انتخب كرئيس في المرة الأولى "إن الخطأ الاستراتيجي لبوش أنه عندما ذهب للحرب في أفغانستان والعراق؛ ترك فراغا كبيرا في القارة ملأته الثورة البوليفارية وشافيز، وعلينا أن نستعيد مواقعنا ونفوذنا من جديد". ولكن وبما أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، وشعوب أمريكا اللاتينية وقياداتها أصبحت اللاعب الرئيسي في تحديد اتجاه عملية التطور، التي تسير عكس ما تشتهي الرياح الأمريكية، وتنسجم مع طموحات ومصالح العمال والكادحين والفقراء الذين تم حرمانهم وتهميشهم عبر قرون؛ يؤشر إلى أن الولايات المتحدة ستكون مجبره على التعامل مع الواقع الجديد، على أمل وقف التدهور لنفوذها واحتواء ما يمكن احتوائه للتخفيف من حدة "العداء" لمصالحها؛ مراهنة في ذلك على نفوذها الاقتصادي الذي ما زال هو الأكبر والاشمل؛ نتيجة لعقود، بل قرون من التبعية لاقتصادها، ولكن ليس على أرضية "الحديقة الخلفية" التي أطلقت عليها كولومبيا رصاصة الرحمة، في ظروف دوليه متسارعة التطور؛ تفقد فيها الولايات المتحدة لنفوذها وهيمنتها عالميا، لصالح عالم متعدد الأقطاب كما حلم به الرئيس الراحل شافيز وعمل على تحقيقه.