استخدمت مني بيكر “التأطير” كأداة للتحليل، توضح من خلالها كيف يمكن لسردية واحدة أن تضع في أكثر من إطار بطرق مختلفة وباختلاف الرواة أيضا. لذلك فإن فكرة التأطير هي في حقيقة الأمر فرع عن فكرة رئيسة هي السرد؛ فالصورة أو غلاف الكتاب أو الصحيفة هو إطار لسردية معينة، وفي بعض الحالات يكون هو سردية في حد ذاته أو يشير إلى سردية معينة. لذلك تبدو فكرة التأطير مركزية بالنسبة لــ بيكر؛ فهي تلعب دورًا هامًا في فهمنا وتقديرنا للسردية نفسها.
في ترجمة كتاب “صمويل هنتنجتون” الشهير، “صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، قدم د. صلاح قلنصوه مقدمة مطولة يفند فيها السردية الأصيلة التي يحتوي عليها النص الأصلي. يمكن اعتبار هذه المقدمة على أنها إطار للسردية الأصيلة للنص، وكأنه يريد للقارئ أن يقرأ النص بها ويكوّن وجهة نظره من خلالها عن العلاقة بين الإسلام والغرب، الأمر الذي يعتبره قلنصوة السبب الحقيقي وراء الصراعات الحالية، حيث يقول نقلًا عن “هنتنجتون”:
“الدين محوري في العالم الحديث، وربما كان القوة المركزية التي تحرك البشر وتحشدهم”
لن أتحدث هنا عن مقدمة قلنصوة -وإن كانت تعتبر تدخل وتفنيد للسردية الأصيلة -أو حتى ترجمة طلعت الشايب، ما يهمني هي صورة غلاف الكتاب نفسه التي تلعب دورًا مؤثرًا في السردية؛ فهي إطار للسردية الأصيلة ولكن يمكن اعتبارها سردية بحد ذاتها. بالنظر إلى صورة الغلاف ستجد أن العنوان باللون الأصفر مع خلفية سوداء، وصليب في الأعلى يرمز إلى المسيحية، وفي الأسفل تجد الهلال يرمز إلي الإسلام، بالإضافة إلي نجمة باللون الأحمر تفصل الجزء الأول من العنوان (صدام الحضارات) عن باقي العنوان (وإعادة صنع النظام العالمي). من الممكن أن يذهب البعض إلى أن ا اللون الأحمر يرمز إلى الدم ومن ثم الخطر، لكن أقرب تفسير للنجمة الحمراء هو أنها ترمز إلى الشيوعية، خاصة وأن في أسفل الغلاف تجد اقتباسا لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق “هنري كسينجر”، مكتوب اللون الأحمر أيضًا يقول فيه عن الكتاب:
“أحد أهم الكتب التي ظهرت منذ نهاية الحرب الباردة”
يعمل الغلاف، في هذه الحالة، كإطار للسردية في أنه يستبق تفسيرنا الخاص للسردية الأصيلة التي يطرحها الكتاب، وكأنه يريدنا أن نقرأ الكتاب من زاوية يحددها هو لا نحن، نقرأ الكتاب من خلال وجهة النظر التي يطرحها الكاتب ويجادل بها وهي أن الإسلام أصبح بديلًا للشيوعية كخطر جديد يهدد الغرب. أو ربما يكون هو سردية بحد ذاته مُكملة للسردية الأصيلة التي يوضحها الكتاب.
في كتابها “الترجمة والصراع: حكاية سردية”، لم تهتم “مني بيكر” كثيرًا بتقديم تعريفات لا طائل منها حول مفهوم السرد، ولكن بدلًا من ذلك اهتمت بالطريقة التي يكون فيها الناس السردية الخاصة بهم حتى نحدد طبيعة علاقتهم مع الآخرين أو ربما نتفق على تفسير لحدث ما. فالأهم عند بيكر هو معرفة الطريقة التي يكون بها السردية الخاصة بهم، بدلًا من الجدال حول ما إذا كانت سرديتهم موافقة مع تعريف مفهوم السرد أم لا.
ولكن على هذا النحو، ومن خلال دعوة بيكر كل إنسان بتكوين سردية حول حدث ما، فإنه لا يمكن القول بخطأ سردية ما أو حتى القول بأنها ليست سردية. الأمر يبدو وكأن السردية هنا أصبحت مجرد فرضية قابلة للخطأ والصواب، نوع من أنواع التأويل بشكل أو بآخر للنص/الحدث، أو ربما يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك والقول بأنها تفكيك للسردية الأصيلة التي ماتت من كثرة السرديات الفرعية عنها كما مات المؤلف بلغة “بارت”؛ فالسردية الأصيلة موجودة ولكن ليس لها من الأمر شيء! تقديم السردية بشكل مباشر ومن دون وساطة أو تدخل هو أمر مستحيل. وبذلك يكون بحثنا عن السردية الأصيلة ومحاولة إثبات كل منا لسرديته الخاصة هو في الحقيقة بحث عما لا يُدرَك ولا فائدة منه، خاصة في مجتمع لكل حدث فيه أكثر من سردية والكل يجادل بصحة سرديته لتظهر ملامح التفكيك والتأويل علي وجه كل السرديات لدرجة تجعل البعض يتبني سردية ما وسردية أخري على النقيض منها في نفس الوقت!
ربما تدعونا بيكر، وبغير قصد منها، لأن يكون كل منا هو “الرجل العاشر”، الذي يكسر النمط ويخالف النسق العام للسرديات المتداولة، وذلك من أجل إيمان أكثر بصحة السرديات حول ما حدث وما سيحدث. فالمهم عند بيكر، كما ذكرت، هو تكوين السرديات من أجل فهم أكثر للواقع مهما اختلفت الآراء أو تغير تحول هذه السرديات. لكن في النهاية يجب علينا تقديم السرديات بأمانة وبموضوعية قدر الإمكان.
تقول نظرية الرجل العاشر أنه إذا كان ثمة فريق من 10 مختصين، واستقبل هذا الفريق مجموعة من المعلومات وقام بتحليلها بعناية، ثم اجمع تسعة منهم على نتيجة واحدة (سردية معينة)، فإن واجب الرجل العاشر من الفريق، أن يقوم بمعارضة التسعة، والوقوف ضد هذه النتيجة (السردية) المجمع عليها والمدعومة بالأدلة، وذلك بغض النظر عن كونه لا يملك أدلة تنهض عليها معارضته هذه، فقط يختلف معهم.
لذلك ينبغي علي المترجم أن يفكر بنفس استراتيجية “الرجل العاشر” وأن يتعامل بقدر من الحكمة والموضوعية والأمانة مع السرديات التي تقابله، وقبل أن يقوم بترجمة أي سردية معينة يجب عليه أن يحاكم أفكاره الذاتية مهما كان مقتنعًا بها وأن يجعل جزء من عقلة بمثابة الرجل العاشر الذي يعترض حتى علي المُجمع عليه، فإن وجد ما يدحض رؤيته ووجهة نظرة عن سردية ما راجع موقفة وصححه، وإن لم يجد فحينها يكون قد تأكد من صحة سرديته وبالتالي ترجمتها لها. أو ربما يأخذ بنصيحة “مارك توين” لما قال: “إذا وجدت نفسك تسير مع الجموع الغفيرة، فعليك أن تتوقف ثم تعاود أدراجك.”
(المصدر: قُل)