Menu

أوروبا أمامَ فخّ الغاز الروسيّ ولعبة القفز على الحبال

محمد أبو شريفة

نشر هذا المقال في العدد 42 من مجلة الهدف الإلكترونية

على وقعِ الحربِ الروسيّةِ الأوكرانيّةِ الآخذةِ بالتطوّرِ الكميّ والكيفيّ؛ برزت إحدى أهمّ تجليّات هذا الصّراع المتصل فعليًّا بتموضع القوى الفاعلة في القارة الأوروبيّة. وبعد سلسلةٍ من العقوبات الغربيّة المفروضة على روسيا الاتحاديّة؛ بسبب عمليّاتها العسكريّة الخاصّة في أوكرانيا؛ تجلّت عديدُ التحدّيات أمامَ أوروبا مستقبلًا، وأيضًا روسيا التي اتّضح أنّها لاعبٌ أساسيٌّ ومركزيٌّ في هذا الصّراع، وتمتلكُ العديد من أوراق القوّة، بل ومن فائض القوّة المضادة، التي يمكن استنتاجها من الموقف الروسي المعلن على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه على خلفيّة الصراع والتصعيد الغربيّ بأنّنا: "لم نبدأ أي شيء حقًّا بعد". ولكن يبدو أن رياح تصعيد المواجهة بدأت بالتحرك، وذلك مع إعلان شركة "غاز بروم" نهاية شهر آب (أغسطس) الماضي إيقاف توريد الغاز إلى أوروبا حتّى إشعار آخر. وأعقبها بأيام التطوّرات الميدانيّة التي حققتها القوّات الأوكرانيّة في شرقي البلاد ضدّ الجيش الروسي؛ الأمرُ الذي خلق مناخًا دراماتيكيًّا بين الطرفين ورغبةً معلنةً في تحقيق نتائجَ كبرى.

فالحصارُ الاقتصاديُّ المفروضُ على روسيا يبدو أنّه لم يصل إلى نتائجه ومبتغاه في استبعادها من الاقتصاد العالمي، ولم يستطع أن يلحق أضرارًا استراتيجيّةً في بنية الاقتصاد الروسي، بل على العكس من ذلك، فالحصارُ والحربُ رفعا بشكلٍ جنونيٍّ أسعار النفط والغاز، وأضحى الاتحاد الأوروبي بموقفٍ حرجٍ أمامَ سياساته وأمامَ مواطنيه، حيث يعتمدُ على أربعين في المئة من مستورداته المرتبطة بالطاقة من روسيا، هذا الاعتماد حوّل ورقة الاقتصاد إلى موقف عضّ أصابع بين الطرفين. فالفاعل الروسي الذي يمتلك موارد الطاقة بدأ بعملية محاسبة لدول الاتحاد الأوروبي وبمقدار، وعلى إثرها صنفت موسكو أعدائها الفعليين داخل أوروبا ونعتتهم "بالدول غير الصديقة" وعلى رأسها ألمانيا. وضمن هذا السياق تضاعف فائض الحساب الجاري لروسيا أكثر من ثلاثة أضعاف على أساسٍ سنويٍّ في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري إلى مستوى قياسي بلغ 166.6 مليار دولار مع ارتفاع عائدات النفط بينما أثرت العقوبات الغربية على الواردات.

لقد أثبتت السياسة الروسية في إدارتها لموارد الطاقة المصدرة أنها الأقدر على تدفيع الثمن للدول التي تحاصرها، فبات الحديث اليوم عن الأزمة الكبرى التي ستواجه بلدان الاتحاد الأوروبي في الشتاء القادم. فمنذ أشهر والإدارة الروسية تعطي بعض الإشارات الهامة لتفادي العواقب لكن العقلية الاستعمارية للاتحاد الأوروبي لم تشأ أن تلتقطها. وروسيا كانت على الدوام تذكّر الأوروبيين أن مواردها النفطية والغازية المصدرة ستخضع لشروطها وليس لشروط المستورد. هذا الصراع على ما يبدوا قد أخذ مداه ووصل إلى نقطة اللاعودة، وبإعلان روسيا مؤخرا إغلاق خط غاز "ستريم 1" دون أن يحدد سقفا زمنيا لمعالجة هذا الأمر أدى إلى ارتفاع أسعار الغاز30% دفعة واحدة.

وبالرغم من إعلانها بأن سبب الإيقاف هو لأسباب فنية عنوانها "بأني لا أستطيع إصلاحه بسبب العقوبات"، إلا أن الأسباب السياسية واضحة أيضا، فروسيا مقتنعة بالوضع الحالي بشأن خطي غاز "نورد ستريم 1 و2" ومن خلال ما قامت به تريد إرسال رسالة للغرب عنوانها "إما إلغاء العقوبات أو لن يصل الغاز"، وهي معادلة أطلت برأسها سابقا "الغاز مقابل الروبل"، حيث أعلنتها روسيا للعالم أجمع وبالأخص ألمانيا، مفادها بأنه إذا أردتم أن يصلكم الغاز عليكم بالعمل على إنهاء خط غاز (نورد ستريم 2) الذي قمتم بإلغائه سيما وأن احتياجات ألمانيا من الغاز تقدر ب 85 مليار متر مكعب سنويا.

إنها الحرب تأخذ أشكالا عديدة لكن هذا النوع من الحرب المرتبط بموارد الطاقة قد أوصل رسالته البليغة لكل دول الاتحاد الأوروبي وبالرغم من كل التقارير الإعلامية الكاذبة التي تحدثت عن إمكانية الحصول على موارد نفطية بديلة عن روسيا والتي على ما يبدو كانت جزءا من الحرب النفسية التي لم يستسغها صناع القرار السياسي في موسكو، فهم بالنهاية أوروبيين ويفهمون العقل الأوروبي ولهم ذكريات أليمة بسببهم ممهورة بالدم والنار.

هذه الحرب النفسية التي صاغها العقل الغربي كان الهدف منها استكمال الحرب العسكرية المفروضة على الأرض لكن نتائجها جاءت عكس مبتغاهم. ونحن هنا أمام الأرقام المعلنة من جانب عواصم أوروبية تتعلق بفاتورة الطاقة التي ارتفعت أضعافا مضاعفة منذ بداية الحرب في شباط (فبراير) الماضي، فقد ارتفعت فاتورة الكهرباء في ألمانيا 720%، وحذر خبراء ألمان من أنه إذا لم تعاود روسيا زيادة تدفق الغاز إلى ألمانيا فإن سعره سيرتفع بكل الأحوال، وهذا يجلب معه مخاطر اجتماعية كبيرة لأن الأسر الفقيرة لن تستطيع دفع التكاليف المرتفعة جدا للتدفئة، والطبقة المتوسطة لن تستطيع تحمل التكاليف، الأمر الذي دفع سكان العاصمة الألمانية إلى شراء الفحم الذي صار سلعة نادرة على الرغم من الأضرار البيئية التي يمكن أن تسببها. وأعادت برلين تفعيل محطات الفحم، بعدما أصرت لوقت طويل التخلي نهائيا عن استخدامها. والأكيد أن عدة أشهر من الحرب في أوكرانيا كانت كفيلة بخلق الارتباك والذعر لدى الاقتصادات الأوروبية وإعادتها عشرات السنوات إلى الوراء، مع العلم أن الحرب لم تكن على الأراضي الأوروبية! ويخشى القادة الأوروبيون أن تمدد روسيا الانقطاع، من أجل رفع أسعار الغاز، التي زادت بالفعل بنسبة 400 في المئة. وبحسب مراقبين فإن محاولات الاتحاد الأوروبي باعتماد مصادر طاقة جديدة للتخلص من التبعية للغاز الروسي ستدفع بالعالم أجمع إلى انهيار اقتصادي وشيك وسيطيح بالأوروبيين قبل الجميع.

وبهذا الشأن أعلن مفوض الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن الأسابيع والأشهر القادمة ستكون صعبة للغاية، حيث يجب على الأوروبيين أن يكونوا مستعدين لـ "دفع ثمن الحرية والأمن".

ولسنا مضطرين في هذا المقال أن نكون خبراء اقتصاديين نرصد ونحلل بالذي لحق وسيلحق بهذه الدول والتي تشمل مؤسسات الدول ومواطنيها. لكن السؤال المهم المطروح في هذه اللحظة والذي يحمل في طياته تناقضات كبرى يتعلق بالكيفية التي سينتهي بها هذا الصراع، هذه الكيفية التي أصبحت تحتمل خيارات كثيرة ولكن المؤشرات الأولية تقول إن روسيا ما تزال تدير الصراع المفتوح معها بعقل سيادي مقتدر ويمتلك الإمكانيات النافذة وخير دليل على ذلك تماسك الاقتصاد الروسي ومحافظة الروبل على قيمته الشرائية وضبط التضخم إلى أقصى مدى وتفعيل موارد الحرب مع اوكرانيا بالإضافة إلى عقد اتفاقيات اقتصادية ضخمة مع الصين.

أما في الجهة المقابلة نلحظ ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة اليورو دون الدولار الواحد، فسؤال المنتصر حتى هذه اللحظة واضح أمام هذه الأرقام!

ومن الأهمية الإشارة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ليست على قلب رجل واحد فثمة تباينات حادة تجري بينها والذي يقرأ ويتابع الخطاب السياسي الصادر من باريس يدرك أن الموقف الفرنسي يختلف عن نظيره الألماني. فالسياسة الفرنسية ما زالت حتى هذه اللحظة تبحث عن إيجاد مسارات سلمية لإنهاء هذا الصراع مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات موسكو بما يتعلق بأمنها القومي فيما الموقف البريطاني الهارب من الاتحاد الأوروبي يحاول أن يكون صقرا محلقا بعيدا في هذه المواجهة يضاف إلى هذا كله أن الاتحاد الأوروبي مجتمعا محكوم بالرؤية الأميركية لهذا الصراع فبدون واشنطن لا يمكن أن تكتمل رؤية هذا المشهد.

إنه صراع مفتوح وممتد وموسكو ترى أن نهايته ستقوم على عالم متعدد الأقطاب فمسار الدبلوماسية الروسية إلى الآن يقوم على بناء علاقات متوازنة والمتحررة نسبيا من أسر السيطرة الأميركية التي تعيش زمنا مختلفا وأزمات داخلية مرتبطة بالاقتصاد الداخلي فهي الأخرى تعتقد أن إشعال الحروب خارج حدود الولايات المتحدة الأميركية هو الذي سيطفئ نار التضخم الاقتصادي الذاهب إلى الركود ثم إلى الكساد. فلكل لاعب في هذا الصراع أهدافه لكن قوة روسيا تأتي من أنها موحدة سياسيا ومجتمعيا وتدافع عن قضايا مرتبطة بأمنها القومي وبالتالي فإن الصراع بالنسبة لموسكو هو صراع وجودي تريد من خلاله أن تحضر في صناعة القرار الدولي وفق إرادتها وليس وفق إرادة أميركا، وأن تصبح واحدة من أكبر خمس اقتصادات في العالم وذو مركز مالي دولي رئيسي وترسيخ مكانتها كرائدة في الابتكار التكنولوجي والبنية التحتية للطاقة العالمية. ولفهم خلفية وتداعيات الصراع مع أوكرانيا علينا العودة إلى العام 2004، حيث يعد عام التحول في السياسة الخارجية الروسية بالتأكيد على عنوان "أمن المجال الروسي" وذلك على خلفية النوايا التوسعية الأوروبية شرقا ومحاولات احتواءها للاحتجاجات الملونة في المحيط الحيوي ما بعد الحقبة السوفييتية.

أما الاتحاد الأوروبي المصنف أميركيا منذ ثلاثين عاما بالقارة العجوز يعيش أزمات حادة قد تؤدي إلى تفككه وشاهدنا الإشارات المتواترة التي تؤكد ذلك. فأمام أزمة الطاقة ذهبت كل دولة منفردة تحت جنح الظلام للبحث عن حلول لمشاكلها مع أن بعض الدول داخل الاتحاد الأوروبي لم تدخل هذا الصراع أساسا مع موسكو. لأنها تعلم حجم المقدرات الروسية من موارد طبيعية ونفط وطاقة وترسانة عسكرية وتدرك أن الصراع الاقتصادي بين مساحة أوروبا ذات 10 مليون كيلومتر مربع، ومساحة روسيا  ذات 17 مليون كيلومتر مربع، ليس بالأمر السهل، ويكفي أن تراقب بعض الدول الاوروبية بعين العقل أسعار الغاز وقد تخطت (3000 دولار لكل ألف متر مكعب)، حتى تعرف ما سيجني الأوروبيون بأنفسهم من عواقب وخيمة، وبين صقور وحمائم أصبح الاتحاد الأوروبي على طاولة التشريح وفي المحصلة النهائية أوقعت اوكرانيا نفسها في استحقاق مصيري قد تخرج منه عرجاء أو مبتورة القدمين شرقا وغربا.