الموجة الأخيرة من النضال الفلسطيني المستمر، المتذبذب صعودًا وهبوطًا، كما لا يستطيع أحد الإنكار، أعادت الاعتبار من جديد، في الشارع الفلسطيني، للفدائي المطارد من جيش الاحتلال ومخابراته، كواقع مادي، يتجسد في شخص معين، أو كفكرة، يتوق لها المجتمع الفلسطيني، ويأمل بأن تعود يوما ما، كما تم التعبير عنها في لوحة (لا أعرف إن كانت ل ناجي العلي ) تصور الأيقونة "حنظلة" يمسك بيد فدائي ملثم ويقول له "ارجع.. اشتقنالك".
والشوق في اللوحة، ليس محض رومانسي، فهو هنا يأخذ بعدا سياسيًا صارخًا، كتعويض وبديل عن حالة يائسة، غاب فيها النضال وتغول الرضا بأمر الاحتلال الواقع، حيث غاب الفدائي، وحضر ضابط التنسيق الأمني.
من جديد يتحول المطارد الفلسطيني، الفدائي، الملثم حينا، وسافر الوجه حينا آخر، إلى رمز وطني، يثير تعاطف وتضامن وتماثل الفلسطينيين معه، كرمز لنضالهم ضد الاحتلال ولرغبتهم في تأجيج نار هذه المقاومة، من جهة، وكتعبير عن خذلانهم ومستنقع اليأس الذي تم إغراقهم فيه وخيبة الأمل من اتفاقيات أوسلو، التي يعجب المراقب الحصيف على كل حال كيف رأى فيها أي كان، أي نوع من الأمل، وأيضًا خيبة الأمل من الفساد في آليات السلطة الفلسطينية وغياب الأفق السياسي.
هل يعيد التاريخ نفسه، ربما، ولكن الفلسطينيين في الضفة على كل حال ينظرون إلى الفدائيين المطاردين فيستحضرون تاريخًا للمطاردة، منذ مطلع السبعينيات للأكبر سنًا، وبالنسبة للجيل الذي يليهم، يتذكرون مطاردي الانتفاضتين، أما الجيل الأصغر الذي ولد بعد الانتفاضتين، فإنه بالتأكيد ينظر إلى هؤلاء كتجسيد للأساطير التي تحدث عنها كبار السن، اساطير كان الواقع يحاول جاهدًا إجبارهم على إنكارها، ولكن لغرابة الأمر أن من يعيد التاريخ تقديمه كأسطورة، أو من يجعل منه التاريخ أسطورة جديدة هو من المنتمين أصلاً إلى هذا الجيل الأصغر، هل ينتقل هذا بالجينات؟ ربما إذا وافقنا أن المجتمع كائن عضوي وأن له جيناته أيضا التي تنتقل من جيل إلى جيل.
لنذهب إلى التاريخ القريب، مباشرة وبشكل خاص بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة دفاعًا عن جدره المتساقطة، في مايو 2021 ("حارس الجدران")، أصبح محمد الضيف، رمزًا للفلسطينيين في الضفة وكل مكان، بعد إطلاق وابل كبير من الصواريخ باتجاه مدن الاحتلال الرئيسية في أعقاب أحداث الحرم القدس ي وحي الشيخ جراح في القدس الشرقية. لكن في الأشهر الأخيرة، وعقب موجة المقاومة التي اجتاحت الضفة الغربية، برزت رموز وطنية جديدة أصبحت محل تقليد وإعجاب في الشارع الفلسطيني. حيث المطاردون، الجيل الأصغر في العشرينيات من العمر، هم الأبطال الفلسطينيون الجدد، والشارع يدعمهم، والآلاف يشاركون في مظاهرات مؤيدة لهم وهم يأتون أيضًا إلى جنازات الشهداء من رفاقهم الذين قتلهم الجيش المحتل.
جاءت إعادة الاعتبار للفدائي المطارد على دم العديد من الشهداء المكرسين أبطالاً للشعب الفلسطيني، من باسل الأعرج إلى أحمد جرار وأشرف نعالوة ونشأت ملحم وغيرهم الكثير، ليس بدءًا وأعادت موجة المقاومة الجديدة في الضفة الغربية المطاردين إلى الشارع الفلسطيني وأصبحوا مرة أخرى رمزًا وطنيًا وهوية في النضال ضد الاحتلال الصهيوني.
عرين الأسود
يحظى أعضاء جماعة "عرين الأسود" من شبان مطلوبين أو حتى غير معروفين للجيش والمخابرات الصهيونية في نابلس باحترام خاص في الشارع الفلسطيني. ولا يتردد الشارع بحمايتهم، حتى ضد أجهزة الأمن الفلسطينية، المتهمة بالتواطؤ مع المحتل واتبع سياسة الباب الدوار مع المعتقلين الذين يتم إعادة تسليمهم للجيش الصهيوني، وعندما اعتقلت هذه الأجهزة المطارد مصعب أشتيه، في 19 أيلول/ سبتمبر الماضي، اندلعت اشتباكات عنيفة بين آلاف السكان وقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية للمطالبة بالإفراج عنه., وفي تبادل لإطلاق النار بين المتظاهرين وعناصر أمن السلطة الفلسطينية، استشهد مواطن من نابلس وجرح ثلاثة آخرون.
العديد من المطاردين الذين تمكن الاحتلال من اغتيالهم أو ارتقوا في اشتباكات مع جيشه العام الماضي في شمال الضفة الغربية، أصبحوا رموزًا للجيل الفلسطيني الشاب، ومن بينهم إبراهيم النابلسي، وأدهم مبروكة المعروف بـ "الشيشاني"، وبراء لحلوح، وجميل العموري.
صعود المقاومة في الضفة الغربية عزز من مكانة المطاردين، في الشارع الفلسطيني بسبب استعدادهم للتضحية بأرواحهم وشجاعتهم في المعركة ضد جنود الاحتلال، وكونهم يتبنون ويستشهدون من أجل هدف سام مقدس عند كل الفلسطينيين وهو التحرر من الاحتلال الصهيوني، هدف لا يجرؤ حتى ضباط التنسيق الأمني على معارضته عنا.
وبالطبع تشكل الحاضنة الاجتماعية أهمية قصوى في دعم وحماية هؤلاء الشبان، ليس فقط الدعم المادي، بل المعنوي العاطفي أيضًا، وهو أمر مهم للغاية في صمودهم وقدرتهم على التحرك والمناورة، وبالأخص على ثباتهم الوجداني.
الفدائي يعود
في التظاهرات في الضفة الغربية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، يمكنك أن ترى بعض الشخصيات الفلسطينية الجديدة التي أصبحت أيقونات جديدة للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، شخصيات لا تتردد في انتقاد السلطة الفلسطينية، والتهديد بتنسيقها الأمني معه المحتل. من هؤلاء أهالي الشهداء مثلاً، والد الشهيد باسل الأعرج والشهيد مهند الحلبي ووالد الشهيد بهاء عليان وأمهات الشهداء الكريمات المناضلات اللواتي ثأر الشارع الفلسطيني ضد التهجم الأرعن من محافظ نابلس عليهن. والشخصية الأهم اليوم بالتأكيد هي شخصية أبا الشهيدين، فتحي حازم من مخيم جنين للاجئين. وهو والد الفدائي رعد عازم منفذ الهجوم في شارع ديزنغوف في نيسان، أبريل الماضي، ووالد الشهيد عبد الرحمن عازم الذي ارتقى مؤخرا في اشتباك مع وحدات الجيش الصهيوني الخاصة.
فتحي حازم كان عضوا كبيرا في جهاز الأمن في السلطة الفلسطينية برتبة عقيد، وقد أصبح عبد الرحمن، الابن الثاني لفتحي حازم، مطاردا مطلوباً للعدو بعد الهجوم الذي نفذه شقيقه في تل أبيب وبدأ بتنفيذ عمليات إطلاق نار ضد قوات الجيش في منطقة جنين. كذلك رفض فتحي عازم أو (الشيخ المطلوب) تسليم نفسه للاحتلال، عقب استشهاد رعد.
وفي الخطاب الأخير الذي ألقاه بعد استشهاد ابنه عبد الرحمن الذي أعد كمين موت محكم لوحدات الجيش الصهيوني، قبل استشهاده، دعا فتحي حازم عناصر أمن السلطة الفلسطينية للانضمام إلى قوات "المقاومة" بأسلحتهم. وقال "أحثكم على الاصطفاف مع طريق ياسر عرفات ومع طريق شيخ المجاهدين أحمد ياسين. عليكم الوقوف مع المقاومة والحقيقة والوطن، مقاتلونا ليسوا مجرمين".
حازم تحول إلى أيقونة في غزة أيضا، بل وفي الشتات الفلسطيني، وقد اعتنقت جميع فصائل المقاومة هناك كلماته وعلقت صوره مع اقتباسات منه، وبينما يرفض تسليم نفسه لجيش الاحتلال، تكبر أسطورته يوما بعد يوم، ويعلن أنه لا يخشى الاعتقال أو الموت. فيما يزعم مسؤول أمني صهيوني كبير إنها "مسألة وقت فقط حتى يتم القبض عليه أو القضاء عليه".
كما تحظى أمهات الأسرى والشهداء الأبطال باحترام وإجلال خاص في الشارع الفلسطيني، ومن بينهن "أم ناصر" أبو حميد من مخيم الأمعري، وأبناؤها الخمسة هم أسرى حرية، بينما استشهد زوجها وابن آخر على أيدي جيش الاحتلال. وهي تخوض هذه الأيام نضالاً في الشارع من أجل إطلاق سراح ابنها ناصر أبو حميد المصاب بالسرطان والمعتقل في سجن صهيوني.
والسيدة الأخرى هي "أم إبراهيم" النابلسي، والدة الشهيد البطل إبراهيم النابلسي، القائد البارز في مجموعة "عرين الأسد" في نابلس الذي نفذ عشرات عمليات إطلاق النار ضد قوات الجيش المحتل.
إن العواصف التي تسود الضفة الغربية، تنبؤ بحمل عظيم، وتصاعد المقاومة يكسر الأمر الواقع، ويعيد ترتيب أولويات الشارع الفلسطيني، وجيل جديد نشأ بعد الانتفاضتين، لم يرهما ولكنه سمع قصص بطولاتهما، يزعم العدو أن ما يحدث هو نتاج للكبت النفسي والوضع الاقتصادي، ولكن أي ثورة يمكن أن تنهض بدون الغضب الذي يشتعل في الصدور، بدون الرغبة في تغيير العالم أصلاً؟