Menu

أفكار نظرية حول التنظيم الثوري

غازي الصوراني

التنظيم أو الحزب هو، كما يقول "لوكاش"، شكل التوسط بين النظرية والممارسة، بين الهدف والعمل في سبيل الوصول إليه، وإذا كنا نتفق على صحة وموضوعية هذه المقولة، فإننا بالضرورة سندرك أي دور سلبي يلعبه غياب التنظيم فيما يتعلق بالنضال من اجل تحقيق الأهداف الوطنية والديمقراطية على طريق التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.

فإذا كانت المسألة التنظيمية مسألة أساسية، بوجه عام، من مسائل العمل الثوري، فإنها تأخذ أيضا في بلدان العالم الثالث وبلدان الوطن العربي أهمية خاصة، فالحزب أو الجسد التنظيمي يمثل العامل الذاتي في التطور، في حين تشكل علاقات الإنتاج والوضع الاجتماعي _ الاقتصادي ما يمكن تسميته بالعامل الموضوعي، والحال إن أهمية العامل الذاتي في بلادنا كما في بلدان العالم الثالث المتخلف أو الضعيف التطور اقتصادياً تفوق أضعافاً مضاعفة أهميته في بلدان الغرب المتطورة اقتصادياً،

ففي بلادنا، ما زالت الطبقة العاملة هنا ضعيفة، هزيلة النمو، ولا تؤهلها شروطها الاقتصادية_ الاجتماعية الموضوعية لأن تفرز عضوياً حزبها السياسي الطليعي، كما أن الحتمية الاقتصادية الوحيدة هنا هي حتمية الانتقال من النظام شبه الإقطاعي، شبه القبلي والعشائري، إلى أشكال بدائية ووسطية من الرأسمالية الرثة، الكومبرادورية المرتبطة بل الخاضعة أصلا للإمبريالية العالمية، وهذا على وجه التحديد ما يعطي العامل الذاتي، الحزب الثوري، في بلداننا في مغرب ومشرق الوطن العربي، أهمية فائقة، فالمطلوب من الحزب الثوري في هذه البلدان أن يخلق وحدة العمال والفلاحين الفقراء والكادحين، وان يجسد دورهم القيادي معاً بالرغم من ضعف وعيهم الطبقي، فالمطلوب من الحزب لا أن يعرف كيف يستغل الشروط الموضوعية للانتقال إلى الاشتراكية_ فمثل هذه الشروط لا وجود لها في بنية الاقتصاد أو المجتمع _ وإنما أن يخلق هذه الشروط.

هذه الأهمية الفائقة لدور العامل الذاتي في البلدان المتخلفة، تصبح أهمية استثنائية بالنسبة إلينا   في كل اقطار وطننا العربي الذي لا يواجه مشكلة التخلف والتبعية فحسب بل يواجه أيضا مشكلة تحرره الوطني والديمقراطي ومشكلة وحدته القومية.

 

في هذا الجانب، أشير الى أن التفعيل الحقيقي أو الثورة الحقيقية للحزب، لا تحددها قناعته الفكرية أو أيديولوجيته فقط، فلكي تتمتع الأفكار بقوة تحويليه، من الضروري أن يكون التنظيم عاليا عبر وحدته وقوته الداخلية لدعم قوة الأفكار بقوة التنظيم، وبقوة ووضوح الموقف السياسي، والقضايا المطلبية الديمقراطية.

بهذا يتجسد فعلاً الشعار الذي ترفعه الأحزاب والفصائل اليسارية الماركسية في بلداننا حول وحدة الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية، وهي وحدة مشروطة بمستوى كفاءة الهيئات والأفراد والبنى والممارسة الديمقراطية الفعالة داخل الحزب.

 في هذا الجانب علينا أن نتذكر دائماً أن الحزب القوي هو الذي يخلق الإطار الجماهيري وليس العكس، فالعمل الجماهيري لا يستطيع أن يؤطر خلية حزبية واحدة، بهذا المعنى يكون الالتزام في الحزب مقياساً أولياً لاختبار كيفية تطبيق البرنامج والمهام والنظام الداخلي، بما يؤكد على إمكانية توفر شروط مغادرة دوائر الأزمة الى دوائر النهوض عبر خطوات عملية تستهدف استنهاض العامل الذاتي بصورة مباشرة وأساسية، اعتماداً على أسس ومبادئ النظام الداخلي، وبصورة خاصة مبادئ  الديمقراطية المركزية، والقيادة الجماعية والنقد والنقد الذاتي في مناخات وعلاقات داخلية محكومة للممارسة الديمقراطية كأولوية رئيسة لوحدة الحزب ونهوضه بعيدا عن كافة مظاهر الانحراف والجمود. إن تفعيل هذه المبادئ أو المرتكزات الأساسية في فصائل وأحزاب اليسار في الوطن العربي، يرتبط بمدى وعي الاعضاء بالنظرية الماركسية، كنظرية ومنهج في آن واحد، إذ أن هذا الوعي بالنظرية ومنهجها هو المدخل والحافز لوعي كافة القضايا الوطنية والمطلبية الحياتية في مجتمعاتنا بكل أبعادها وتفاصيلها.

إن وعينا بمجمل هذه القضايا النظرية والتنظيمية يتطلب البدء بعملية تغيير نوعي في طبيعة وأداء العلاقات الحزبية الداخلية الراهنة بكل عناوينها ومسمياتها بما يتطابق مع المنطلقات والمفاهيم والأسس الديمقراطية للعلاقات والأنظمة الداخلية من ناحية، وبما يجسد مفهومي الالتزام والانتماء للجبهة من ناحية ثانية، بما يضمن ويوفر عوامل الارتقاء والنهوض الثوري التنظيمي ونقل الحزب أو الفصيل إلى المستوى الذي يؤمن له شروط مغادرة دوائر أزمته الداخلية إلى دوائر النهوض.

إن التنظيم والتلاحم ورص صفوف الحزب إنما يحددهما بالدرجة الأولى تركيبه وبنيانه الديمقراطي، ونظامه الداخلي، الذي يجسد مفاهيم وعناوين آليات العمل التنظيمي لما تتضمنه من رؤى وخطوات عملية، سيشكل الالتزام بها وتطبيقها خطوة هامة على طريق الارتقاء بالواقع التنظيمي إلى مستوى أكثر تقدماً.

وعلى هذا الطريق، تشجيعا للحوار الموضوعي الديمقراطي الهادئ يسرني أن أتقدم الى رفاقي في كافة أحزاب اليسار في بلداننا، بهذه الورقة الهامة التي تتناول قضية "التنظيم الثوري"· عبر محورين:

المحور الأول: المسألة التنظيمية والحالة الثورية في الوطن العربي "جورج طرابيشي"

يرى جورج طرابيشي أن المسالة التنظيمية لم تحتل في نظرية الثورة العربية وممارستها المكانة التي كان يجب أن تحتلها. ففي حين نجد حركات سياسية عربية، تقدمية بهذا القدر أو ذاك، فهي لم تفهم أو لم تحاول أن تفهم أن الشكل التنظيمي المتلائم يشكل هو الآخر شرطاً أساسياً من شروط الإستراتيجية المتلائمة.

صحيح إن "العفوية التنظيمية" التي ميزت عمل معظم الحركات السياسية التقدمية العربية يرجع منشؤها إلى غياب النظرية الثورية لدى هذه الحركات، إلا أن هذه العفوية كان لها أعمق الأثر بالمقابل في بقاء الثورة العربية ثورة تجريبية بلا نظرية.

وفي هذا السياق فان فشل أحزابنا في الاستيلاء على السلطة السياسية استيلاء "حزبياً" إن جاز التعبير قد جاء ليبين الارتباط الوثيق بين التخلف التنظيمي لهذه الأحزاب وبين حدود فعاليتها وسيطرتها على الأحداث، ذلك إن حيوية الشكل التنظيمي وتلاؤمه مع الأهداف السياسية للحزب وفعاليته هي التي تحدد، إلى حد بعيد، قدرة الحزب على التدخل في مجرى الأحداث والسيطرة عليها، وافتقار الأحزاب العربية التقدمية إلى هذه الفعالية التنظيمية هو الذي جعلها تفقد السيطرة على الأحداث والتطورات في اللحظات الحاسمة، فبدلاً من أن تبقى محركة للأحداث، تمشي لاهثة ورائها، ذلك انه إذا كانت الثورة العربية قد أخذت حتى الآن، بوجه عام، شكل الانقلاب العسكري، فهذا راجع على وجه التحديد إلى عجز الأحزاب العربية، وبالدرجة الأولى عجزها التنظيمي، فالتوتر، عندما يبلغ نقطة محددة، لا بد أن ينفرج، وإذا كانت مهمة الحزب هي خلق هذا التوتر في أوساط الجماهير، فان من مهمته أيضا أن يقوده إلى نقطة الانفراج، والحال إن العجز التنظيمي للأحزاب العربية قد جعلها عاجزة أيضا عن إيجاد حل للتوتر الذي تخلقه بعملها التحريضي. ومن هنا يصبح تدخل الجيش، كقوة منظمة، ضرورياً حتى لا يبقى التوتر مجرد توتر مجاني، ونحن بالطبع نتكلم هنا عن الانقلاب العسكري ذي الطابع التقدمي.

وليس الشكل الانقلابي العسكري الذي أخذته الثورة العربية حتى الآن هو وحده الذي يعبر عن الأزمة السياسية والتنظيمية للثورة العربية، فمع تعقد النضال العربي في السنوات العشر الأخيرة، نلاحظ بالمقابل سيرورة انحلال وانقسام في الأحزاب السياسية القائمة، فالأحزاب العربية التقدمية التي ولدت بعيد الحرب العالمية الثانية، والتي تقتصر صفتها التقدمية على الاتجاه الوطني المعادي للاستعمار وعلى الشعارات الاشتراكية العامة العريضة، تبدو وكأنها قد استنفذت مهمتها في الأقطار المتقدمة التي تحررت من الأحلاف والقواعد العسكرية، ذلك إن الأشكال التنظيمية لهذه الأحزاب وأهدافها السياسية والاجتماعية العامة هي أشكال وأهداف كانت تصلح لمواجهة مهام الثورة العربية في مرحلة النضال ضد الاستعمار القديم وضد الحلف الإقطاعي الرجعي. ولكن مع انجاز هذه الأهداف الأولية للثورة العربية في بعض الأقطار المتقدمة، وجدت هذه الأحزاب نفسها وقد أصبحت وراء الأحداث لا أمامها، أو في أحسن الأحوال بموازاتها، الشيء الذي جعل الثورة العربية مهددة بانقطاع الاستمرار وبعدم ضمان مستقبلها.

ظاهرة ثالثة من ظاهرات أزمة الثورة العربية تنظيمياً: الجماهير الوحدوية التي نزلت إلى ساح النضال بعد انفصال وحدة سوريا و مصر عام 1958، فهذه الجماهير، على كثرتها، لم تستطع أن تتقدم بقضية الوحدة العربية إلى الأمام، وهذا على وجه التحديد لأنها تفتقر إلى جسد تنظيمي مدرك بوعي عميق للنظرية الماركسية ومنهجها إلى جانب إدراكه بكل مكونات الواقع الاقتصادي الاجتماعي الثقافي المعاش.

 ففي الغرب المتقدم صناعياً يلعب التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج دورا ايجابيا وموضوعيا لصالح مستقبل الثورة الاشتراكية، والطبقات فيه متمايزة وكاملة النمو بفضل تطور الصناعة، ولا بد بالتالي أن تفرز "عضوياً" أحزابا سياسية تعبر عن مصالحها وتوطد مواقعها، إن نظرية الحزب _ الطبقة، تجد تعبيرها الأمثل في البلدان الغربية الصناعية، حيث يمثل الحزب العمالي الطبقة العاملة فعلاً وموضوعياً، صحيح إن الحزب يلعب هناك دور عامل توحيد للطبقة، وصحيح إن الوعي الطبقي يتفتت ويتجزأ إذا انعدم الحزب، لكن طبيعة الوضع الاقتصادي الموضوعي الذي تعيش فيه الطبقة العاملة يُولِّد باستمرار عوامل توحيد جديدة لا بد في النهاية أن تأخذ شكل حزب. والأمر يكاد يكون على العكس من ذلك في بلدان العالم الثالث وبلدان وطننا العربي هنا ضعيفة، هزيلة النمو، ولا تؤهلها شروطها الاقتصادية_ الاجتماعية الموضوعية لان تفرز عضوياً حزبها السياسي الطليعي، كما أن الحتمية الاقتصادية الوحيدة هنا هي حتمية الانتقال من النظام شبه الإقطاعي إلى أشكال بدائية ووسطية من الرأسمالية، مرتبطة بل خاضعة أصلا للإمبريالية العالمية، وهذا على وجه التحديد ما يعطي العامل الذاتي، الحزب الثوري، أهمية فائقة فالمطلوب من الحزب الثوري في هذه البلدان إن يخلق وحدة الطبقة العاملة وأن يخلق دورها القيادي معاً بالرغم من ضعفها العددي، والمطلوب منه لا أن يعرف كيف يستغل الشروط الموضوعية للانتقال إلى الاشتراكية_ فمثل هذه الشروط لا وجود لها في بنية الاقتصاد أو المجتمع _ وإنما أن يخلق هذه الشروط.

هذه الأهمية الفائقة لدور العامل الذاتي في البلدان المتخلفة، تصبح أهمية استثنائية بالنسبة إلى وطننا العربي الذي لا يواجه مشكلة التخلف فحسب بل يواجه أيضا مشكلة وحدته القومية.

والحال أن تفاوت مستويات التطور بين أقطار الوطن العربي، والارتباط الصميمي بين التجزئة وبين مصالح الاستعمار والرجعية، والدور الانفصالي الذي تلعبه البرجوازية ال قطر ية عندما تنشئ صناعات متماثلة وبالتالي متزاحمة بدلاً من أن تنشئ صناعات متكاملة، إن هذا كله وغيره لا يجعلنا نعتقد بأن التطور "الموضوعي" يسير باتجاه "حتمية" الوحدة العربية، ومن هنا فإن مسألة الوحدة تصبح مسألة إرادة، مسألة وعي، أكثر منها مسألة تطور موضوعي. من هنا أيضا يكتسب العامل الذاتي أهمية خاصة، إن وجود حزب أو أحزاب ثورية عربية تناضل من أجل الوحدة هو الذي يخلق اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إمكانية الوحدة، وهنا أيضا يكون وعي ضرورة الوحدة شرطاً أساسيا لوجودها الفعلي، ولهذا كله قلنا إن المسالة التنظيمية هي اليوم أكثر مسائل العمل الثوري العربي حساسية وأهمية.

وفي هذا السياق يستعرض جورج طرابيشي السمات الأساسية للتجربة التنظيمية العربية عبر ثلاث سمات هي:

1- العفوية التجريبية:

وهذا يعني غياب كل نظرية عن التنظيم، ولا شك في أن التجريبية التنظيمية هي انعكاس للتجريبية السياسية والأيدلوجية، فالحزب الذي لا يملك أيدلوجيا محددة، لا يمكن أن يكون مالكا لرؤية واضحة ولوعي مطابق، وهو لا يُقصِّر في وعي الأحداث وفهمها فحسب، بل لا يستطيع أيضا أن يحدد موقعه هو نفسه من الأحداث ولا أن يدرك عميق الإدراك طبيعة العلاقة بينه وبينها، وفي هذا الجانب فان الوعي الذاتي (وعي الحزب لنفسه ولدوره) هو شرط (ونتيجة) فعالية الوعي الموضوعي (وعي الحزب لتطورات الأحداث).

ولعل أخطر نتائج التجريبية التنظيمية هي أنها تجعل الحزب، المفروض فيه أن يكون ثورياً والمفروض فيه بالتالي أن يكون رداً شاملاً، بسياسته وبحياته الداخلية، على الواقع الفاسد، تجعله يتلوث بالواقع الفاسد وتنقل أمراض هذا الواقع إلى صفوفه.

وخطورة مثل هذه النتيجة تتفاقم في مجتمع كالمجتمع العربي الذي لم يعرف ثورة ديمقراطية جذرية، وإذا كان الحزب الثوري في البلدان الرأسمالية المتطورة هو الأداة الرئيسية بين يدي الطبقة العاملة لتتحرر من استلابها، ولتتحرر من التشيؤ الذي يفرزه النظام الرأسمالي باستمرار، فإنه، في البلدان المتخلفة، التي لم تعرف ثورة ديمقراطية جذرية، الوسيلة الرئيسية، لا بالنسبة إلى الطبقة العاملة وحدها، بل بالنسبة إلى كل إنسان يريد التحرر، لإقامة علاقات إنسانية جديدة متحررة لا من الاستلاب وحده، بل أيضا من شتى أشكال غير الديمقراطية وغير الإنسانية الموروثة من القرون الوسطى كالطائفية والعشائرية والإقليمية.. الخ.

إن الحزب الثوري هو عالم مصغر عن العالم الذي سيوجد بعد انتصار الثورة، عالم يفترض فيه أن يكون صورة أولية عن "ملكوت الحرية" بالمعنى الذي يتكلم عنه ماركس، ولهذا، إذا ما ولد الحزب عفوياً، وأخذ شكلاً تنظيمياً عفوياً وتجريبياً، فإنه يصبح عرضة لشتى تأثيرات الواقع الفاسد، وإذا بأمراض المجتمع المتوارثة من طائفية وعائلية وإقليمية تنتقل إليه، وإذا به يتحول من رد على الواقع الفاسد إلى صورة وانعكاس له.

إن الحزب الثوري، إذا لم يكن يملك حيوية تنظيمية تقيه تأثيرات الواقع الفاسد، يتحول بسرعة، ومهما كان متطرفاً في سياسته الثورية، إلى حزب "واقعي"، حزب غير ثوري، غير نقي وغير مجسد لملكوت الحرية، إن النظرية الثورية هو شرط وجود الحزب الثوري.

2- الانتقائية:

مقابل العفوية والتجريبية التنظيمية، نجد أن الأحزاب العربية، قد تبنت، كرد فعل، النزعة الانتقائية في التنظيم، لذا فإنها افتقرت إلى ما يمكن تسميته بالجذور الأيدلوجية للتنظيم، فالضبابية الأيدلوجية (وعفوية الوعي اليساري بالماركسية أو طابعه الشكلي غير العميق) عززت النزعة التكتيكية أو الانشقاقية وانعكست على البنية أو الأشكال التنظيمية التي ما زالت محكومة بالأشكال الانتقائية المرتبطة بالمحاور أو الأطر الشللية والعلاقات الشخصية، بسبب ضعف قوة الترابط بين البرنامج التنظيمي وآلياته من ناحية وبين الالتزام الحزبي الموضوعي من ناحية ثانية.

3- النزعة التقنية:

أي اعتبار المسالة التنظيمية مسألة شكلية وغير سياسية، والأحزاب غير الثورية، سواء أكانت أحزابا برجوازية أم برجوازية صغيرة، هي وحدها التي تعتبر المسألة التنظيمية، مسألة تقنية محضة، أما الحزب الثوري الذي يملك نظرية وإستراتيجية، فإنه يعتبر المسألة التنظيمية جزءا لا يتجزأ من هذه النظرية ومن هذه الإستراتيجية، إن النظرية التنظيمية المتلائمة والمنبثقة عن الإستراتيجية هي شرط وجود الحزب الثوري، ويصف طرابيشي: علينا أن نعتبر المسألة التنظيمية مسألة سياسية وأيدلوجية لا مسألة تقنية. إننا نعتقد أن طرح المسألة التنظيمية، سيفيد في نقد التجارب الحزبية العربية، وفي تزويد كل مناضل حزبي عربي بأسلحة مساعدة لفهم دوره الحزبي، دوره في حزبه ودور حزبه في المجتمع، وسيفيد، بوجه خاص، في الكشف عن الجانب التنظيمي من أزمة الثورة العربية، وبالتالي في تحديد الطريق إلى تجاوز هذه الأزمة، ولا سيما أن النزعة التنظيمية البدائية ما عادت تتلاءم بالمرة مع غنى وتعقد المهام الجديدة المطروحة على الثورة العربية.

المحور الثاني: ملاحظات منهجية حول التنظيم من وجهة نظر الفيلسوف الماركسي "جورج لوكاش"

في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" الصادر عام 1922 تناول جورج لوكاش الملاحظات المنهجية حول مسألة التنظيم، وهي ملاحظات وأفكار ما زالت تمتلك عناصر ومقدمات الرؤية الموضوعية لحل المشكلات التنظيمية حتى يومنا هذا، وخاصة في بلادنا العربية، وتجارب الأحزاب والحركات الماركسية فيها، بالنظر إلى حالة التخلف السائدة التي تؤكد الحاجة إلى إعادة قراءة أفكار هذا الفكر الماركسي، من قبل كافة القوى اليسارية الماركسية في بلادنا.

يرى جورج لوكاش أن المشكلات التنظيمية تمثل جزءاً من المسائل التي لم تحظ بعد بإنشاء نظري معمق، بالرغم من أنها كانت في بعض الأوقات –على سبيل المثال عند مناقشة شروط الانتساب إلى الأحزاب الثورية- في مقدمة أسباب الصراعات الأيدلوجية.

فالمسألة التنظيمية ما تزال تعتبر مسألة تقنية خالصة، لا مسألة فكرية أساسية من مسائل الثورة، وليس ذلك لأن هناك نقصا في المادة يحول دون تعميق مسالة التنظيم نظريا، بل على العكس، فالمادة وفيرة غزيرة، لكن يبدو أن الاهتمام النظري للأحزاب الثورية قد استأثرت به واحتكرته مشكلات الوضع الاقتصادي والسياسي وما يتفرغ عنها من نتائج تكتيكية، الأمر الذي حال دون إيلاء مسالة التنظيم أهميتها الحيوية والايجابية، كما حال دون إرسائها في النظرية الثورية"، وهنا يعيد "لوكاش" التأكيد على صحة مقولة لينين : "لا يمكن فصل المسائل السياسية ميكانيكياً عن مسألة التنظيم".

إن النضج أو نقص النضج يقاسان في التحليل الأخير بما يلي: وجود أو عدم وجود تصور أو موقف يحدد ما يجب فعله في وعي الطبقة الفاعلة وحزبها القائد، وبتعبير آخر، ما دام الهدف المطلوب إدراكه عصيا نائيا، يستطيع الرجال الذين يملكون قدرا كبيرا من البصيرة الثاقبة أن يروا بوضوح، إلى درجة ما، الهدف نفسه وماهيته وضرورته الاجتماعية، لكنهم سيعجزون – إذا لم يطبقوا القواعد التنظيمية الصحيحة - عن أن يعوا الخطوات العينية التي تقود إلى الهدف، والوسائل العينية التي ينبغي لهم أن يحوزوها بالإضافة إلى حدسهم السليم مبدئياً.

إن الطوبائيين طوبائيون لا بسبب الهدف الذي يضعونه نصب أعينهم، إنما بسبب عجزهم عن إدراك الخطوات اللازمة لتحقيقه، هذه الخطوات التي تكمن في ماهية الهدف بالذات، وهكذا فإنهم "لا يرون في البؤس غير البؤس، من غير أن يروا فيه الجانب الثوري، الهدام، الذي سيقوض المجتمع القديم"، على حد تعبير ماركس في بؤس الفلسفة، لكن من الوهم والطوبائية أن نعتقد انه قد تم تجاوز الطوبائية بالنسبة إلى الحركة العمالية الثورية بمجرد أن ماركس قد حقق التجاوز الفكري للطوبائية في أول شكل ظهرت فيه، والحق أن هذه المسالة، التي هي في التحليل الأخير مسألة العلاقة الجدلية بين "الهدف النهائي" و"الحركة"، بين النظرية والممارسة، تتكرر دوما في شكل أكثر تطورا في كل مرحلة حاسمة من مراحل التطور الثوري، وفي مضمون لا يني هو الأخير يتغير.

ذلك إن المهمة، أي مهمة من المهام، تكون دوما مرئية في إمكانياتها المجردة، حتى قبل أن تتوضح، بزمن طويل، الأشكال العينية لتحقيقها وانجازها، ولا يمكن التأكد من صحة أو زيف هذه الأشكال إلا عندما توضع هذه المهمة بكليتها العينية قيد التنفيذ، أو إلا عندما تصبح على الأقل مدعوة للتنفيذ.

والحال أن مسألة تنظيم حزب ثوري لا يمكن أن تُطور عضوياً بدءاً من نظرية عن الثورة عينها، وإنما عندما تصبح الثورة مطروحة على جدول الأعمال، تنطرح مسألة التنظيم الثوري بإلحاح آسر على وعي الجماهير والناطقين النظريين بلسانها، وهذا أمر يتم بالأصل رويداً رويداً، إذ انه حتى عندما أصبحت الثورة مسألة راهنة قبيل الثورة الروسية الأولى وبعيدها، لم تستطع أن تفرض تفهماً صحيحاً لمسألة التنظيم، وكان سبب ذلك جزئياً الجذور العميقة للانتهازية المترسخة في الأحزاب البروليتارية، بحيث استحال توفر معرفة نظرية واضحة بالثورة، ولكن حتى عندما كان هذا العامل منعدم الوجود، وحتى عندما كانت هناك معرفة واضحة بالقوى المحركة للثورة، لم تستطع هذه المعرفة أن تتطور إلى نظرية للتنظيم الثوري، وكان هذا الطابع اللاواعي، اللامنشأ نظرياً، المنبثق عن "نمو طبيعي"، للمنظمات الماثلة، هو الذي يعرقل على وجه التحديد، جزئياً على الأقل، توضيح المبادئ.

فالثورة الروسية كشفت النقاب عن حدود الأشكال التنظيمية الأوروبية الغربية، إن مشكلة الأعمال الجماهيرية والاضرابات الثورية الجماهيرية، أظهرت عجز تلك الأشكال التنظيمية إزاء حركات الجماهير العفوية، وزعزعت الوهم الانتهازي الذي تنطوي عليه فكرة "تهيئة تنظيمية" لمثل هذه الأعمال، وأثبتت أن تلك المنظمات تلهث وراء الجماهير بدل أن توجهها وتقودها إلى الأمام.

وقد أدركت روزا لوكسمبورغ حدود التصور التقليدي عن التنظيم، الخاطئ في علاقته مع الجماهير: "التهويل أو التقدير الخاطئ لدور التنظيم في نضال البروليتاريا الطبقي، يكملهما عادة التهوين وعدم تقدير شأن الجماهير البروليتارية غير المنظمة ونضجها السياسي". ولهذا وقفت ضد المبالغة في تقدير أهمية التنظيم، وحددت بأن مهمة الحزب ليست "التهيئة والقيادة التقنية للإضراب الجماهيري، بل هي قبل كل شيء القيادة السياسية للحركة قاطبة".

إن عدم وعي الحركة الثورية للوحدة، للارتباط الوثيق الجدلي بين كلتا المسألتين، المسألة السياسية والمسالة التنظيمية، قد عاد بأوخم العواقب عليها، لأن عدم الوعي هذا لم يحل فحسب دون طرح مشكلات التنظيم الثوري على البروليتاريا لتهيئتها، فكرياً على الأقل، لما سيحدث، بل حال أيضاً دون تجسد الآراء السياسية الصائبة، فبقيت مجرد آراء "طوبائية" لم تجد لها تعبيراً في التنظيم، وكانت نتيجة ذلك أن سيطرت الانتهازية على مجمل الحركة الاشتراكية- الديمقراطية.

إن التنظيم هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة، هذا الطابع التوسطي للتنظيم يتجلى في أن التنظيم حساس بالاختلاف بين الاتجاهات أكثر من حساسية أي مظهر آخر من مظاهر الفكر والعمل السياسيين، ففي حين يمكن على صعيد النظرية الخالصة، أن تتعايش الاتجاهات والمفاهيم مهما اختلفت، فلا يأخذ تعارضها غير شكل مناقشات يمكن أن تدور باطمئنان في إطار تنظيم واحد من غير أن ينفجر بالضرورة، نجد أن هذه المسائل نفسها، عندما تطبق على قضايا التنظيم، تأخذ اتجاهات متصلبة وينفي بعضها بعضاً، بيد أن كل اتجاه أو خلاف في الرأي "نظري" لا بد أن يتحول فورا إلى مسألة تنظيمية، إذا كان لا يريد أن يظل مجرد نظرية، وإذا كان يريد حقا أن يجد طريق تحققه. لكن من الخطأ أيضاً أن نعتقد أن العمل وحده قادر على تقديم معيار حقيقي وأكيد للحكم على صحة التصورات المتعارضة أو حتى على إمكانية التوفيق بينها أو استحالته.

إن كل عمل هو تشابك من أعمال خصوصية لبشر وجماعات خاصة، تشابك نخطئ إذا اعتبرناه سيرورة تاريخية واجتماعية "ضرورية" كما نخطئ إذا اعتبرناه نتيجة "أخطاء" أو قرارات "صحيحة" للأفراد، هذا التشابك الملتبس لا يكتسي معناه وواقعه إلا إذا فهمناه من خلال كليته التاريخية، أي من خلال وظيفته في الصيرورة التاريخية، ومن خلال دوره التوسطي بين الماضي والمستقبل. والحال أننا إذا فهمنا معرفة العمل على إنها معرفة بدروسه للمستقبل، وعلى أنها جواب على سؤال ما العمل نكون قد انتقلنا إلى صعيد التنظيم، نكون قد بدأنا نبحث، من خلال تقييم الموقف ومن خلال إعداد العمل وقيادته، عن اللحظات التي قادت بالضرورة من النظرية إلى عمل هو على أكبر حد ممكن من التلاؤم معها، نكون قد بحثنا عن التعيينات الأساسية التي تربط النظرية والممارسة. من الواضح أنه بهذه الصورة وحدها يمكن أن يتحقق نقد ذاتي خصب فعلاً، وان تكتشف بصورة خصبة فعلاً "الأخطاء المرتكبة".

إن تصور "الضرورة" المجردة للسيرورة يقود إلى الحتمية، كما أن الافتراض بان "أخطاء" الأشخاص أو مهارتهم هي أصل الفشل أو النجاح لا يمكن أن يقدم دروساً خصبة للعمل في المستقبل. لأن المسالة ستبدو من وجهة النظر هذه مسألة "صدفة": وجود هذا أو ذاك في هذا المكان أو ذاك وارتكابه هذه الخطيئة أو تلك، الخ. وهذا معناه استحالة إعطاء صفة موضوعية لعمل الأشخاص، هذا معناه القبول بهم بنفس القدر من الحتمية الذي قبلت به الحتمية الموضوعية بمجمل السيرورة.

لكن إذا ما تجاوزنا المظهر الخاص والاحتمالي لهذه المسألة، وإذا ما تبينا في عمل الأفراد الصائب أو الخاطئ سببا هو بالتأكيد جزء من مجموع، وفتشنا في الوقت نفسه عن علة أعمالهم وإمكانياتها الموضوعية، وكذلك عن الإمكانيات الموضوعية للوقائع التي احتل هؤلاء الأفراد بفضلها مراكزهم.. الخ، نكون قد طرحنا من جديد المسألة على مستوى التنظيم، لأن الوحدة التي تكون قد ربطت بين العاملين، تدرس في هذه الحال على أنها وحدة العمل الموضوعية ومن خلال تطابقها مع هذا العمل المحدد، وبالتالي تصبح المسألة هي مسألة معرفة ما إذا كانت الوسائل التنظيمية المستخدمة لنقل النظرية إلى حيز الممارسة صالحة أو لا.

 

صحيح أن "الخطأ" قد يكون كامناً في النظرية نفسها أو في معرفة الموقف، لكن طرح المسألة على صعيد التنظيم هو وحده الذي يسمح بنقد النظرية، انطلاقاً من وجهة نظر الممارسة، فلو أضيفت النظرية إضافة وبلا توسط إلى العمل، من غير أن تتضح كيفية تأثيرها عليه، وبتعبير آخر، من غير أن تتضح الرابطة التنظيمية بينهما، لما أمكن نقد النظرية إلا من خلال تناقضاتها النظرية المحايثة لها. إن هذه الوظيفة التي تؤديها المسائل التنظيمية تفسر نفور الانتهازية الدائم من استخلاص النتائج التنظيمية من الاختلافات النظرية.

يقول لينين بصيغة ليست كاريكاتورية إلا من حيث الشكل ليس إلا: "من السخف أن نتصور أنه سينتصب في هذا المكان جيش يشكل جبهة وسيقول: نحن مع الاشتراكية! وأنه سينتصب في مكان آخر جيش آخر وسيعلن: نحن مع الإمبريالية! ثم تلي ذلك ثورة اجتماعية!". والحق أن جبهات الثورة والثورة المضادة تتكون في شكل متغير وسديمي إلى حد كبير. فبعض القوى التي تعمل اليوم باتجاه الثورة يمكن أن تعمل غدا بسهولة في اتجاه مضاد.

والشيء البالغ الأهمية هو أن هذه التبدلات في الاتجاه لا تنبع البتة على نحو بسيط وآلي من الوضع الطبقي ولا حتى من أيدلوجيا الفئة الاجتماعية المعنية، بل هي تتأثر بصورة حاسمة بالعلاقات المتغيرة دوماً مع كلية الموقف التاريخي والقوى الاجتماعية.

وعلى هذا المستوى تكون معرفة البروليتاريا الصحيحة بوضعها التاريخي الذاتي عاملاً بالغ الأهمية، وهذا ما أثبته مسار ثورة 1917 الروسية على نحو كلاسيكي حقاً: فشعارات السلم وحق تقرير المصير ذاتياً والحل الجذري للمسالة الزراعية، جعلت من الفئات التي هي مترددة في حد ذاتها جيشاً قابلا للاستخدام (مؤقتاً) من قبل الثورة، وقوضت نهائياً كل جهاز السلطة المضادة للثورة وجعلته عاجزاً عن العمل. ولا فائدة من الاعتراض بأن الثورة الزراعية وحركة الجماهير من أجل السلم كانتا ستتطوران بدون الحزب الشيوعي وحتى ضده.

وعلى هذا، فإن تطور قوى الرأسمالية الاقتصادية يضع من جديد بين أيدي البروليتاريا القرار المتعلق بمصير المجتمع. يحدد انجلز الانتقال الذي يتوجب على البشرية أن تحققه بعد الانقلاب الذي ينبغي عليها أن تنجزه، يحدده بأنه "قفزة من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية"، وبديهي بالنسبة إلى المادية التاريخية أن هذه القفزة تمثل سيرورة. لكن المهم في الأمر هو تحديد نقطة انطلاق هذه السيرورة. وأبسط الحلول هو الأخذ بكلام انجلز حرفياً، وأرجاء ملكوت الحرية إلى العصر التالي للثورة المنجزة برمتها. لكن إذا كان ملكوت الحرية حالة، فانه يحق لنا أن نتساءل عما إذا لم يكن من الواجب التهيئة لها بتطور طويل، وعما إذا لم يكن من الطوبائية بمكان تصور تلك "القفزة إلى ملكوت الحرية" على أنها انقطاع مطلق، وأنها غير مشروطة بالتطور أو السيرورة التي تمهد لها السبيل.

وإذا ما نظرنا بالمقابل إلى "ملكوت الحرية" من خلال صلته بالتطور الذي يقود إليه، فلا مجال آنئذ للمماراة في أن الهدف النهائي الذي تنشده البروليتاريا غير قابل للفصل عن أي لحظة من لحظات تطور نضالها.

إن نضال البروليتاريا الطبقي لا يتميز عن النضالات التاريخية السابقة شدة واتساعا فحسب، بل يتميز أيضاً، طردا مع تطوره، نوعيا وكيفيا.

وإذا كان البيان الشيوعي يقول أن "تلاحم البروليتاريين القوي" في المراحل الأولى "ليس نتيجة اتحادهم الذاتي، بل نتيجة اتحاد البرجوازية"، إلا أن هذا لا يعني أن تنظيم البروليتاريا الطبقي واستقلاليته لا يتقدمان باطراد نحو مستوى أعلى، إلى أن تأتي مرحلة أزمة الرأسمالية النهائية ويمسي التقرير وقفا على البروليتاريا وحدها.

هذا الوضع لا يعني البتة أن "القوانين الاقتصادية الموضوعية" تكف عن أداء عملها، بل على العكس. فهي ستبقى سارية المفعول بعد مدة طويلة من انتصار البروليتاريا، ولن تفنى –شان الدولة- إلا مع نمو المجتمع اللاطبقي الخاضع برمته للرقابة البشرية.

 

وكل ما هنالك من جديد في الوضع الراهن هو أن القوى العمياء للتطور الاقتصادي الرأسمالي تدفع بالمجتمع نحو الهاوية، وأن البرجوازية ما عادت قادرة على مساعدة المجتمع كيما يتجاوز، بعد تأرجحات قصيرة الأجل، "النقطة الميتة" التي أوصلته إلى قوانينه الاقتصادية، وأن البروليتاريا تملك، باستغلالها عن وعي ميول التطور، إمكانية إعطاء التطور نفسه اتجاها آخر. هذا الاتجاه الآخر هو التنظيم الواعي لقوى المجتمع المنتجة، وإدارة هذا بوعي تعني إرادة "ملكوت الحرية"، تعني انجاز الخطوة الأولى الواعية باتجاه تحقيقه.

صحيح أن هذه الخطوة الأولى تنبثق "بالضرورة" عن الوضع الطبقي للبروليتاريا. بيد أن هذه الضرورة نفسها لها صفة القفزة، فالارتباط العملي بالكلية، والوحدة الواقعية بين النظرية والممارسة، يتجليان الآن بوضوح ووعي في أعمال البروليتاريا بعد أن كانا مرتبطين بها في السابق على نحو لا شعوري. بيد أن هذا الانتقال من اللاشعور إلى الوعي ينبغي للبروليتاريا أن تحققه بوعي. ولا غرو أن وجدنا أولئك الذين ما يزالون واقعين في اسر أشكال تفكير الرأسمالية يخافون كل الخوف من هذه القفزة، ويتشبثون بكل ما أتيح لفكرهم من قوة بالضرورة باعتبارها "قانون تكرار الظاهرات"، باعتبارها قانوناً طبيعياً، ويقولون باستحالة ولادة أي شيء جديد مطلق الجدة.

ولقد كان تروتسكي أول من رسم بوضوح هذا الخط الفاصل بين المفكرين الانتهازيين والمفكرين الثوريين في رده على كاوتسكي في كتابه "الإرهاب والشيوعية" الذي قال فيه "أن الافتراض البلشفي الأساسي هو أن المرء لا يستطيع ركوب الحصان إلا إذا امتطى صهوة حصان".

 

إذا كانت الأحزاب المنشفية ( أو الليبرالية في الظروف العربية الراهنة) هي التعبير، على مستوى التنظيم، عن أزمة البروليتاريا الأيدلوجية هذه، فان الحزب الماركسي الثوري هو، على صعيد التنظيم، شكل التهيئة الواعية لهذه القفزة، وبالتالي الخطوة الواعية نحو ملكوت الحرية.

إن إرادة ملكوت الحرية بوعي تكمن في خطو الخطوات التي تقود إليه فعلاً بوعي. وإذا ما فهمنا أن الحرية الفردية، في المجتمع البرجوازي الراهن، ليست إلا امتيازا فاسداً مفسداً، لأنها تقوم على غياب التضامن وعلى نقص حرية الآخرين، توجب التخلي عن الحرية الفردية, توجب الانصياع الواعي لإرادة المجموع، تلك الإرادة التي نذرت نفسها لتحقيق الحرية الحقة في الحياة، والتي تعمل جدياً اليوم على خطو الخطوات الأولى الصعبة، المترددة، غير الموثوقة، في هذا الاتجاه.

وإرادة المجموع الواعية هذه هي الحزب العمالي الماركسي الثوري. هذا الحزب يشتمل، شانه شان كل لحظة من سيرورة جدلية، في شكل بذرة أولية وعلى نحو بدائي ومجرد، على التعيينات التي ترجع إلى الهدف المدعو إلى تحقيقه: الحرية في وحدتها مع التضامن. ووحدة هذه اللحظات هي الانضباط. وليس ذلك فحسب لان الحزب غير قادر على أن يصبح إرادة جماعية فعالة إلا على أساس الانضباط، في حين أن تسرب مفهوم الحرية البرجوازي يمنع تكوين إرادة المجموع هذه ويحول الحزب إلى حشد من الأفراد الخصوصيين، حشد رخو وعاجز عن العمل، بل أيضاً لان الانضباط هو على وجه التحديد، وبالنسبة إلى الفرد أيضاً، الخطوة الأولى باتجاه الحرية الممكنة اليوم –حرية ما تزال بدائية بالطبع نظرا إلى مستوى التطور الاجتماعي- والواقعة على خط تجاوز الحاضر.

إن كل حزب ماركسي عمالي ثوري يمثل، من حيث ماهيته بالذات، نمطاً من التنظيم أعلى من أي حزب برجوازي أو عمالي انتهازي، كما تدل على ذلك متطلباته الأعلى شأناً من أعضائه الفرديين.

وإذا كان تنظيم الحزب البلشفي يقوم على التفاعل بين العفوية والمطابقة الواعية، فليس في ذلك شيء جديد نوعيا في تطور الأشكال التنظيمية، بل على العكس. فتلك هي الطريقة النموذجية التي تولد بها أشكال تنظيمية جديدة. لكن طريق بلوغ الوعي الطبقي الممكن موضوعيا بالنسبة إلى كل عامل فرد، وطريق الاستبطان الداخلي لهذا الوعي الطبقي الموضوعي، لا يمكن ان يمر، بنتيجة تشيؤ وعي العامل الفرد، الا عبر تجاربه المباشرة حتى يدرك من ثم درجة الوضوح. إذاً فالوعي السيكولوجي يحافظ بالنسبة إلى كل فرد على طابعه المتخلف. هذا التعارض بين الوعي الفردي والوعي الطبقي في عقل كل بروليتاري فرد ليس البتة وليد الصدفة. ذلك أنه في الحزب الماركسي الثوري، باعتباره شكلاً تنظيمياً أعلى من سائر التنظيمات، يتوكد، لأول مرة في التاريخ، الطابع الايجابي النشيط والعملي للوعي الطبقي بوصفه مبدأ يؤثر مباشرة على الأعمال الخاصة الصادرة عن كل فرد من جهة أولى، ويتوكد من الجهة الثانية وفي الوقت نفسه بوصفه عاملا يساهم بوعي في تحديد التطور التاريخي.

إن هذه الدلالة المزدوجة للنشاط، أي ارتباطه المتواقت بالحامل الفردي للوعي الطبقي البروليتاري وبسير التاريخ، وبالتالي التوسط العيني بين الإنسان والتاريخ، هي شيء حاسم بالنسبة إلى نمط التنظيم الذي يولد هنا. فمن منظور نمط التنظيم القديم –سواء الأحزاب البرجوازية أم العمالية الانتهازية- لا حساب للفرد إلا بصفته "كتلة"، رقما. وقد حدد "ماكس فيبر" على نحو بالغ الصحة هذا النمط من التنظيم بقوله: "نواة صغيرة من الأشخاص تملك القيادة الفعلية، وينضم إليها "أعضاء" يلعبون دورا أكثر سلبية بكثير، بينما لا تلعب كتلة المنتمين سوى دور موضوع". ودور الموضوع هذا لا تلغيه الديمقراطية الشكلية أو "الحرية" التي يمكن ان تسود في هذه المنظمات، بل على العكس يتثبت ويتأبد، أن "الوعي الزائف" واستحالة التدخل في سير التاريخ عن طريق عمل واع ينعكسان، على صعيد التنظيم، في استحالة تكوين وحدات سياسية نشيطة (أحزاب) مدعوة لأن تكون وسيطة بين عمل كل منتسب فرد وبين نشاط مجموع الطبقة. وبما أن هذه الأحزاب وهذه الطبقات غير نشيطة بالمعنى التاريخي الموضوعي، وبما أن نشاطها الظاهري لا يعدو أن يكون انعكاسا لاستسلامها الجبري لقوى تاريخية غير مفهومة، فلا مناص بالتالي من ان تتجلى فيها جميع الظاهرات التي تنجم عن بنية الوعي المتشيء وعن الانفصال بين النظرية والممارسة، بين الوعي والوجود. وبعبارة أخرى، إن موقفها لا بد أن يكون تأملياً صرفا تجاه سير التطور. وبالتالي يتجلى فيها بالضرورة التصوران الخاطئان المترابطان عن سير التاريخ: التهويل المقصود من أهمية الفرد (الزعيم) والتهوين الجبري من أهمية الطبقة (الجماهير). وهكذا ينقسم الحزب الى قسم نشيط وقسم سالب، والثاني لا يتحرك إلا عرضاً وبأمر من الأول. وعلى هذا فـ "الحرية" التي يمكن ان توجد بالنسبة إلى أعضاء هذه الأحزاب ليست شيئاً آخر سوى حرية الحكم على الأحداث التي تقع بصورة جبرية، أو على أخطاء الأفراد. أنهم متفرجون، يشاركون في الأحداث بهذا القدر أو ذاك، لكن ليس بكل قلبهم وجمع شخصيتهم. ذلك أن هذه الأحزاب لا يمكن أن تتسع لشخصية العضو الكاملة. فهي قائمة، شان كل أشكال "الحضارة" الاجتماعية، على تقسيم دقيق وميكانيكي للعمل، وعلى البيروقراطية، وعلى تمييز دقيق بين الحقوق والواجبات. والأعضاء غير مرتبطين بالتنظيم الا بأجزاء مجردة من وجودهم، وهذه الارتباطات المجردة تجد تعبيرها الموضوعي في التمييز بين الحقوق والواجبات.

إن المساهمة النشيطة في الأحداث كافة، والموقف العملي فعلا لكل أعضاء المنظمة، لا يمكن أن يتحققا إلا إذا تحركت الشخصية بكاملها. وإنما عندما يصبح العمل في قلب المجموعة مسألة شخصية مركزية بالنسبة إلى كل فرد يساهم فيه، يمكن أن يلغي الانفصال بين الحق والواجب، الذي هو شكل تنظيمي لانفصال الإنسان عن صفته الاجتماعية، وتعبير عن تجزؤه بفعل القوى الاجتماعية المسيطرة عليه. ان الحق كما يقول ماركس "لا يمكن أن يوجد، من حيث طبيعته بالذات، إلا في تطبيق معيار واحد". لكن الأفراد، غير المتساوين بالضرورة "لا يمكن قياسهم بمعيار واحد إلا إذا نظر إليهم جملة واحدة من وجهة نظر واحدة... فلا يرى فيهم شيء آخر (غير ما تراه وجهة النظر تلك) ويجري تجريد كل الباقي".

ومن هنا يصبح واضحاً أن أشكال الحرية في المنظمات البرجوازية ليست شيئاً آخر غير "وعي زائف" لغياب الحرية الفعلي، أي ليست غير بنية من بنى الوعي ينظر فيها الإنسان بصورة حرة شكلياً إلى اندماجه بنظام من الضرورات أجنبي الماهية ويخلط "حرية" هذا التأمل الشكلية مع الحرية الحقيقية. هذا الفهم للأشياء هو وحده الذي يحذف المفارقة أو التناقض الظاهري الذي يتجلى في توكيدنا السابق بأن انضباط الحزب الماركسي الثوري، والاندماج غير المشروط لجماع شخصية كل عضو في ممارسة الحركة، هو الطريق الوحيد الممكن لتحقيق الحرية الأصلية. وهذا لا يصح فقط بالنسبة إلى الجماعة التي تجد في هذا الشكل من التنظيم وسيلة لتحقيق الشروط الاجتماعية الموضوعية لتلك الحرية، بل يصح أيضاً بالنسبة إلى الفرد، بالنسبة إلى العضو الحزبي الفرد الذي لا يستطيع أن يتقدم نحو تحقيق الحرية بالنسبة إلى شخصه أيضاً إلا عبر هذا الطريق.

إذاً فمسالة التنظيم مسالة عملية أساسية بالنسبة إلى الحزب، شرط لا غنى عنه لعمله الواقعي، إلا أنها ليست مسالة تقنية وعملية فحسب، بل واحدة من أعلى وأهم المسائل الفكرية للسيرورة الثورية. فهذا الانضباط الذي لا يمكن أن يولد إلا بوصفه الفعل الواعي الحر الصادر عن ذلك القسم الأكثر وعياً من الطبقة، نعني الطليعة لا يمكن أن يتحقق بدون هذه الشروط الفكرية المسبقة. فبدون معرفة، ولو غريزية، على الأقل، بهذا الارتباط الصميم بين جماع الشخصية وانضباط الحزب بالنسبة الى كل عضو حزبي فرد، يتجمد هذا الانضباط بالضرورة في نظام مجرد ومتشيء من الواجبات والحقوق، ويسقط الحزب بالضرورة في نمط تنظيم الحزب البرجوازي.

وهكذا نستطيع أن نفهم من جهة أن يدلل التنظيم، موضوعياً، على حساسية عظيمة تجاه القيمة الثورية أو غياب هذه القيمة في التصورات والاتجاهات الثورية، وأن يتطلب التنظيم الثوري، من جهة ثانية، ذاتياً، درجة عالية جدا من الوعي الطبقي.

مهما تكن أهمية تفهم هذا الارتباط بين التنظيم الشيوعي وبين أعضائه الفرديين على الصعيد النظري، فإن من الضرر، كل الضرر، الوقوف عند هذا الحد والنظر إلى مشكلة التنظيم من زاويتها الشكلية والأخلاقية.

والحال أن هذا المبدأ التنظيمي، إذا ما نظرنا إليه في مظهره الشكلي والأخلاقي وحده لا غير، يلغي نفسه بنفسه. فصحته، التي ليست بعد شيئا كاملا مكتملا وإنما مجرد اتجاه صحيح نحو الهدف المطلوب تحقيقه، تكف عن أن تكون شيئاً صحيحاً بمجرد أن تنقطع صلتها الصحيحة بمجموع السيرورة التاريخية. ولهذا عزونا، في محاولتنا توضيح الصلة بين الأفراد والتنظيم، أهمية حاسمة لماهية الحزب بوصفه مبدأ توسط بين الإنسان والتاريخ، ذلك أن المتطلبات المطروحة على الفرد لا تفقد طابعها الشكلي والأخلاقي، إلا إذا كانت إرادة المجموع المكثفة في الحزب عاملاً نشيطاً وواعياً في التطور التاريخي، وإلا إذا كانت على صلة حية ودائمة متفاعلة بعملية الانقلاب الاجتماعي، وإلا إذا كان أعضاء الحزب الفرديون على صلة حية متفاعلة بهذه العملية نفسها وبركيزتها، الطبقة الثورية.

ولهذا، عندما درس لينين كيفية استمرار الانضباط الثوري في الحزب البلشفي، وضع في المقام الأول، إلى جانب تفاني الأعضاء، علاقات الحزب بالجماهير وصحة اتجاهه السياسي.

إن مقاييس صحة الارتباط بين الحزب والطبقة لا يمكن اكتشافه، إلا في الوعي الطبقي البروليتاري. فالوحدة الموضوعية الواقعية للوعي الطبقي تشكل، من جهة أولى، أساس الارتباط الجدلي في الانفصال التنظيمي بين الطبقة والحزب. ومن الجهة الثانية تترتب على نقص وحدة الوعي الطبقي وعلى تفاوت درجاته وضوحاً وعمقاً بين مختلف أفراد البروليتاريا وفئاتها وشرائحها، ضرورة الانفصال التنظيمي بين الحزب والطبقة.

 

ومن هنا نفهم لماذا طرحنا سؤالنا بمثل تلك الحدة: هل يتجاوب مع التفاوت داخل البروليتاريا تمايز مشابه في الكينونة الاجتماعية الموضوعية، في الوضع الطبقي، وبالتالي في الوعي الطبقي الموضوعي؟ أم أن هذه التفاوتات لا تتشكل إلا تبعا للسهولة أو الصعوبة التي يفرض بها هذا الوعي الطبقي الحقيقي نفسه على فئات البروليتاريا وشرائحها وأفرادها؟ هل تتلاقى المصالح الإجمالية لمختلف فئات البروليتاريا؟ أو هل تتنابذ؟

إذا طرحنا السؤال على هذا النحو، لا يعود ثمة مجال للشك بصدد الجواب. فكلمات البيان الشيوعي التي تبناها حرفياً تقريباً المؤتمر الثاني للحزب البلشفي، لا تصبح مفهومة ولا تأخذ معنى إلا إذا أكدت البروليتاريا وحدة الكينونة الاقتصادية الموضوعية: "ليس للحزب الشيوعي مصالح مختلفة عن مصالح مجموع الطبقة العاملة، وهو لا يتمايز عن مجموع الطبقة العاملة إلا لأنه ينظر إلى الرسالة التاريخية للطبقة العاملة في كليتها، ويعمل، في منعطفات الطريق كافة، على حماية لا مصالح بعض فئات أو بعض حرف، بل مصالح الطبقة العاملة برمتها".

وعلى هذا فالتفاوت في قلب البروليتاريا، تلك التفاوتات التي تقود إلى شتى الأحزاب العمالية وإلى تشكيل حزب ماركسي ثوري، ليست تمايزات اقتصادية موضوعية بنيانية داخل البروليتاريا، وإنما هي تدرجات في سيرورة وعيها الطبقي. وليس هناك فئات خاصة من العمال يؤهلها وجودها الاقتصادي على نحو مسبق لأن تصبح شيوعية على الفور، كما أنه لا وجود لعامل فرد شيوعي بالولادة. أن أمام كل عامل ولد في المجتمع الرأسمالي وترعرع تحت تأثيره طريقاً، طويلاً أو قصيرا من التجارب، عليه أن يقطعه حتى يحقق في ذاته الوعي الصحيح لوضعه الطبقي الذاتي.

إن الحزب الماركسي الثوري يضع نصب عينيه في نضاله وعي البروليتاريا الطبقي، وانفصاله التنظيمي عن الطبقة لا يعني في هذه الحال أنه يريد أن يناضل مكان الطبقة وفي سبيل مصالح الطبقة (كما يفعل البلانكيون). وإذا كان يفعل هذا مع ذلك، وهذا ما يمكن أن يحدث إبان الثورة، فإنه لا يفعله أولاً باسم الأهداف الموضوعية للنضال المطروح (فهذه الأهداف لا يمكن إدراكها وحمايتها على المدى الطويل إلا من قبل الطبقة نفسها)، وإنما ليدفع إلى أمام وليعجل بعملية تطور الوعي الطبقي. ذلك أن عملية الثورة، على المستوى التاريخي، ترادف عملية تطور الوعي الطبقي البروليتاري.

إن الانفصال التنظيمي للحزب الماركسي الثوري عن جماهير الطبقة الواسعة يقوم على تنافر الطبقة من زاوية الوعي، ويعمل في الوقت نفسه على تسريع عملية توحيد هذه التفاوتات إلى أعلى مستوى ممكن.

 

إن الاستقلال التنظيمي الذاتي للحزب الماركسي الثوري ضروري حتى ترفع الطبقة كلها وجودها كطبقة إلى مستوى الوعي، وحتى يتجلى لكل عامل على نحو واضح ومفهوم، في كل حدث من أحداث الحياة اليومية، الموقف الذي توجبه عليه المصلحة العامة للطبقة. وبالمقابل، يفصل الشكل التنظيمي العصبوي الوعي الطبقي "الصحيح" فصلاً مصطنعاً عن الحياة وعن تطور الطبقة، كما أن الشكل التنظيمي للانتهازيين يعني تسوية تفاوتات الوعي تلك في أدنى مستوى، أو في المستوى الوسطي في أحسن الحالات.

لكن الاستقلال التنظيمي لا معنى له ومهدد بالسقوط إلى مستوى العصبة إذا لم يأخذ دوماً بعين الاعتبار تكتيكا مستوى وعي الجماهير الواسعة والأكثر تخلفاً. وهنا تصبح وظيفة النظرية الصحيحة عن مشكلة تنظيم الحزب الماركسي الثوري واضحة للعيان. فعلى هذه النظرية أن تمثل أعلى إمكانية موضوعية للعمل البروليتاري. والحال أن التفهم النظري الصحيح هو الشرط الواجب لهذا العمل.

ومن هنا نجد أن حساسية التنظيم الانتهازي بنتائج نظرية خاطئة من النظريات أضعف من حساسية التنظيم الثوري الماركسي، لأن التنظيم الانتهازي لا يعدو أن يكون تجمعاً رخواً بهذا القدر أو ذاك من المركبات المتنافرة بهدف أعمال عارضة خالصة.

إذاً فالقدرة على العمل والقدرة على انتقاد الذات وتصحيح النفس والتطور النظري الدائم هما في تفاعل دائم صميم. ونظريا أيضاً، لا يعمل الحزب الماركسي الثوري بالنيابة عن البروليتاريا. وإذا كان وعيه الطبقي، بالنسبة إلى فكر وعمل مجموع الطبقة، مائعاً غير متحدد وخاضعاً للتحول والتطور، فإن هذا لا بد أن ينعكس في الوجه التنظيمي لهذا الوعي الطبقي، في الحزب الماركسي الثوري، مع فرق واحد هو أن مستوى أعلى من الوعي قد تموضع هنا على مستوى التنظيم: ففي مواجهة صعود أو انخفاض تطور هذا الوعي في الطبقة نفسها، وفي مواجهة الانفجارات والخمود على حد سواء، ينتصب هنا، أي على صعيد الحزب التنظيمي، التوكيد الواعي للارتباط بين "الهدف النهائي" والعمل الراهن. إذاً فالطابع التطوري، الطابع الجدلي للوعي الطبقي يصبح، في نظرية الحزب، الجدل المستخدم بوعي.

هذا التفاعل الجدي المتواصل بين النظرية والحزب والطبقة، هذا التوجيه للنظرية نحو حاجات الطبقة المباشرة، لا يعنيان في الوقت نفسه انحلال الحزب في جماهير البروليتاريا. والخوف من هذا الانحلال هو الذي جعل الكثيرين من الشيوعيين يتهيبون من شعار الجبهة الموحدة.

بديهي أن نمو الحزب الماركسي الثوري وتوطده الداخلي والخارجي على حد سواء لا يتم في فراغ عزلة عصبوية، وإنما في قلب الواقع التاريخي، من خلال تفاعل جدلي متواصل مع الأزمة الاقتصادية الموضوعية ومع الجماهير التي أمست بفعل هذه الأزمة ثورية.

لكن من الممكن أن يتيح مسار التطور للحزب الماركسي الثوري إمكانية الوصول إلى التوضيح الداخلي الكامل قبل خوض المعارك الحاسمة، كما حدث في روسيا على سبيل المثال فيما بين الثورتين. كما يمكن أن تمسي الجماهير الواسعة ثورية وحزبية بسرعة عظيمة بفعل الأزمة، حتى قبل ان يتاح لها أن تكتسب في النضال شروط الوعي الداخلية، الضرورية لحياة المنظمة الحزبية. وبذلك تبرز أحزاب جماهيرية لا تتحول فعلاً إلى أحزاب ماركسية ثورية إلا في مجرى النضال اللاحق، بل من الممكن أحياناً أن يولد الحزب الماركسي الثوري من الأزمة الاقتصادية تبعا لـ "قوانين عضوية". ومع ذلك تبقى الخطوة الحاسمة، أي المشاركة الواعية، على صعيد تنظيمي داخلي، للطليعة الثورية، وبعبارة أخرى، التكوين الفعلي لحزب ماركسي فعلي، أقول: تبقى هذه الخطوة الحاسمة الفعل الواعي والحر لهذه الطليعة نفسها. ولا فرق في ذلك بين أن يتطور حزب صغير نسبيا ومتلاحم داخليا وتتسع صفوفه ويتحول إلى حزب جماهيري كبير عن طريق التفاعل مع فئات واسعة من البروليتاريا، وبين أن يخرج من حزب جماهيري ولد عفوياً حزب ماركسي ثوري جماهيري بعد أكثر من أزمة داخلية واحدة، ذلك أن الماهية النظرية لجميع هذه الأحداث تبقى هي: تجاوز الأزمة الأيدلوجية، واكتساب الوعي الطبقي البروليتاري الصحيح.

ومن الخطر على تطور الثورة، من وجهة النظر هذه، التهويل من شأن حتمية هذه السيرورة والاعتقاد بأن أي تكتيك قادر على دفع سلسلة كاملة من الأعمال إلى تجاوز نفسها من خلال اشتداد وتكثف إجباري لتبلغ أهدافاً أبعد، كما أنه من الخطر بالقدر نفسه الاعتقاد بأن أفضل عمل للحزب الماركسي الثوري الكبير والمنظم ليس هو قيادة البروليتاريا بصورة صحيحة في النضال نحو هدف تتطلع إليه هي نفسها وإن على نحو غير واع كل الوعي. ومن المؤكد أنه من الخطأ أيضاً النظر هنا إلى مفهوم البروليتاريا نظرة سكونية وإحصائية: "إن مفهوم الجماهير –على حد قول لينين- يتبدل في مجرى النضال على وجه التحديد".

إن الحزب الماركسي الثوري هو –لصالح الثورة- وجه مستقبل ذاتياً من الوعي الطبقي البروليتاري. والمطلوب هو فهم ذلك فهماً نظرياً صحيحاً من خلال هذه العلاقة الجدلية المزدوجة: بوصفه انعكاساً لهذا الوعي وبوصفه في الوقت نفسه محركا لهذا الوعي، وبعبارة أخرى، من خلال استقلاله الذاتي ومن خلال تلاحمه معاً.

إذاً فالمرونة والقدرة على تبديل التكتيك وملاءمته، والتنظيم الصارم، مظهران لشيء واحد. لكن هذا المعنى العميق للشكل التنظيمي الماركسي الثوري نادراً ما يفهم في كل مداه، وهذا حتى في الأوساط الشيوعية. ومع ذلك فإن التطبيق الصحيح لهذا المبدأ ليس شرط إمكانية عمل صحيح فحسب، بل هو أيضاً شرط قدرة الحزب الماركسي الثوري على التطور الداخلي. يلح لينين بعناد على رفض كل طوبائية بصدد المادة البشرية التي ستنجز الثورة وتقودها إلى النصر: فهذه المادة تتألف بالضرورة من بشر ترعرعوا في المجتمع الرأسمالي وأفسدهم هذا المجتمع.

إن حياة الحزب الداخلية كفاح مستمر دائب ضد هذه التركة الرأسمالية. والوسيلة النضالية الحاسمة، على صعيد التنظيم، هي دفع أعضاء الحزب إلى المشاركة بجماع شخصيتهم في نشاط الحزب. وإنما عندما لا تكون المناصب الحزبية مجرد وظيفة ولو نفذت بتفان، بل عندما يكون نشاط جميع الأعضاء منصباً، على العكس بكل الأشكال الممكنة على عمل الحزب. وعندما يكون هناك بقدر الإمكان تبدل دائم في هذا النشاط، عندئذ فقط يمكن أن يتوصل أعضاء الحزب بجماع شخصيتهم إلى ارتباط حي بكلية حياة الحزب والثورة، ويكفوا عن أن يكونوا مجرد اختصاصيين معرضين بالضرورة إلى خطر التيبس الداخلي.

إذا ما اندمج كل عضو حزبي بكل شخصيته ووجوده في حياة الحزب، فإن نفس مبدأ المركزية والانضباط هو الذي يجب أن يوجه التفاعل الحي بين إرادة الأعضاء وإرادة قيادة الحزب، وأن يسهر على التعبير عن إرادة الأعضاء وأمنياتهم ومبادهاتهم وانتقاداتهم تجاه القيادة، ولأن المفروض في كل قرار حزبي أن يعبر عن نفسه في أعمال مجموع أعضاء الحزب، ولان المفروض أن تنبثق عن كل شعار أفعال للأعضاء الأفراد يلزمون بها كل وجودهم المادي والمعنوي، لذا لا يمكن أن يكونوا مجرد أدوات منفذة، بل عليهم أن يتدخلوا بانتقادهم وان يستخدموا تجربتهم وان يبدوا تحفظاتهم... الخ، وإذا كان الحزب مؤلفاً من مجرد تسلسل هرمي من الموظفين المعزولين عن كتلة الأعضاء العاديين الذين لا يلعبون في هذه المجال سوى دور المتفرج في الأعمال التي يمليها النضال اليومي، وإذا كان نشاط الحزب كمجموع عارضا طارئا فحسب، فهذا يخلق لدى الأعضاء، تجاه أعمال الحزب اليومية، نوعاً من اللامبالاة التي تختلط فيها الثقة العمياء وروح العزوف.

وفي هذه الحال يكون نقدهم في أحسن الظروف نقدا يجيء بعد التنفيذ (في المؤتمرات.. الخ) ولا يمارس تأثيراً حاسماً على الاتجاه الواقعي للنشاطات في المستقبل.

وبالمقابل فإن الوسيلة الوحيدة لإرغام قيادة الحزب على أن تجعل قراراتها مفهومة فعلاً من قبل الأعضاء، ولإقناع هؤلاء الأخيرين بصحة هذه القرارات حتى يتمكنوا من تنفيذها على الوجه الصحيح، هي المساهمة النشيطة لجميع الأعضاء في حياة الحزب اليومية وضرورة انخراطهم بجماع شخصيتهم في كل عمل من أعمال الحزب. إن هذه المناقشات التي يجب أن تأتي قبل العمل وأثناءه هي التي ستحقق التفاعل الحي بين إرادة مجموع الحزب وإرادة المركز، وهي التي يفترض فيها أن تؤثر على انتقال القرار إلى الصعيد العملي، معدلة ومصححة إياه، الخ. وكلما توطدت هذه الميول وترسخت، جنح إلى الاختفاء التعارض الفظ، غير المتدرج، الموروث عن بنية الأحزاب البرجوازية، بين الزعيم والجماهير.

إن مشكلة "تطهير" الحزب، التي طالما أحيطت بالافتراء، ليست سوى المظهر السلبي للمسالة نفسها. ولهذا لا اعتقد انه كان من "الخطأ" طرح مسالة وجوب لجوء الحزب الشيوعي إلى مثل هذه التطهيرات بين حين وآخر. فهذه المسالة لا تتعلق بحياة الحزب الداخلية فحسب، بل أيضا بعلاقته بجماهير الشغيلة الواسعة. وهكذا اعتمد الحزب الروسي، في حملة التطهير التي جرت في خريف عام (1921)، على خبرات وأحكام العمال والفلاحين غير الحزبيين، وبذلك يكون قد أشرك هذه الجماهير في عملية تطهير الحزب. وليس ذلك لان الحزب يقبل الآن على نحو أعمى بكل حكم تصدره هذه الجماهير، لكنه اخذ مبادهاتها الرافضة بعين الاعتبار على نطاق واسع ليقصي العناصر الفاسدة، البيروقراطية، الغريبة عن الجماهير، وغير الموثوقة كثيرا من وجهة نظر الثورة.

إن هذه القضية الداخلية والصميمية من قضايا الحزب تبين مدى الارتباط الداخلي الصميم بين الحزب والطبقة، عندما يكون الحزب قد بلغ مرحلة متقدمة. إنها تبين كيف أن الانفصال التنظيمي بين الطليعة الواعية والجماهير الواسعة، ليس سوى لحظة من لحظات تطور الطبقة وتطور وعيها.

فكما أن الحزب، بوصفه كلية، يتجاوز التمييزات المتشيئة من أمم ومهن.. الخ، عن طريق عمله المتجه إلى الوحدة والتلاحم الثوريين ليخلق الوحدة الحقيقية للطبقة البروليتارية، كذلك فانه يمزق، عن طريق تنظيمه الصارم وانضباطه الحديدي وتطلبه التزام الشخصية بجماعها، يمزق عن العضو الفرد قشرته المتشيئة التي تشوش وعيه في المجتمع الرأسمالي. وأن هذه لسيرورة طويلة الأمد ونحن لسنا إلا في بدايتها بعد. بيد أن ذلك لا يمنعنا من إدراك ارتباط هذه السيرورة بـ "ملكوت الحرية" بوصفه مطلباً للعامل الذي يتمتع بوعي طبقي. وإنما على وجه التحديد لأن تشكيل الحزب الماركسي الثوري لا يمكن إلا أن يكون عملاً واعياً للعمال الواعين طبقياً، وللكادحين الفقراء عموماً في بلادنا، لذا فان كل خطوة في اتجاه معرفة صحيحة هي في الوقت نفسه خطوة نحو تحقيق ذلك الملكوت.

 

 

 

 


·  المصدر: كتاب "في التنظيم الثوري" – دار الطليعة – بيروت – 1978.