نحنُ أمامَ ظاهرةٍ قديمةٍ تتجدّدُ وتلازمُ الخطاب السياسيّ اليوميّ، ونعني بها تحديدًا استخدام المفاهيم والمصطلحات على عواهنها دونما فحصٍ ولو أولي لدقة الاستخدام أو لتداعياته على منظومة القيم والمفاهيم الوطنيّة التي يجب تعزيزها. عند البعض ربّما يكون منشأ تلك الظاهرة محدوديّة المعرفة النظريّة الضروريّة لموضعة أي مفهوم في الخطاب، ولكن عن البعض الآخر ليست الظاهرة كما نزعم ناشئة عن محدودية في المعرفة، بل معرفة دقيقة استوجبت استخدام المفاهيم لأغراضٍ سياسيّةٍ تستوجبها بالضرورة ممهّدات ثقافيّة أو إن شئت: غسيل دماغ/كي وعي متقن.
حقل الانتخابات الصهيونيّة لبرلمانهم هو الحقل الأبرز لتمظهر تلك الظاهرة، فتفكيك الخطاب الفلسطيني المعلن من قبل سياسيين وقياديين وباحثين وكتاب في الأسابيع الأخيرة وقبلها يُظهر المدى الذي تجذرت فيه تلك الظاهرة. ربما كان لمفاهيم اليمين، اليسار، الفاشية، يسار الوسط ويمين الوسط، حصة الأسد بين المفاهيم المستخدمة، وبالتالي هيمنتها في التحليلات المقدمة باعتبار المفاهيم أدوات للتحليل.
نعاجل بالقول قبل أن يعاجلنا أحدهم متّهمًا بأنّنا لا نرى أية فروقات بين الأحزاب الصهيونيّة، لنقول: من الطبيعي أن المجتمع الصهيوني، كأي مجتمع، يعج بالتناقضات التي تستولد بالضرورة تعددية سياسية وحزبية، فالتناقضات الطبقية والفكرية والجهوية والعرقية تستدعي بالضرورة تعددية ولكن، وهي لكن كبيرة، لم تكن تلك التناقضات، وإن شئتم الانقسامات، لتكون يوماً عاملاً تفتيتياً للمشروع الصهيوني، ولا عاملاً في خلخلة الموقف العدائي من الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية فهذا المجتمع ليس كاي مجتمع بالنهاية بل مجتمع استيطاني توسعي. ولمن يرغب بالمحاججة معولاً على تلك التناقضات لإنهاء المشروع الصهيوني نحيله على التجربة التاريخية، والتاريخ العلم الذي نعرفه ونعترف به حسب مقولة ماركس الصائبة، التي قالت كلمتها: لم يتفكك مجتمع استيطاني مطلقاً بفعل تناقضاته وانقساماته بل بفعل الضربات من الشعب الأصلاني وتلك تجربة الجزائريين والأفارقة على العموم.
لقد حشد دعاة الإمساك بالتعددية والمفاهيم أعلاه كمية من الإحصاءات التي أبرزتها الانتخابات الأخيرة: الصهيونية الدينية الفاشية تحصد 14 مقعداً أي 11% من عدد الناخبين، الأحزاب الحريدية ككل تحصد 19 مقعدا وغدت أكثر تطرفاً، أما ميرتس (اليساري) فلم يتجاوز الحسم، فيما العمل الذي أنشأ الكيان لم يحصد سوى 4 مقاعد. ويخلص التحليل إلى أننا أمام مد يميني ديني سياسي فاشي. حسناً تلك قراءة للنتائج ينبغي تفكيكها، فهي تفترض أولاً (يسارية) مًنْ سبق طالما الآن اليمين في الحكم، ـأي يسارية (أو يسار الوسط بالحد الأدنى) غانتس ولبيد وقبلهما رابين وبيرس، كما أنها تفترض عدم فاشية كل هؤلاء بتمييز فريق نتنياهو بالفاشي عن غيره، أي منزلق فكري وسياسي خطير هذا. فحتى حزب ميرتس وكان عند تأسيس الكيان اسمه حزب مبام كان يضع سلطة دكتاتورية البروليتاريا في برنامج (ليساريته الشيوعية)، ومع ذلك ساهم في التأسيس والاستيطان والمجازر ضد شعبنا، ومع ذلك هناك من الفلسطينيين مَنْ يندب حظ هذا الحزب ويكاد يبكي نتيجته.
بالتأكيد هناك فروق في مستوى فاشية كل مستوطن صهيوني وكل حزب صهيوني، وليس في فاشية وعدم فاشية المستوطن أو الحزب الصهيوني. كل مستوطن هو بالضرورة فاشي، وكل حزب صهيوني هو بالضرورة حزب فاشي لأن طبيعة المشروع الاستيطاني الترحيلي تقتضي وتستدعي الفاشية كممارسة سياسية. فزعيمة ميرتس ليست كغفير بالتأكيد، ونتنياهو ليس كزعيمة حزب العمل، ولكن لنتذكر: العمل وميرتس أحزاب صهيونية وعندما انخرطا في أوسلو فعلوا ذلك لتأبيد المشروع الصهيوني لا لإعطاء أبو عمار دولة كما توهم هو وفريقه ولا زالوا، فما بالكم بمعكسر غانتس ولبيد الذي لم يفاوض أبو مازن إلا على القضايا الأمنية والخدمات التي يتوجب على السلطة تقديمها أمنيا للاحتلال.
المفاهيم كمدخل لكي الوعي
لنترك من يتمتع بمحدودية معرفية توقعه في عدم القدرة على موقعة صحيحة للمفاهيم، ولنرى للذين، على العكس، يملكون كل المعرفة لفعل ذلك، سواء في الخطاب الرسمي الفلسطيني، أو في خطاب قوى القائمة المشتركة، أو خطاب العديد من المحللين، فاستخدام المفاهيم المشار إليها أعلاه (اليمين، اليسار، الفاشية، يسار الوسط ويمين الوسط) إنما القصد منه الإيحاء بطريقة لا تخلو من الخبث أن هناك النقيض، والذي يستوجب الدعم، فهناك يسار بديلاً لليمين، وهناك عقلانيين بديلاً للفاشيين. هذا المدخل الفكري يخدم مثلاً الرهان البائس للقيادة المستسلمة في المنظمة على معسكر غانتس ولبيد في الانتخابات الأخيرة وقبل الأخيرة، وقبله الرهان الأكثر بؤساً على بايدن في مواجهة ترامب، وقبل كل هؤلاء الرهان على رابين وبيرس وحزب التجمع في مواجهة شارون. أما المشتركة فذهبت بعيداً بحيث تحولت لسمسار حزبي/سياسي لمعسكر غانتس/ لبيد والشعار: ضد نتياهو.
كل تلك التكتيكات/ الرهانات السياسية كانت وستظل بحاجة لمداخل فكرية ترى للعارض في المشروع الصهيوني بتلاوينه وتناقضاته وانقساماته، فتبني رهاناتها على هذا لتحصد بؤساً مركباً: بؤس الرهان وبؤس نتائج الرهان: فلا معسكر لابيد/ غانتس نفعهم، ولا بايدن كان أفضل لهم من ترامب، ففي كل الحالات كانت النتائج بائسة مثلها مثل الرهانات.
تلك هي ما أسميناها بعملية كي الوعي أو غسل الدماغ: إقناع القارئ والشعب والناخبون بالأساس أن صوتوا (لليسار) لا لليمين، صوتوا للعقلانيين لا للفاشيين، وتلك عملية تخدم أكثر من جهة: من ناحية القيادة اليمينية على رأس المنظمة فهي تعتقد أنها بذلك تمهد الطريق للعودة للمسار التفاوضي بنجاح معسكر بديل لنتنياهو، وهذا رهان سقط تماماً، إذ أن غانتس ولبيد لم يفكرا أصلاً بدعوة أبو مازن للتفاوض وهو الذي يحلم به ليل نهار. ذات الشيء كانت النتائج، ولو من زاوية مختلفة، على صعيد القائمة المشتركة في الداخل: لم يتغير شي من السياسة العنصرية الفاشية الممارسة ضد الجماهير في الداخل الفلسطيني، وبالتالي لم يكن عمرو بأفضل من عُمير، ومع ذلك عادت المشتركة لذات الخط: السمسرة لغانتس ولبيد باعتبارهم (يسار الوسط) بديلاً لنتنياهو.
أين يكمن الجوهري والعارض؟
نستعين بمقولة ابن خلدون (العارض لا يُعتد به) للقول الفصل بتقديرنا فيما يتعلق بالانتخابات الصهيونية. الجوهري بالنسبة لشعبنا ينبغي تأكيده باستمرار بديلاً للتعمية واستخدام مفاهيم كي الوعي، والجوهري يتحدد بأن كافة تلاوين التعددية الحزبية الصهيونية هي جزء من المشروع الصهيوني، وموجودة بقوة هذا المشروع، وكجزء من مؤسساته. جيد أن نسمع هذا الإسرائيلي أو ذاك يندد بالاحتلال، ذلك مكسب تكتيكي إن شئتم لغة الممارسة السياسية لا المعرفة النظرية، ولكن لنذكّره بما فعلته المحامية الشيوعية اليهودية فيليتسا لانغر التي تخلت عن جنسيتها الإسرائيلية ورحلت من فلسطين معلنة (هذه ليست بلدي). هنا امتحان أي جعجاع بيساريته من المستوطنين اليهود، فمًنْ يوصفون باليساريين هم مستوطنون، إذ في الجوهر فتل أبيب مستوطنة شأنها شأن أرئيل عند قلقيلية وبساغوت في البيرة. أما الذين يقرون (بشرعية) المشروع الصهيوني ودولته مثل قيادة المنظمة والقائمة المشتركة فمن الطبيعي ـن لا يأخذون بذلك الجوهر، فتل أبيب بالنسبة لهم ليست بمستوطنه، والفعل الاستعماري الواقع على الشعب الفلسطيني هو فقط على أراضي العام 67 وبالتالي من الطبيعي أن يتعاملوا مع انتخابات (دولتهم) كأي انتخاب: هذا يمين وهذا يسار وهذا يسار الوسط وهكذا.
أما بالنسبة لنا فالعارض لا يعتد به بل الجوهري. تلك ليست دولتنا ولا برلمانهم برلماننا، فدولتهم وبرلمانهم نتاج مشروعهم الاستعماري الاستيطاني، وبالتالي ينبغي النضال لا من خلال تلك المؤسسات الاستعمارية، بل على النقيض منها وخارجها لتفكيكها أصلاً وإنهاء وجودها. لذلك كانت مقاطعة الانتخابات خيار وطني يمسك بالجوهر لا العارض ويعيد البوصلة لموضعها الطبيعي: شعبنا في منطقة 48 جزء من الشعب الفلسطيني، خياره هو الخيار التاريخي لشعبنا وأهدافه بالتحرير لا في الرهانات الغبية على فلان وعلان من الصهاينة بعد اللعب على وتر التصنيفات والمفاهيم المضللة. مقاطعة الانتخابات والحال هذا تأكيد على التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية بديلا للأسرة و(المواطنة) التي روّج لها عزمي بشارة كثيراً.
وأخيراً من المؤسف حقاً أن يقع التجمع الوطني في أحابيل تلك اللعبة الانتخابية الصهيونية ويشارك بها، رغم رفضه أن يلعب دور السمسار لغانتس ولبيد، ولكن أن يعلن أنه جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية وبذات الوقت يشارك في انتخابات الكنيست، فتلك تركيبة في خطاب مراوغ تحتاج لغير قليل من الفهلوة السياسية لتمريرها.