Menu

الدولة في ظل الاقتصاد السياسي لليبرالية الجديدة "مدبرة منزل" (الجزء الثاني والأخير)

عليان عليان

تضمن الجزء الأول من الدراسة عنوانين رئيسيين، نشير إليهما بشكل مكثف وهما (أولاً) أخطار خصخصة العالم على الدولة ودورها، من زاوية أنها أدت وتؤدي  إلى إضعاف القدرة التنظيمية للدولة، وإلى وضع البرلمانات والحكومات تحت الوصاية  ناهيك أنها تفرغ من معناها معظم الانتخابات وكل عمليات التصويت الشعبية تقريباً، وتحرم المؤسسات العامة من سلطة التنظيم، كما أنها تقتل القانون، فلا يبقى من الجمهورية التي ورثت عن الثورة الفرنسية سوى شبح (وثانياً) خضوع الدولة لسطوة الشركات متعدية الجنسية من زاوية النفوذ الهائل للشركات متعدية الجنسية والشروط التي تفرضها على الدولة الوطنية، عندما تهدد الدول بخروج وهروب رساميلها منها ما لم تستجب الحكومات لمطالبها  وشروطها مثل: "منحها تنازلات ضريبية سخية وتقديم مشروعات البنية التحتية لها مجانًا، وإلغاء وتعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمل والطبقة الوسطى مثل: قوانين الحد الأدنى للأجور، ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي وإعانات البطالة، وبما يقلل مساهماتهم المالية في هذه الأمور، وخصخصة المشروعات وتحويل كثير من الخدمات العامة التي كانت تقوم بها الحكومات، لكي يضطلع بها القطاع الخاص وإضفاء الطابع التجاري عليها"، وفي المحصلة يمكننا الجزم، بأنه في مرحلة العولمة النيوليبرالية، التي تمكنت فيها المنشأة عابرة القوميات، من الخروج عن نطاق الحدود الجغرافية للدولة، لم تكتفِ بقدرتها على الالتفاف على الدولة والتملص ممـــــا يمكـــــن أن يفرض عليها من قيود، بل سعت إلى احتــــواء الدولة وتسخيرها لخدمتها فإذا بها - أي الدولة - تقتنع بدور "مدبرة المنزل". "House keeper ".

الدولة تفقد دورها الاجتماعي والاقتصادي

وهكذا فإن الدولة في ظل العولمة النيوليبرالية لا تنتهي إنما تتغير وظيفتها، وتفقد دورها الاجتماعي والاقتصادي بحيث تصبح كأنها إدارة عامة جديدة، أي أنها تتحول إلى حكومة أعمال وهو ما يترتب عليه وهن الدولة وشرعيتها، ومبعث ذلك يتمثل في أن هذه الدولة تسعى لنيل ثقة الأسواق العالمية على حساب مهامها الأخرى (1).

ويجزم البعض، أنه في ظل العولـمة النيوليبرالية تتحول الشركات المتعددة الجنسيات إلى دول حقيقية، تقوم بتفكيك الدول وإعادة بنائها من جديد وجعلها تتنازل تحت ضربات الرأسمالية الاحتكارية عن حقوقها وحدودها الجغرافية وواجباتها تجاه مجتمعاتها، كي تقيم دولة عالمية قادتها ورؤساؤها رؤوس الاحتكارات العالمية الجشعة من اليهود وغيرهم من الرأسماليين الأمريكان وحلفائهم الخاضعين لتوجيهاتهم، كي تمتص دماء الكادحين في المجتمعات الإنسانية وتقضي على شعورهم الوطني، الذي هو شعور بدائي عند الاقتصادي المعولم الشهير ليندبيرج، ولكل هذا اختار عبارة "نهاية الدولة القومية" عنوانًا لكتابه الذي ألفه عام 1995م (2).

من جانبه يقول الفيلسوف الفرنسي جارودي: "إن التيار المهيمن في صفوف الاقتصاديين الرسميين والسياسيين، هو الدفاع عن الليبرالية بدون حدود، والداعي إلى اختفاء الدولة أمام السلطة المطلقة للسوق، وحتى لا يبقى أي عائق أمام هذه السلطة".

لقد فقدت الدولة القومية -التي انطلقت منها الشركات العابرة للقوميات-في ظل العولمة جزءاً كبيراً من سيادتها واستقلالية قرارها، بحكم انفلات سلطة الضبط الاقتصادي من الدولة الوطنية وانتقاله إلى الشركات والتكتلات الاقتصادية، إذ إنَّ هذا الانفلات يشكل جوهر العولمة الاقتصادية التي تفترض أن العالم أصبح وحدة اقتصادية واحدة، تحركه قوى السوق التي لم تعد تحكمها حدود الدولة الوطنية، وإنما تشترط بمجموعة من المؤسسات المالية والتجارية والصناعات العابرة للجنسيات.

فالأسواق التجارية والمالية العالمية لم تعد موحدةً فحسب بل غدت خارجة عن تحكم كل دول العالم بما في ذلك أكبرها وأكثرها غنى (3).

 الشركات متعدية الجنسية والحدود السياسية والجغرافية

ومما توحي به العولمة الاقتصادية، هو أن العالم الذي تفكك في تسعينات القرن العشرين، أصبح عالماً بلا حدود اقتصادية. فالنظم الاقتصادية المختلفة أصبحت متقاربة ومتداخلة ومؤثرة في بعضها البعض، ولم تعد هناك حدود وفواصل في ما بينها.

فالنظام الاقتصادي اليوم تحكمه أسس عالمية مشتركة وتديره شركات عالمية ذات تأثير على الاقتصاديات المحلية (4).

ما تقدم يعني أن الدولة لم تعد الفاعل والمحدد الرئيسي للنشاط الاقتصادي والتجاري على الصعيد العالمي، وأنه أصبح للفاعلين الاقتصاديين الجدد دور محوري في مجالات الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية (5).

فالشركات المتعددة الجنسيات تملك جنسية دولة معينة وتتبعها فروع باقي الدول وتمارس أنشطة إنتاجية عالمية، لكن مركز قراراتها موحد، حيث تلعب هذه الشركات أدواراً سياسية خطيرة وتفرض وجهة نظرها على الدول الضعيفة وحتى على القوية أحياناً عبر آليات الضغط التي تملكها، والمثال الأكثر رمزية ما قامت به الشركة الأمريكية "I.T.T" التي لعبت دوراً مهماً في الانقلاب العسكري في السلفادور، الذي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور أليندي.

"وتتحرك هذه الشركات على الصعيد العالمي، وكأن العالم لم تعد له حدود سياسية أو جغرافية، متجاوزةً بذلك الحواجز والقيود التقليدية على النشاط الاقتصادي والمالي والصناعي. فتجد مثلاً شركة كبرى كالأخطبوط الممتد في جميع أرجاء العالم ليس لها مقر واحد: مقرها الإداري في دولة ومقرها التسويقي في دولة ثانية، ومقرها الإنتاجي في دولة ثالثة، ومقرها الهندسي والفني في دولة رابعة، ومقرها الإقليمي في دولة خامسة، ومقرها الدعائي في دولة سادسة، ومقرها التنفيذي في دولة سابعة، فلم تعد لها هوية أو جنسية محددة، ولم تعد تنتمي لدولة ولا تعترف بموطئ قدم واحدة، ولا تؤمن بالولاء لأي قومية أو منطقة جغرافية"(6).

هذا وفي حين ركز منتقدو التجارة في الثمانينات على شبح عدم تكافؤ الفرص، أصبح الهجوم على ما يسمى بالتكامل العالمي منذ مطلع تسعينات القرن العشرين أبعد مدى بكثير.

ومن أمثلة هذا النقد القائل: أن العولمة بحكم طبيعتها نفسها تقوض الحكم الذاتي القومي -سيادة الدول، فالمواطنون يقترعون لصالح حكومات تتعهد بتنفيذ سياسة معينة ولكن عندما تقضي أسواق رأس المال الدولية بأن هذه السياسة غير ملائمة يلوح شبح الأزمة المالية إذا نفذت الحكومة هذه السياسات.

وقد يطالب المواطنون ببرامج اجتماعية توفر الرعاية الطبية والمعاش أو السياسة الاقتصادية الكلية، التي تحافظ على العمالة مرتفعة أو اللوائح التي تحمي المستهلكين والعمال أو نظام للضريبة التصاعدية.

ولكن بمجرد أن يصبح للتجارة والاستثمار الأجنبيين حرية عبور الحدود الدولية، يمكن للأسواق الدولية أن تولد ضغطاً يطغى على هذه المطالب المحددة بطريقة ديمقراطية.

وسبق أن اندهش جيمس كارفيل، الذي كان آنذاك أحد المستشارين السياسيين للرئيس الأميركي الأسبق بل كلينتون، من هذه القوة التي تبينها في مطلع الولاية الأولى للرئيس كلينتون، وقال: "في الحياة الآخرة أود أن أعرف سوقاً للسندات" (7).

وهناك نقد متصل بذلك، وهو أن العولمة تسمح للشركات بأن تفصل نفسها عن المرسى الوطني، وأن تتحرك بعيداً إلى شواطئ نائية أقل استفزازاً، وبالتالي وخوفاً من هذا الاحتمال تمتنع الحكومات القومية عن اتخاذ خطوات تفرض مسؤوليات اجتماعية أساسية على الشركات الكبرى.

وفي اقتصاد مغلق، يستطيع المجتمع من خلال الحكومة أن يجبر الشركات على دفع أجور الحد الأدنى، وتقديم المعاشات والمنافع الصحية والوفاء بمعايير متشددة للبيئة.

ولكن في اقتصاد عالمي بلا حدود، يدعون أن الاستثمار سيتدفق خارجاً من البلدان التي تفرض معايير متشددة إلى البلدان التي لا تطالب مشروعات الأعمال بقبول مثل هذه المسؤوليات، وبالمثل تستطيع الحكومات أن تخفض الضرائب على مشروعات الأعمال بغية منعها من الانتقال للخارج.

باختصار يشكو هؤلاء النقاد، من أنَّ التكامل العالمي يحد من قدرة المجتمع على تمويل التقدم الاجتماعي وتوزيع الدخل على نحو أكثر إنصافاً.

المصادر:

1- مهيوب محمد، مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل، المستقبل العربي، عدد 256، 2000م، ص65

2- أحمد عبد الغفور، العولـمة-المفهوم -المظاهر والمسببات، مجلة العلوم الاجتماعية، مجلد 26، عدد1.

3- سعيد الصديقي، دراسة بعنوان: هل تستطيع الدولة الوطنية أن تقاوم تحديات العولمة، منشورة في كتاب "العولمة والنظام الدولي الجديد"-سلسلة كتب المستقبل العربي (38)، مركز دراسات الوحدة العربية -بيروت، ط 1، كانون أول/ ديسمبر 2004، ص121... نقلاً عن:

4-     "Ingomar Hauchler and Paul M.Kennedy، Global Trends،The World of Almanac World، New York: Continuum، 1998،pp.201-271"

5- سعيد صديقي، مصدر سابق، ص122.

6- عبد الخالق عبد الله، العولمة جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها، عالم الفكر، السنة 28، العدد 2 (تشرين أول/ أكتوبر -كانون أول/ ديسمبر 1999)، ص70.

7- جاري بيرتا، روبرت ز. لوران، روبرت ج. شابيرو -جنون العولمة، ترجمة كمال السيد، مركز الأهرام للترجمة والنشر -القاهرة، ص141.