من يطالع عنوانَ المقالِ أعلاه سيخالُ أنّه نصٌّ نوستالجيّ، مفعمٌ بالحنين للماضي والحسرة على الواقع، لكنّه ليس كذلك بل ربّما هو عكسُ ذلك؛ فالمقالُ يجادلُ بأنّه يمكنُ العثور في كلّ المظاهر والسمات، سواءً السلبيّة أو الإيجابيّة في الجبهة اليوم على البصمة الوراثيّة لجبهة 1967. هو كذلك محاولةٌ لفهم معنى وجود الجبهة الشعبيّة اليوم عبرَ البحث في معنى وجودها قبل 55 عامًا.
تأسّست الجبهةُ الشعبيّةُ إطارًا يعتنقُ فكرين سياسيّين بينهما تناقضٌ جوهريّ، وهما القوميُّ والماركسي. فالأوّلُ يقومُ على الانتماء الثقافيّ القوميّ أساسًا للائتلاف والتحزّب بغض النظر عن الانتماء الطبقي، ينظرُ للأمّة غايةً لا مجرّد حقيقةٍ موضوعيّةٍ موجودة، ويسعى لتفوّقها وتسيّدها على الأمّم الأخرى. أمّا الثاني فيقيم تحزّبه على الانتماء الطبقي بغض النظر عن الهُويّة القوميّة، وترى الماركسيّة أنّ الرأسماليّة تستخدمُ العصبيّة القوميّة أداةً لتبرير مصالحها في التوسّع الإمبرياليّ حين تعطيها بعدًا قيميًّا، حيث تصبحُ رفعة الأمّة وعزّتها قيمة سامية بحدّ ذاتها. وتتمكّنُ عبر ذلك من تجنيد العمال والفلاحين في حروبها، بينما عليهم بحسب الفكر الماركسيّ أن يتحدوا مع باقي العمال والفلاحين في العالم في وجه المُستغِلّين الرأسمالّيين. وتعدُّ القوميّةُ في السياق السياسي الغربي المعاصر فكرًا يمينيًّا أصيلًا، وتصنف أحزابه بين يمينٍ وسطٍ ويمينٍ فاشيّ.
واختلف الوضعُ في السياق العربيّ، فالحركاتُ القوميّةُ العربيّةُ الأولى كانت أقرب في التصنيف لليسار منها لليمين؛ لأنّها علمانيّةٌ ومناهضةٌ للاستعمار وتسعى لإقامةِ دولةٍ حديثةٍ على أنقاض الإرث العثماني، وذلك لا ينفي وجود سماتٍ يمينيّةٍ واضحةٍ لديها، وحتّى فاشيّة في بعض الحالات. إنّ حداثيّة الحركات القوميّة العربيّة الأولى سمح بتطوّر تيّاراتٍ أكثر يساريّةً وقربًا من الفكر الماركسي داخلها، لكن سرعان ما تمَّ إنهاؤها وإقصاء وتصفية رموزها بعد نشوء الدكتاتوريّات القوميّة كما في حالتي سوريا والعراق، ونذكرُ هنا النهاية المؤسفة لصلاح جديد وعبد الخالق السامرائي.
من هذا العرض نجد أنّ الجمع بين الماركسيّة والقوميّة في الحالة العربيّة الخاصّة أمرٌ ممكن، لكنّه ليس مثاليًّا فالتناقضاتُ تبقى حاضرة. والجبهة الشعبيّة عند تأسيسها شكّلت النموذج العربي الأنضج وربّما الريادي في ذلك، واستندت تجربتها إلى منطلقاتٍ أيديولوجيّةٍ وسياسيّة، فمن الناحية الأيديولوجيّة كانت الجبهة ترى أن هناك علاقةً عضويّةً ووجوديّةً بين البرجوازيتين العربيّة والفلسطينيّة والإمبرياليّة العالميّة، وعليه استنتجت أن النضال الطبقي ضرورةٌ للتحرّر من الهيمنة الغربيّة. لكن لماذا ذهبت الجبهةُ إلى تبني الماركسيّة وعدم الاكتفاء بالاشتراكيّة حالًا القوى القوميّة العربيّة الأخرى؟
ربّما الأمرُ مرتبطٌ بلحظة التأسيس، حين كانت الأفكار الماركسيّة لها صدى عالميّ، خاصّةً المتعلّقة بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها والتحرّر من الاستعمار والعدالة الاجتماعيّة، وانتشرت بشكلٍ خاصٍّ بين شعوب العالم الثالث الخاضعة للاستعمار أو المتحرّرة منه حديثًا، وساعد على ذلك بشكلٍ كبيرٍ الدعاية السوفييتيّة والصينيّة، كذلك التجربة الملهمة للثورتين الكوبية والفيتنامية، حينها لم تكن تخلو أدبياتُ قوى التحرّر في العالم حتى غير الماركسيّة من شعاراتٍ ومفاهيمَ ماركسيّة، ويمكن أن نجد ذلك بوضوحٍ في أدبيات حركة فتح على سبيل المثال حتى سبعينات القرن الماضي.
من هنا تأتي المنطلقاتُ السياسيّة، فالشعبيّةُ على عكس حركة فتح لم تكن تعوّل على النظام الرسمي العربي، وكان لها موقفٌ نقديٌّ واضحٌ منه بما فيه النظام الناصري، واعتبرت معظمه من ثالوث الأعداء؛ الإمبريالية العالمية والصهيونية والرجعية العربية، كما أنها لم تضع نصب عينيها مسألة تمثيل الشعب الفلسطيني، فكانت معارضةً في زمن الشقيري، ولم تزاحم عرفات وحركة فتح على قيادة منظمة التحرير فيما بعد، وهذه المسألة الأخيرة لم تأخذ حقّها من النقد.
على كلّ حالٍ كان تبني الشعبيّة للماركسيّة في جانبٍ منه تأكيدًا لنهجها المعارض، حيث أبرزت تمايزها عن النظام الرسمي العربي بما فيه منظمه التحرير بالمعنى الأيديولوجي. ومن جانبٍ آخر نوعًا من البراغماتيّة السياسيّة المستترة إن جاز التعبير، رغم أنها دائمًا كانت تتهم بالجمود السياسي، فالشعبية بقيادة جورج حبش وفي ظل قناعتها بأن وجود إسرائيل يستند إلى دعم الغرب الرأسمالي، فإن الحليف الممكن لنضال الشعب الفلسطيني هو الشرق الشيوعي، فمالت في البداية نحو الصين وروجت لأفكار ماو تسي تونغ حتى توطدت علاقتها بالسوفيت نهاية السبعينات. والمفارقة التي تدعم التحليل أعلاه أنه لم يعرف عن مؤسسي الجبهة أنهم ماركسيين حين كانوا في حركة القوميين العرب بمن فيهم جورج حبش، الذي أقر بأنه تعمق بقراءة الماركسية وال لينين ية في محبسه السوري وليس قبل، رغم ذلك كان القرار بتبني الماركسية بعد تأسيس الجبهة، رغم معارضة بعض المؤسسين وعلى رأسهم وديع حداد.
كانت الجبهةُ الشعبيّةُ ماركسيّةً وقوميّةً في علاقاتها ومواقفها السياسية، وأدبياتها النظرية، وشعاراتها، لكنها لم تكن تماماً كذلك في الممارسة النضالية خاصة في الجانب الاجتماعي والعمل الشعبي والجماهيري.
يمكنُ الردُّ على الاستنتاج السابق بأن الظرف الموضوعي المحكوم بمعادلة الصراع التناحري مع الاحتلال فرض ذلك، وهذا قد يكون صحيحًا، لكن الظرف الموضوعي حجة ذات وجهين؛ فتأسيس الحزب السياسي يفترض أن يكون بالأساس استجابة لظرف موضوعي معين، فما معنى أن يكون تبنيك للماركسية هو الاستجابة التي رأيتها صحيحة للظرف الموضوعي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، لكنك في الوقت ذاته لا تستطيع أن تكون ماركسياً بسبب شروط الظرف نفسه! ولا أعتقد أن مقولة الاسترشاد بالماركسية كأداة للتحليل التي ظهرت في أدبيات الجبهة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تحل هذه المسألة، فاستخدام أداة للتحليل لا يعني بالضرورة اعتناقها أيديولوجيا. إن المجادلة السابقة تبيّن أن حالة عدم الوضوح الأيديولوجي التي تعيشها الشعبية اليوم ليست طارئة ومنفصلة عن سياقها التاريخي بل هي نتيجة ذلك السياق.
إنّ فهم كيف تبنّت الجبهة الشعبيّة الماركسيّة وقبلها للقوميّة وكيف انعكس ذلك على الممارسة في مراحل تاريخها المختلفة مهم لفهم السياق التالي وصولًا إلى اللحظة الراهنة، وهذا المقال ليس عملًا بحثيًّا، وهدفه لا يخرج عن هدف أي مقالٍ سياسيٍّ وهو طرح فكرة للنقاش والتطوير، وإسهام في التفاعل الفكري السياسي الذي يجب أن يبقى مستمرًّا ولا يتوقف. لكن في النهاية، لا بد من التأكيد في الذكرى الخامسة والخمسين لتأسيس الشعبية على أنه ورغم كل النقد الذي يمكن توجيهه لها إلا أن وجودها والمحافظة عليها ضرورة، فدورها التاريخي لم ينتهِ بعد، رغم وعي واقعها الحالي "غير المثالي". إن تجربة الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة ومآلاتها غير السارة أثبتت من جديد أهمية وجود حامل سياسي منظم وإن كان عليلاً، وتنظيم الشعبية رغم أزماته قد يكون حاملاً لمشروع ثوري يساري مستقبلي حقيقي بالفكر والممارسة، حين يأتي أوانه في مستقبل ليس لنا خيار سوى العمل على نثر بذوره علها تزهر بعد زمن نأمل ألّا يطول.