-1-
أعترفُ بأنّني ومنذُ مطلعِ حياتي الأدبيّةِ وددتُ أن أتقرّبَ من أيّ أديب، أو صحفيّ، أو فدائيّ، أو مثقّف.. كان قريبًا من غسّان كنفاني؛ ذلك لأنّ عشقي لهذا الكائن النورانيّ كان أكبرَ من أن أحتملَهُ وأمشيَ به، أو أحتملَهُ وأفكرَ به، أو أحتملَهُ وأكتبَ نصوصي.
لقد قرأتُ له (رجال في الشمس) وأنا طالبٌ في السنوات الأولى من المدرسة المتوسّطة، وأردتُ أن أعرف حياةَ هؤلاء الرجال الذين هم في الشمس، لظني أنّهم يشبهونني، أنا ومن هم حولي في المخيّم، "لقد شوتنا الشمسُ في المخيّم حتى صرنا نتباهى بسمارنا الفلسطيني، كدت أقول سمارنا المخيّمي، وكأنها دمغةٌ وطنيّةٌ جعلت أكتافنا أعرض، وأعناقنا أطول، وثقتنا بأنفسنا أعلى وأرحب؛ ذلك لأنّ المخيم خلو من الحدائق، والأشجار، والحيطان العالية، والظلال، وسنحتاج إلى وقت، ربما كان طويلًا، حتى نفيء إلى ظلال الشهداء، الذين راحوا يعودون إلى المخيّم تباعًا مثل القطارات الطويلة ذات المهابة الفخيم".
- 2-
أحببتُ غسّان كنفاني، ليس لأنّ أستاذ العربية حسن موسى، قصّ علينا شذرات من سيرته الذاتية باكيًا، فأفجعنا بكاؤه، وإنّما لأنّه قصّ علينا تفاصيل حادثة اغتياله بالعبوة الناسفة التي دمّرت سيارته، فقتلته وابنة أخته لميس الطالبة في المدرسة الثانوية في مدينة بيروت! يومذاك، لم أبكِ وحيدًا؛ لأنّ كلّ من هم في صفي بكوا، حتى المستخدمة رشيدة أمّ عوف التي جاءت بكأس الشاي للأستاذ بكت أيضًا، وقبل أن تخرج سألت بعفويّة: من هو الشهيد اليوم؟! فقال الأستاذ حسن موسى: غسّان كنفاني، فقالت وهي تستدير عائدةً حاملةً كأس الشاي: الله يرحمه!
حين قرأت (رجال في الشمس) حزنت؛ لأنّ الصفحات الأخيرة من الكتاب اختتمت بالموت أيضًا، ولكم كنّا نودّ لو أنّنا نصير طيورًا كي ننجو من الموت!
طبعًا، وفي طرواة عمري آنذاك، لم أعرف ما تريد الرواية قوله، ولم أعرف أهمية الكتابة، ولكن ما عرفته هو أنّ غسان كنفاني نجح في هزّ مشاعري، فرحتُ أطرق على شادر الخيمة، وأنا أقرأ الرواية، بدلًا من رجاله الذين لم يقرعوا الخزّان.
- 3-
تقرّبتُ كثيرًا من الدكتور فيصل درّاج الناقد المخيف جماليًّا، ليس لأنّه (ونش عظيم)، أيّ رافعةٌ ثقافيّةٌ وإبداعيّةٌ في النقد فحسب، وإنّما تقرّبت إليه لأنّه كان عاشقًا لأدب غسان كنفاني، وقارئًا مؤوّلًا لما استبطنته نصوصه، لهذا مضيتُ إليه، بكلّ وهرتي المخيمية، وبكلّ وعثي المخيمي أيضًا، قلتّ له: أنا أحبّ غسان كنفاني، فحدّثني عنه لأتذوق طعوم محبته! فضحك، وهزّ رأسه، ورحتُ أسأله إن كان على صداقة معه؟ وأين التقاه؟ وهل رآه وهو يأكل ويشرب؟ وهل استمع لقراءاته القصصية؟ وأين تكمن قوة غسان كنفاني الفولاذية؟ أهي في قصصه أم في رواياته؟ طبعًا لم أجرؤ على حمل أسئلتي إلى أستاذي الدكتور فيصل درّاج إلا بعد أن أستأنست محبته لي. لقد سمعني أقرأ قصة قصيرة، في مركز الشهيدة حلوة زيدان في مخيم اليرموك، وكان إلى جوراه الغول النقدي والثقافي العظيم أيضًا يوسف سامي اليوسف، وكنّا يومذاك مجموعة من القصاصين الفلسطينيين، وكنت أصغرهم سنًّا، وأشعثهم، وأقلهم زينة.
بعد أن سمعني، لم يسألني الدكتور درّاج، منذ متى أكتب؟! بل سألني إن كنت طالبًا في معهد الفنون المسرحية؟!
أحببت د. فيصل درّاج، وسأبقى، لأنّه علّمني كيف أقرأ النص الأدبي، وكيف أحبّ غسان كنفاني أكثر، وكيفَ أكتشف جماليته في كلّ قراءةٍ من جهة، وأحببته أكثر حين أخذني لأعمل في مجلّة الهدف، عرين غسان كنفاني، من جهةٍ ثانية، وبمحبة د. فيصل درّاج عبرت إلى حبّ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أكثر فأكثر!
-4-
في مجلة الهدف، تعرّفت إلى صابر محيي الدين الذي أثّر في حياتي كثيرًا بعدما اكتشفت صدقه، ونبله، وكبرياءه الفلسطينيّ، وثقافته العالية، وصفات الأبوة الوطنيّة التي تحلّى بها وهو لم يزل شابًّا!
أذكر صابر محيي الدين هنا، في موقفين اثنين، أوّلهما: أنّه هو من أخذني إلى الحكيم، ومن دون أن يعلمني. قال لي، وهو يأخذ كفي حشو كفّه، أترافقني في هذا المشوار، فقلت له: معك أقطع نهر الشريعة. قال: تعال! ورحنا نمشي، وبيوت دمشق الجميلة، وأشجارها، وظلالها، وشرفاتها، والثياب النظيفة المعلّقة على الحبال تبارينا، إلى أن وصلنا! قال لي: تعال، الحكيم يريد أن يراك! فأسقط في يدي! وكدت أغيب عن الوعي. فأيّ مفاجأة هذه، وأيّ خبر؟! وحمدت الله، حين دخلنا وعرفنا أنّ الحكيم لديه ضيوف. وجاء الشاي، وأنا في حيرةٍ من أمري، فشربتُ وأنا أدعو الله أن ينقذني، أيّ أن يبقي الضيوف عند الحكيم أيامًا أو شهورًا كي أنجو من لقاء الفجأة هذا، مع أنني كنت على شوق لرؤية هذا الرجل العظيم الذي يعرف غسان كنفاني!
فأنا على لهفة، ومنذ زمنٍ بعيد، لرؤية الحكيم. لكنّني ما كنت مستعدًّا، للقاء هذا الرجل الأسطوري، خفت أن أصاب بالخرس أمامه، ولم يطل بي الوقت حتى خرج الضيوف، واحدًا واحدًا، ورأيتُ الحكيم يودّعهم عند الباب مبتسمًا، يا إلهي، أيّ رجل هذا وهو بلباس الفوتيك، ونادى صابر، وناداني وصابر ناداني: هيّا، ودخلنا! وأيّ دخول عجيب هو هذا! دخلت على ساقين من قصب، ومن المؤكّد، أنني دخلت بوجهٍ شاحب، وعينين زائغتين، وشفتين راجفتين؛ لأنّني ما كنت أعرف من يدفعني نحوه، وقد صرت في وقفتي أمامه، عينًا واحدةً تريد رؤيته، سمعتُ الرفيق صابر يقول للحكيم: هذا حسن حميد صاحب قصة جندي إسرائيلي في يوم إجازة! فابتسم الحكيم، فشعّ ضوء، وداخلتني طمأنينة ما عهدتها في نفسي، وانحنيتُ على يده، حين أخذ كفي في كفّه لأقبّلها، فأخذني هو إلى صدره، فقبّلتّ منه ما وصلت إليه شفتاي، قال: توهّمتُ أنك من داخل الوطن؛ لأنّ تفاصيل المكان لديك دقيقةٌ جدًّا، والوصف رائع، فسألتُ صابر عنك اليوم. فقال: لا، إنّه معنا في المجلّة، ويعيش في مخيّم جرمانا! فقلت له: دعني أرَه.
يا إلهي، أيّ زيارة هذه؟ وأيّ رجل شرّفني بمقابلته؟ وأيّ خوف زايلني؟ وأيّ ثناء ومباركة نالتهما قصتي المجنونة تلك؟ وأيّ وداع أبوي شملني به الحكيم يومذاك؟!
أجل، حين خرجتُ، حسّست على صدري مرّات، لأتفقّد دفق عشقي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين!
-5-
وحين رحل صابر محيي الدين، وقد صارت محبتي له غابة، بكيتُ وشعرتُ بأنني أفقد جزءًا من روحي، وحين رحل الحكيم بكيتُ وشعرتُ بأنني بلدة أصابها القحط، أو مدينة خرّبها زلزال، وحين جدّد الدكتور فيصل دراج، منفاه، بكيتُ وشعرتُ بيتمي الأدبي والثقافي، شعرتُ بأنني فقدت الجهات، ضيّعتها، وأنّ غيبوبةً، لا أدري مصدرها، راحت تلفّني بين حين وآخر، لقد تغيّرتُ، وشعرتُ بهذا التغيير، لكنني لم أشعر، ولو للحظة واحدة، أنني خسرت شيئًا من حبّي وعشقي للجبهة الشعبية؛ لأنّني ظللتُ أمشي إلى الأمام، فتعرّفت إلى رفاق غسان كنفاني، تعرّفتُ إلى أبو أحمد فؤاد، الرجل الصلد، العذب، الثبت، المثقّف، المحتشد بالتواضع والأبوة والفراسة، وإلى ليلى خالد التي ما قبّلت يداً لها وذكرتُ اسمها إلا باكياً، لأنها أكثر من مناضلة، وأكثر من بلدة، وأحنّ من أم، وتعرفتُ إلى أبو علي حسن الفدائي المثقّف المقدود من الإخلاص، والمهابة، وعشق البلاد العزيزة، وتعرفتُ إلى د. ماهر الطاهر مرآة الصدق والحضور الفلسطيني الجليل، وتعرفتُ إلى أسرى الجبهة ومثقفيها الرائعين المؤمنين بأنّ فلسطين عائدة لأهلها قبل غياب النهار الفلسطيني هذا.
-6-
بلى، لا ألومُ نفسي وهي تبوح في ذكرى الانطلاقة، فالحبّ ما كان في يوم من الأيام، حالة ضعف، أو انحناء، أو التواء، الحبّ أشبه بشجرة الصندل التي حين تُجرح تفوح بالرائحة الذكية التي ننشد!