Menu

الحركةُ القوميّةُ العربيّةُ في العراق: وجهةُ نظرٍ شخصيّة

د. سعد ناجي جواد

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

على الرغمِ من الشعورِ الوطنيّ الطاغي في العراق الذي ظهر جليًّا إبان وبعد الحرب العالميّة الأولى، الذي تُرجِم إلى ثورةٍ وطنيّةٍ مسلّحةٍ كبيرةٍ قادتها العشائرُ العربيّةُ ضدَّ الاستعمار البريطاني (ثورة العشرين)، وتُوِّجَ بقبول العراقيين بملكٍ عربيٍّ متجاوزين التعصّب للعراق، وللمذهب عند شريحةٍ مهمّةٍ من المجتمع، إلّا أنّ الحركة القوميّة لم تستطع أن تنتج قيادات تتمكّن من خلق حركةٍ قادرةٍ على تجميع المؤمنين بالفكر أو بالشعور القومي.

بعد الاحتلال البريطاني وبعد زوال الحكم العثماني وتشكيل أوّل حكومةٍ عراقيّةٍ (1920)، ظهر أن هناك اتجاهين في التفكير السياسي العراقي، الأوّل هو التوجّه الوطني (الإقليمي)، والثاني هو التوجه القومي (العروبي الأوسع) في العراق. ويمكن القول إن الغلبة في البداية كانت لأصحاب الفكر الوطني الذي لا ينكر عروبته ولكن يركز على الاهتمام بالعراق فقط. وكان الملك فيصل الأول هو أكثر من شجّع على هذا التفكير بدعوى أن العراقيين بسبب الاحتلالات المتتالية فقدوا هويتهم الوطنية الجامعة. ويبدو أن الاستعمار البريطاني شجع كثيرًا هذا التوجّه، الذي أصبحت قيادته مكوّنةً من الملك والضباط العراقيين الذين انسلخوا عن الجيش العثماني وارتبطوا بالدولة العراقية الجديدة تحت لواء الملك. أما هدف بريطانيا فكان واضحًا أنّه يرمي إلى طمس الهوية القومية العربية في كل مكانٍ وطئته أقدامهم من الوطن العربي. في مقابل هذا التوجه ظهرت دعوات لإخراج العراقيين من التفكير العراقي الوطني الضيق إلى التفكير القومي الأوسع. هذه الدعوات أو المحاولات بدأت على يد مجموعة من المدرسين العرب (سوريين وفلسطينيين ولبنانيين) قدموا للتدريس في المدارس العراقية في العشرينيات والثلاثينات وحتى الأربعينيات، وانضم لهم بعض العراقيين واستطاعت هذه المجموعة من كسب عدد لا بأس به من طلاب المدارس المتوسطة والثانوية، بل وحتى الكليات والمعاهد، وعندما تنبهت السلطات البريطانية للدور الذي كان يلعبه هؤلاء المدرسون العرب شجعت الحكومة العراقية على ترحيلهم الواحد تلو الاخر، ولكن أقرانهم من العراقيين استمروا مع بعض النجاحات. يمكن القول إن نسبة كبيرة من الفضل في تثبيت التوجه القومي العربي في العراق يعود إلى المفكر والتربوي العربي (السوري ابن حلب) ساطع الحصري (1879-1968). بدا الحصري عمله في سوريا وأنشأ وترأس أول وزارة للمعارف هناك، ثم قدم إلى العراق وعمل مع الملك فيصل الأول ومن جاء بعده، في أمور التربية والتعليم في العراق. وكانت كتاباته ومطارحاته قد انتشرت بين أصحاب الفكر القومي في المشرق العربي، وكانت مثار اهتمام الشباب القومي، ثم أصبحت مؤلفاته، ولا تزال مراجع مهمة في القضايا القومية العربية.

المشكلة في تجربة وتفكير المرحوم الحصري (فيما يخص عمله في العراق) هو أنه حاول حصر الحق في تمثيل القومية العربية في العراق بالعرب المسلمين فقط، والأكثر سلبية أنه امتلك تفكيراً طائفيا منحازا ضد الشريحة الأكبر من العراقيين وهم الشيعة العرب، والأخطر من ذلك أنه انجر إلى تصنيف (أو اتهام) بعض رموز الشيعة الوطنيين والعروبيين والمناهضين للاستعمار البريطاني من العراقيين بكونهم إيرانيين، حتى وإن كانوا مبدعين في اللغة العربية وعاشوا في العراق لعقود طويلة (بعضهم كانوا ينتسبون إلى عوائل عاشت قي العراق لأكثر من ثلاثة قرون في العراق)، هذا التفكير أبعد عنه، وعن أفكاره القومية شريحة مهمة من شرائح المجتمع العراقي. علما أن هذا التفكير انتشر بين العديد من دعاة القومية العربية في العراق، ضباطا ومدنيين.

ورغم جهود الحصري وجيله من رواد القومية العربية، وكذلك الشباب الذين تتلمذوا على يد المدرسين العرب الذين تحدثنا عنهم، إلا أن فترة الثلاثينات والأربعينيات شهدت نجاحا كبيرا للحزب الشيوعي العراقي في استقطاب الشباب من العرب والأقليات الأخرى وخاصة الأكراد. كما شكلت معارضته للوجود وللنفوذ البريطاني راية التف حولها طلاب المدارس والكليات والمعاهد والمتعلمين. طبعا هذا لا يعني أن الأحزاب الجماهيرية الاخرى (مثل الوطني الديمقراطي والاستقلال والبعث من بعدهم) قد عجزت عن استقطاب مجاميع من الشباب والمثقفين والعمال، إلا أن نجاحات الحزب الشيوعي كانت أكبر وواسع، وظل الحال كذلك حتى صدور قرار تقسيم فلسطين الجائر في عام 1947 وقبول الحزب الشيوعي العراقي به تماشيا مع موقف الاتحاد السوفييتي، ذلك الموقف مَثَّلَ الخسارة الأكبر للحزب الشيوعي العراقي، (ثم ارتكب الحزب الخطأ الثاني المتمثل بالوقوف في وجه المد القومي العربي بعد ثورة 1958 المطالب بالوحدة مع مصر وسوريا - الجمهورية العربية المتحدة، ثم حصل الانحدار الأكبر عندما تعاونت قيادة الحزب الشيوعي مع التحالف الأمريكي-البريطاني-الإسرائيلي الذي سعى إلى احتلال وتدمير العراق)، وهكذا خسر الحزب أغلب تاريخه النضالي.

شكل ظهور قيادة الرئيس جمال عبد الناصر البداية الحقيقية التي أججت الشعور القومي العربي بين الجماهير في أغلب الدول العربية، ولم يختلف الأمر بالنسبة للعراق. كما كان لظهور حزب البعث ووصول خلاياه إلى العراق عاملا مساعدا آخر للترويج للشعور القومي العربي بين الشباب العراقي، ثم جاءت حرب السويس 1956 والعدوان الثلاثي على مصر لكي تظهر الشعور القومي العربي الطاغي بين الشباب العراقي، الذي هب في مظاهرات داعمة لمصر، وبالضد من موقف الحكومة العراقية، إلا أن غياب الديمقراطية وإصرار الأحزاب التقليدية المتعاونة مع الاستعمار البريطاني في العراق على تزوير الانتخابات ورفض فسح المحال للوجوه الشابة، وإصرار تلك الطبقة على ربط العراق بفلك السياسة البريطانية (حلف بغداد)، رغم الكره الشعبي الكبير لبريطانيا بسبب احتلالها للعراق، وبسبب إضاعتها لفلسطين ولحقوق شعبها، نجح النظام الملكي في قمع هذه الأصوات، كنتيجة لهذا الكبت انتقل التفكير بالتغيير إلى الجيش، القوة الوحيدة القادرة على ذلك.

تكونت نواة حركة الضباط الأحرار العراقيين من مجموعة ذات توجهات مختلفة من الضباط الوطنيين الذين شاركوا في حرب فلسطين 1948، والذين زاد من استيائهم موقف النظام الملكي من حرب السويس1956. ضمت الحركة ضباطا ذو توجه وطني عراقي وأخرى تؤمن بالقومية العربية، مع عدد من المحسوبين على الحزب الشيوعي وأكراد، وكل هؤلاء جمعهم هدف واحد هو التخلص من الملكية التي ربطت نفسها مع الاستعمار البريطاني. كان الشعور الوطني هو الطاغي بينهم وليس القومي.

بمجرد أن نجحت ثورة 14 تموز/يوليو 1958، حتى تفجرت الاختلافات وانقسم المشهد السياسي إلى قسمين، الأول يرفض فكرة الانضمام للجمهورية العربية المتحدة ويمثله الزعيم/ العميد (الفريق) عبد الكريم قاسم (رئيس الوزراء الجديد) وضم الشيوعيين والأكراد، والثاني يطالب بالوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة ويمثله العقيد (المشير) عبد السلام عارف (نائب رئيس الوزراء) والذي اصطف معه القوميون والبعثيون. انتصار الاتجاه الأول على الثاني، نتج عنه إقالة عبد السلام عارف والحكم عليه بالإعدام الذي خفف للسجن المؤبد، وحملات قمع وقتل عشوائي قادتها الأجهزة التابعة لقاسم ويشاركها في ذلك الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني، (مذابح الموصل وكركوك وحملات الترويع والسحل لكل من اعتبر من أنصار الاتجاه القومي الوحدوي)، كل هذه الأمور أرعبت التيار القومي وجعلته يتجه نحو العمل السري. ولكن هذا العمل لم يكن (أو بالأحرى لم يُستَغل) من أجل تشكيل تنظيم قومي، وإنما كان هدفه الرئيسي هو وضع الخطط للإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم وحليفه الحزب الشيوعي. مقابل ذلك نظم الضباط القوميون، وحزب البعث (الذي اشتد عوده في ظل النظام الجمهوري بعد عام 1958)، عملهم وبرامجهم استنادا على إثارة فكرة الوحدة العربية وضرورة الإسراع بتحقيقها. الشيء المهم أن استغلال فكرة الوحدة في معاداة أو معارضة حكم عبد الكريم قاسم، لم تصاحبه برامج فكرية لتوعية الناس بالأفكار القومية، وخاصة الشباب. من ناحيتهما شدد الحزبان الشيوعي والكردستاني على دعم التوجه الإقليمي لدى عبد الكريم قاسم معتبرين إياه (السد المانع) أمام إقامة الوحدة التي لو قدر لها أن تتحقق فإنها، من وجهة نظرهما، ستجعل من الحزب الشيوعي أقلية سياسية أو ربما يتم حله أسوة بالتجربتين المصرية والسورية بعد الوحدة، وستجعل من الأكراد أقلية اثنية في دولة عربية كبيرة. وعلى الرغم من أن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد تنبه في وقت مبكر لتلك المخاوف الكردية، واستطاع أن يكسب عددا مهما من القيادات الكردية ويطمئنهم، إلا أن القادة القوميين العراقيين فشلوا في فعل الشيء نفسه، لا بل إنهم زادوا من ابتعاد الأحزاب الكردية عن الحركة القومية العربية بعد أن أصروا على وصف مطالبة الأكراد بالحفاظ على حقوقهم القومية والثقافية في مناطقهم بأنه محاولة لإنشاء (إسرائيل ثانية) في شمال العراق، وهذا التفكير لا يزال موجودا لحد الآن في أفكار بعض القوميين العرب.

الملفت للنظر أنه حتى مع اتساع المد الشيوعي (1959-1962) وسيطرة الحزب على أغلب المنظمات المهنية، إلا أن ممثلي الاتجاه القومي كانوا ينجحون بين فترة وأخرى بانتزاع بعض المنظمات منه بالانتخابات، وخاصة نقابتي المعلمين والمحامين، مما يدلل على ترسخ الفكرة القومية بين شرائح المجتمع العراقي.

نجاح القوميين والبعثيين في الإطاحة بعبد الكريم قاسم، شباط/فبراير (1963) استنادا إلى المد القومي المتصاعد في العراق، الذي زاد نتيجة لأخطاء الشيوعيين وعبد الكريم قاسم، لم ينتج عنه سوى حكومات متمسكة بالفكر الإقليمي، يضاف إلى ذلك استمرار حكام تلك الفئة (قوميين وبعثيين) في النأي بنفسهم عن أية مبادرة جدية للوحدة. وفي الحقيقة أن بوادر هذا التفكير كانت قد ظهرت داخل قيادة حزب البعث، منذ عام 1961 عندما سارع الحزب، الذي كان يضع الوحدة على رأس شعاراته، إلى مباركة ومساندة انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، ولم يختلف نهج الضباط القوميين العراقيين، الذين اعتبروا أنفسهم قادة الحركة القومية في العراق، عن ذلك. وفي ظل غياب تنظيم قومي مدني واضح وفعال استمر النهج الإقليمي عمليا من قبل الضباط القوميين ومن قبل قادة حزب البعث، الفرق الوحيد أن النهج الإقليمي الفعلي بعد قاسم كان يغلف بأحاديث قومية وحدوية. فقادة حزب البعث لم يكونوا جادين في مسألة الوحدة التي اعتبروا تحقيقها التسليم بقيادة الرئيس عبد الناصر، لكنهم ظلوا يحاورونه لإقامة وحدة فارغة المضمون، كما أن نجاح المشير عبد السلام عارف في الإطاحة بشريكه حزب البعث في تشرين الثاني/نوفمبر 1963، لم ينتج عنه سوى انفراد بالسلطة وتأجيل أي حديث جدي عن الوحدة، واكتفى بالحديث عن تقارب وتعاون مشترك.

ربما يكون أحد أهم أسباب ضعف الحركة القومية العربية في العراق، بالإضافة إلى عدم ظهور تنظيم قادر على توحيد الفصائل والشخصيات القومية المتشرذمة، هو أن الضباط من أصحاب التوجه القومي اعتبروا أنفسهم قادة هذا التنظيم وأنهم هم الوحيدون الذين يمتلكون الحق في تمثيل هذا التيار، في الوقت الذي أثبتت ممارساتهم أن تفكيرهم بهذه المسألة كان سطحيا وسياساتهم لا تعدو إعجابا بالرئيس عبد الناصر ومحاولة تقليد خطواته (كما حدث في تطبيق التجربة الاشتراكية في بلد لم يكن بحاجة لها أو استنساخ تجربة الاتحاد الاشتراكي المصرية الفاشلة وتطبيقها في العراق، الأمران اللذان خلقا  نفورا من الحكومات التي كانت تدعي انها قومية). أضف إلى ذلك أنهم (الضباط) كانوا غارقين في صراعاتهم على السلطة والاستئثار والتمسك بها عندما يصلون إليها، وخير دليل على ذلك تجربة حكم الرئيس عبد السلام عارف (1963-1966)، وشقيقه الرئيس عبد الرحمن عارف (1966-1968)، ولم تختلف طريقة تفكير أو خلفيات الضباط الذين طرحوا أنفسهم كبدلاء للأخوين عارف أو كممثلين للتيار القومي العربي، والذي قاموا بمحاولات انقلاب فاشلة تحت شعار الوحدة مع مصر. كما لم يتم وضع برامج تربوية لتنشئة الأجيال الصغيرة على الأفكار القومية، وظل الشعور القومي بين تلك الأجيال، وحتى الوقت الحاضر مبني على الفطرة.

وصول حزب البعث العربي الاشتراكي (القومي) للسلطة عام 1968 لم يغير من الأمر شيئا. فعلى الرغم من أن هدف (الوحدة) كان ولا يزال أول شعاراته، وعلى الرغم من بعض الخطوات ذات الطبيعة العروبية التي اتخذها الحزب، مثل إيواء العراق للقيادة القومية للحزب التي ضمت قيادات الحزب في لبنان وسوريا واليمن و السودان والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى ممثلين من أقطار عربية أخرى، وعلى الرغم من قيام العراق بتعيين بعثيين عرب في مراكز متقدمة في الدولة (قيادات عسكرية وسفراء ومستشارين ووكلاء وزارات.. إلخ)، إلا أن النظرة الوطنية العراقية الضيقة (الإقليمية)، والتوجس من قيادة الرئيس عبد الناصر، ومحاربة أولئك الذين يمثلون الفكر القومي العربي من ضباط ومدنيين، ظلت الأوضح طوال حكم حزب البعث، والدليل الأهم على ذلك التوجه هو أن الحزب فشل في توحيد دولتي العراق وسوريا التي حكمهما نفس الحزب، أضف إلى ذلك أن الحزب تحول إلى أداة في الترويج لعبادة الشخصية.

على صعيد آخر ساهمت الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988) في زعزعة الإيمان بالعروبة، لا بل إن مواقف بعض الدول العربية شكلت صدمة نفسية عند عدد غير قليل من العروبيين في العراق بعد أن شعروا بأنهم قد تُرِكوا لوحدهم في الحرب التي لم يكن لهم أي رأي فيها، وازداد هذا الشعور بعد أن ظهر واضحا إصرار القيادات الإيرانية آنذاك على احتلال أراضي عراقية بعد عام 1982. لا بل إن خيبة أمل الكثير من العراقيين بالانتماء العروبي قد ارتفعت عندما علموا أن دولا شقيقة وحركات قومية عربية قد اصطفت مع إيران ومدتها بالأسلحة والمقاتلين لمحاربة الجيش العراقي. الصدمة النفسية الثانية التي عانى منها العراقيون، والعروبيون منهم بالذات، حدثت في أثناء عدوان 1991 عندما اصطفت دول عربية مع العدوان وشاركت فيه لتدمير العراق وقتل شعبه، ثم جاءت الصدمة الأكبر في عام 2003 عندما وقفت أغلب الحكومات العربية متفرجة على التدمير والقتل الجماعي للعراقيين، ولم تكتف بعض الأنظمة العربية، وحتى عدد غير قليل من الذين يطرحون أنفسهم كقادة أو منظرين للفكر القومي العربي، بالموقف المتفرج، وإنما أظهروا شماتة واضحة بما كان يجري للعراق. عزاء العراقيين الوحيد في تلك الفترة كان هو أن الرفض الشعبي الكبير للعدوان، وكذلك تضامن قلوب الملايين من العرب معهم. ويكفي أن نذكر ما كتبه المرحوم محمد حسنين هيكل عن كيف أن الجنود المصريين الذين أرسلوا إلى حفر الباطن للمشاركة في حرب التحالف الدولي على العراق عام 1991، كانوا يهللون ويكبرون عندما يسمعون بأخبار الصواريخ العراقية التي تطلق على إسرائيل.

لم توجه ضربة قاصمة للفكر القومي العربي في العراق الحديث ولوحدة أراضيه كالتي وجهها له الاحتلال الأمريكي- البريطاني-الإسرائيلي عام 2003، وتعاون معه أقطاب ما يسمى ب(المعارضة العراقية الخارجية) والذين أتوا مع الاحتلال، ابتداء اعتبر المحتلون العراق دولة مصطنعة وليست عربية وشعبها مكون من شيعة وسنة وأكراد. أقطاب المعارضة أيدوا وباركوا هذا التوجه وزادوا عليه بأن شنو حربا إعلامية وسياسية هوجاء على المحيط العربي، واعتبروا الفكر القومي العربي أساس تقسيم الأمة واتهموا الدول العربية وأصحاب الفكر القومي العربي بأنهم هم من ساند الرئيس صدام حسين أثناء حكمه الشمولي، وطالبوا بالانسحاب من جامعة الدول العربية، وحتى بقطع العلاقات مع دول محددة مثل الاْردن وسوريا،  وبدلا عن ذلك تم ترويج الأفكار الدينية، بل الطائفية المقيتة من كل المذاهب،  والأفكار العرقية الشوفينية الممزقة للنسيج الوطني من كل المكونات غير العربية، والأخطر فلقد تم وصف كل من يحمل فكرا قوميا عربيا (قومجيا) متخلفا، وحتى أولئك الذين لم ينجروا إلى الأفكار الدينية والطائفية والعرقية، فإن تفكيرهم أصبح إقليميا عراقيا ضيقا، وساهمت في ذلك النزعة الإقليمية التي سادت كل الدول العربية، وانحسرت الأفكار القومية والعروبية بشكل كبير، ووصل الأمر إلى حد التخلي عن قضايا الأمة الحيوية كالقضية الفلسطينية وقضية الوحدة العربية. وزاد من ذلك ظهور نزعة القبول بوجود الكيان الصهيوني الغاصب والاعتراف به من قبل عدد من الدول العربية التي كانت حتى لحظة اعترافها بعيدة كل البعد عن القضية الفلسطينية. واعتبرت إسرائيل كل هذه الأمور إنجازا كبيرا لها وإخفاقا للفكر القومي العربي، إلا أن هذه الفكرة الاسرائيلية الضيقة أغفلت حقيقة أن ما تقوم به الحكومات لم يغير من المشاعر العربية الجياشة في نفوس الشعب العربي في كل مكان. من ناحية أخرى، فإن الجماهير العربية، وبعد ما حصل في العراق ويحصل في سوريا و ليبيا ، وبعد ظهور فشل التيار الديني-الطائفي الضيق، وخاصة في العراق، بدأت تعود إلى الوعي القومي ولو بصورة بطيئة. ومن المفارقات أن الحادثة الأهم التي أثارت الوعي جاءت من طرف بعيد عن السياسة، إلا وهو الرياضة. فبعد أن اعتقدت إسرائيل أن كل الأبواب أصبحت مشرعة لها داخل الوطن العربي، وفي الخليج بالذات، تفاجأت بالرفض الجماهيري الواسع لها ولممثليها في دول الخليج العربية، والأكثر إصرار الجماهير العربية على أن يكون علم فلسطين حاضرا في كل وقت ومكان أثناء مباريات كاس العالم، وهذا أكثر ما أزعج إسرائيل.

بالعودة للعراق، فإن ما بدا بحدث في السنتين الأخيرتين أثبت فشل محاولات طمس الوعي والشعور العربي التي امتدت لعقدين من الزمن (منذ الاحتلال). صحيح أن انتشار، وتجذر الفكر الطائفي والعرقي لمدة عقدين كاملين لا يمكن لأي مراقب أن يقلل من أثره الكبير أو أن يتوقع زواله بسرعة، إلا أن هناك بوادر لبداية هذا الزوال. فمهما قيل عن انحسار المد القومي العربي في العراق، فإن كل الدلائل تشير إلى أن الوعي القومي بدا بتصاعد من جديد. ويكفي الإشارة إلى بعض الدلائل: أولا، تزايد الرفض الشعبي للاحتلال الامريكي-الصهيوني. ثانيا، عدم نجاح كل المحاولات لإجبار العراق على الاعتراف بإسرائيل رغم النفوذ الأمريكي والصهيوني في البلاد. ثالثا، لا زال الوجود الإسرائيلي يتخفى في مراكز سرية وبحماية أمريكية، وبالذات في السفارة الأمريكية في بغداد، ونفس الشيء بالنسبة للوجود الأمريكي، ولو بدرجة أقل. رابعا، الرفض المتزايد والصريح للنفوذ الإيراني وخاصة في المحافظات الجنوبية،  والتركي في شمال العراق، علما بأن العشائر العربية الجنوبية والشمالية هي التي تقود هذه الحملة.

ربما لن يكون من السهل عودة الفكر القومي العربي في العراق إلى سابق عهده بصورة سريعة، ولكن هناك إشارات واضحة تدلل على عودة الوعي الوطني ونبذ الفكر الديني-الطائفي، وهذه الإشارات كافية كبداية من أجل الانتقال والعودة إلى الفكر العروبي الإنساني الذي يحترم الأفكار الأخرى من دون أن يضحي بهويته الأصيلة. ويبقى الأمر يعتمد على مدى تمكن المفكرين القوميين من وضع أسس لفكر غير متعصب ولحركة قومية عربية ديمقراطية تؤمن بالقبول بالرأي الآخر، وتحترم التنوع العراقي.