Menu

الدولةُ الوطنيّةُ الديمقراطيّةُ على طريق القوميّة

د. المحجوب حبيبي

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

مقدّمة:

بناءً على التجربةِ التاريخيّةِ للأمم والشعوب، التي يوثّقها بكيفيّةٍ مستفيضةٍ كتاب (تاريخ الحركات القوميّة بأجزائه الخمسة) تأليف وتعريب الدكتور نور الدين حاطوم أنّ القوميّة كانت بالنسبة للأمم والشعوب ممرًّا تاريخيًّا إجباريًّا في مسار تطوّر الشعوب وارتقائها وتحوّلها نحو الوحدة عبر مراحل ثلاث:

1 - قطر يّة ضيقة، كما حددتها مقاييسُ اتفاقية سايكس – بيكو.   
2 -أمميّة حالمة، كما حددتها مقاييسُ الفكر الماركسي، التي تبناها الاتحاد السوفياتي، التي لم تتحقّق.
3 -قوميّة موسَّعة، كما حددتها النظرياتُ القوميّةُ العربيّةُ بعد انهيار موجة العثمنة.

مبرّر الهُويّة لتوسيع الاختلاف

وفي مواجهة مفهوم الوحدة والقوميّة يثار مفهوم الهوية دعوةً للتمايز والاختلاف حتى وإن كان دعوة للتمزق والتلاشي والقزمية والصراع حتى الدموي منه، وهو مفهوم في هذه الحالة مستمد من مرحلة القبيلة والعشيرة وهو هنا تعبير عن الانتماء التقليدي ما قبل الرأسمالي، وسيتعرض للازدراء من طرف كارل ماركس في (نقد فلسفة الحق) يقول: "يا له من مشهد! إن التقسيم اللامتناهي للمجتمع إلى مجموعة من الأعراق Rassen التي يعارض بعضها بعضا بكراهياته السخيفة، بضميرها المؤنب، بضحالتها الفظة، والتي بسبب الموقف الملتبّس والمشبوه لكل عرق إزاء الآخر، يعاملها أسيادها، كلها وبلا تمييز، على أنها كائنات مسموح بوجودها...!

وصولًا إلى التطرّف القوميّ الذي سينتج الفاشية والنازية. فباسم القومية الأكثر "نقاء" وعنفا وشمولية سترتكب جرائم ضدّ الإنسانيّة بشكلٍ لا سابق له في التكثيف المكاني والزماني في حربين كونيتين. إلا أن مسيرة الدول منذ منظمة الأمم المتحدة تتوجه نحو (نحن) أممية لكن هذا الخيار أجهضه التوحش المعولم. المتجلي في الهوية الغربية المتطرفة والعنصرية التي تمثلها نظرية أنتيغون (للنحن الغربي) و(الآخر) الأمر الذي أفضي إلى بروز منظومات وتيارات تمايز وتفاضل تشكل بالضرورة عنصرا في تعزيز أشكال الانتماءات العرقية والطائفية المتطرفة محلية ودولية باعتبارها وسائل دفاع ذاتية.

لكن الهوية، (بالمعنى الجمودي والساكن والمتمترس وراء حجاب العقل الرافض لثقافة التحرر والديمقراطية والتقدم باعتبارها محرك التجديد المجتمعي والفعل الذي يسمح بإعادة إنتاج وابتكار الذات المتحررة)، لم تعد سوى أنشودة حماسية تعبر عن مشاعر إحباطية نتيجة الهزائم المتعددة الداخلية والخارجية الفكرية والعلمية والسياسية والتربوية والاجتماعية... يبقى من الضروري التذكير بأن الناس يرفضون الشعور بأنهم في أزمة، لأن الهوية عند غالبية البشر أيضا عنصر اطمئنان بامتياز.

أسس ومنطلقات وصراعات حول القومية

وعلى الرغم من أن بعض المفكرين الماركسيين يسقطون من حسابهم أهمية الثقافة وما تحمله من أفكار وعواطف، شاهدها ما حصل ويحصل من تعاطف ومناصرة للفريق المغربي الذي حقق انتصارات غير مسبوقة عربيا وإفريقيا في كأس العالم بقطر حيث هزت الفرحة الأمة من الخليج إلى المحيط جعلت الصحافة الغربية تتساءل عن سبب هذه الفرحة العارمة لكل الشعوب العربية، مهما كانت خلافات أنظمتها، لأن الأصل عند الغربين هو فرح أبناء الوطن المنتصر منتخبه فقط، وهذا تفسير تحكمه مشاعر استعمارية حاقدة تكشف أن كل ما قاموا به من دعايات وأكاذيب للتفرقة لم يجدي فتيلا ... كذلك إن النزوع إلى تفسير التاريخ بعوامل اقتصادية بحثة، حتى وإن كان في بعض مكوناته صحيحا، إلا أنه لا يخلو من مبالغة، حيث لا ينبغي أن نهمل العوامل الثقافية فكرية كانت او وجدانية، وينبغي أن تُضم المعطيات المادية والثقافية إلى بعضها البعض لتشكل رؤية شمولية للواقع الموضوعي الذي تنبني على قاعدته ركائز القومية الواعية كعقد اجتماعي بين مكونات المجتمع. علما أن الذي يُتخوف منه هو نظرية القومية اللاواعية، وهي توجه يتميز بحدة نمو العاطفة القومية على قاعدة الانتماء العرقي (العرقية) وتنمى بين أعضاء الإثنية إياها روحا جياشة من العواطف التضامنية من كرامة وشرف ونقاء في العرق والدم، تلك العوامل التي تتقوى بفعل عوامل الإعلام والدعاية المكثفة الرائجة التي تتغذى باستمرار عبر مختلف الوسائط حيث يصبح البحث عن المميزات بل واختلاقها والمحاججة بها واعتماد المظلومية ضد الآخر وتبخيسه وتحقيره وإبراز مشكلاته وهزائمه وما يشاع عنه، على أساس أنه مؤصل فيه وراثيا وفسيولوجيا... وإثارة كل ما يقوي الحمية من نفخ في الذات حتى يتحول سلوك الفُرقة إلى عصبية وشوفينية مقيتة وهكذا كانت النازية... وخير مثال : والذي انتشر انتشار النار في الهشيم هو ما مارسته الإمبريالية الأمريكية والصهيونية والرجعية ضد الناصرية كمشروع قومي، فكانت أغرب التهم التي تم كيلها للزعيم الراحل جمال عبد الناصر لأجل تشويه مواقفه واغتيال شخصيته (هي كونه على صلة بالمخابرات المركزية الأمريكية قبل الثورة) وقد بدأ اتهام نصر سنة 1969 عندما نشر مندوب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ( مايلز كوبلاند) كتابه ذائع الصيت (لعبة الأمم) هذا الكتاب الذي أصبح مرجعا أساسيا لكل أعداء عبد الناصر وقد بين (حسنين هيكل) الصحافي المصري الشهير ومن خلال مجموعة وثائق ورسائل التي تثبت كون (مايلز كوبلاند) نصاب ومحتال وأنه نشر كتابه بأوامر أمريكية وبتمويل سعودي.

المدهش في الأمر أن هناك مجموعة كتب عربية ظهرت كان مرجعها الأساسي هو كتاب (لعبة الأمم) أذكر منها على وجه الخصوص: (كلمتي للمغفلين، وثورة يونيو الأمريكية، وكتاب عبد الناصر ولعبة الأمم...).

مطلب القومية في مواجهة التضليل

ولقد جئت بهذا التقديم لأننا نمر بأسوأ مرحلة من التاريخ حيث تجتاح الوطن العربي هجمة تغريبية بربرية تحالفت فيها نفس القوى النيوليبرالية المتوحشة والصهيونية العالمية والرجعيات العربية لتصفية ما تبقى من الإرث القومي التحرري، بنشر عوامل التفرقة وتمزيق الكيانات القطرية التي كان أملنا ولا زال أن تتحول بنضال وإرادة شعوبها دولا وطنية ديمقراطية، قاعدة للمشروع القومي وسيبقى رغم العوائق والمطبات، المشروع القومي قائما مهما تكالبت تلك القوى العدوانية بفعل الأدوار النضالية للشعب الفلسطيني وقواه المقاومة لأنه وبكل تأكيد لا يمكن لأي قوة مهما ملكت من وسائل السيطرة أن تضعف مناعة الانتماء إلى هويتنا العربية المتعددة الثقافات والشعوب، والتي تنتظم مهما تعددت الألسنة في نظمة لغوية موحدة وإن كره المتحذلقون عملاء النيولبيرالية المتوحشة والصهيونية والرجعية، دعاة اللسان الدارج ودعاة التغريب لأن الهوية الثقافية الغنية بتنوعها هي السمة الإنسانية التي تميَّز شعوبنا ونعتزُ بها.

رؤيتنا إلى القومية العربية      
فالقومية العربية من الناحية الوجودية هي كينونة اقتصادية واجتماعية وثقافية متكاملة، ومن الناحية المجردة هي فكرة اجتماعية وثقافية ووجدانية لا تستبعد أي مكون من مكوناتها اللغوية والثقافية، من حيث موقعها في منظومة الوحدة التاريخية لفكرة القومية العربية، فإن رؤيتها كما هي تفترض إدراك حالتها وموقعها ضمن مسار التطور التلقائي لتاريخ هذه الشعوب، والذي تعمل القوة النيوكولونيالية المتوحشة وعملائها على اجهاض ارتقائه بكل الوسائل الممكنة والتي تتلون حسب كل مرحلة وصولا إلى مشروع تقسيم المقسم بالعمل على إنشاء دويلات دينية طائفية، أي النكوص بالدولة القطرية العربية إلى مرحلة ما قبل بناء الدولة الحديثة، وهذا المفهوم صاغه نظرياً برنارد لويس، المفكر الصهيوني، وتعمل الإمبريالية الأميركية على تنفيذه، بواسطة مشروع الشرق الأوسط الجديد. وبواسطة التطبيع مع العدو الصهيوني.

 ولقد تأكد بالملموس ومرة أخرى أن القومية تعتبر مرحلة تاريخية اجبارية في تطور المجتمعات والأمم وأن تطور أي تشكيلة اجتماعية يتكون من سلسلة حلقات مترابطة كل مقدمة تؤدي وتفضي إلى نتيجة أرقى مشكلة بذلك مجرى تاريخي متصل يصل الحاضر بالماضي ولكن ليس بشكل خطي لأن هذا الاتصال بين حلقات التاريخ ليس ترسيمة رتيبة معادة ومكرورة، فهناك انتقالات مفصلية تعتبر محطات كبرى وملزمة أو اجبارية للتطور بفعل التراكمات الكمية وحركية المجتمع وثقافته فهناك مجتمعات يعرقلها التضليل والقمع والحمولات الإيديولوجية السائدة فتتسم بالبطء والانتقالات التدريجية، وهناك مجتمعات على العكس من ذلك تتميز بحركية قوية وحيوية وتوثب وتحقيق مكاسب إيجابية نتيجة لنضالاتها ووعيها... إذن لكل شعب فترات متميزة اندفاعا وتقدما أو تراجعا وركودا.

النضال الديمقراطي على طريق القومية

والنضال الديمقراطي المحددة أهدافه واستراتيجيته يعتمد فيما يعتمده مخططا نحو البناء القومي خطواته تحقيق أولا ثورة ثقافية تقوم على تمتين علاقة المساواة والعدالة بين شرائح المجتمع كافة، من دون تمييز أو تفضيل مع احترام وتقبل الآخر. وإن مقاييس التناوب على الحكم، في مرحلة الدولة الوطنية الديمقراطية، تقوم على قواعد الانتخاب الحر والنزيه والكفاءة والنزاهة، وليس على المحاصصة الطائفية أو المذهبية.

وبعد بناء الدولة الوطنية الديمقراطية بكل مقوماتها وأسسها، فستكون الطريق السليم لبناء وطن قومي عربي سليم وذلك لأن القومية حاجة لتكامل اقتصادي ودفاعي وعلمي بين شتى الأقطار، وهذا ما يجعلها مطلبا تاريخيا ملحا لكل العرب.

شحذ الوعي ضرورة لمواجهة التضليل ومخاطره

ومرة أخرى أؤكد على خطورة ما يشاع من دعايات وما توهمنا به القوى الاستعمارية الجديدة، على أساس أنه تمدن وحضارة وما تثيره من زيف وما تشوهه من مطالب حول الحريات والحقوق والمساواة... وما تشجع على ظهوره وتكرسه من اختلافات إثنية وطائفية ومذهبية... وما تهتم به من فلكلور ومن تسديج للفنون حيث تقدم حولها الدراسات والأبحاث... وما تدعمه وتشجع عليه من نزعات وأفكار زائفة هادفة إلى إشاعة الفرقة وتخريب وحدة الأمة وتمزيقها معرقلة كل الممرات الإجبارية التاريخية والتطورية التي تقتضيها التحولات الكبرى كبناء الدولة الوطنية الديمقراطية وتحقيق القومية ووحدة الأمة، واكتمال استقلال التراب الوطني واستقلال الاقتصاد الوطني...  وقد تلجأ إلى القوة والدسائس وخلق الحركات الإرهابية (القاعدة وداعش ومن لفهما) لأجل غرس ما تسميه القيم الجديدة من ديمقراطية مفترى عليها وقبولنا بحصد ثمار التبعية، معتبرة أن استسلام الشعوب وبؤسها وقبولها بالاستبداد ومختلف المظاهر الكاذبة والمضللة والتي تعتبرها حضارة وتمدن" وتفاخر بالنظام الحر وبالأنظمة الاستبدادية، كونها خضعت بنجاح لعملية زرع قيم وأخلاق وتوجيهات المؤسسات الإمبريالية من بنك عالمي وصندوق النقد الدولي، كل ذلك تعتبره تمهيدًا ومقدمة لحصاد ما تنتجه هذه المجتمعات التابعة سواء من خلال هجرة العقول المبدعة واليد العاملة الكفؤة أو ما يتم استنزافه منها من خيرات ومنتوجات فلاحية وخامات معدنية وما تستورده تلك البلدان التابعة من منتوجات وأسلحة للقمع وللحروب الممكن التحريض عليها... كل ذلك لتغذية عجلة الاقتصاد الإمبريالي.