Menu

الكيانُ الصهيونيّ: الفاشيّةُ بألوانٍ ليبراليّة

أحمد مصطفى جابر

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

تبيّنُ دراسةُ النظمِ الفاشيّةِ الكلاسيكيّة عناصرَ عدّة أو ركائزَ أساسيّةً بمثابة عناصرَ تأسيسيّةٍ تستند إليها هذه الدولة، لخّصها هتلر أفضل تلخيص (1) «لن يكون للشعب الألماني أي حقٍّ في أي نشاطٍ استعماريٍّ ما لم يجمع أبناءه في دولةٍ واحدة، ومتى احتوى الرايخ أبناءه جميعًا يمسي عاجزًا عن إعالتهم، ومن العوز ينشأ حقُّ هذا الشعب في الاستيلاء على أراضٍ أجنبيّة، عندئذ تتخلّى السكّةُ عن مكانها للسيف، وتعد دروع الحرب حصاد عالم الغد» وهو يضيفُ أيضًا «إنّ النمسا جزءٌ من ألمانيا لا يتجزأ، وإن زوالها دولةً مستقلّةً أمرٌ حيويٌّ بالنسبة للأمة الألمانيّة» ويضيفُ «لهذا أعتقد أنّني منصرفٌ حسبما يشاء العلي القدير خالقنا؛ لأنّني بدفاعي عن نفسي ضدّ اليهوديّ، إنّما أناضل في سبيل الدفاع عن عمل الخالق».

إذن، وحدة العرق وأرضه ومطابقة الأرض للعرق والعرق للأرض المحدودة، ومن ثَمَّ الغزو والتوسّع والاستيلاء على أراضي الآخرين، كلّ هذا مدعومٌ بأيدولوجيا التمييز بين (الأنا) و(الآخر) ومرتكنٌ إلى إرادةِ قوّةٍ إلهيّةٍ عليا، هذهِ كلُّها سماتٌ لازمةٌ لدولةٍ فاشيّة.

عناصرُ تأسيسيّة:

ثمّةَ قواعدُ ناظمةٌ تحدّدُ النموذجَ الفاشي للدولة، مع التأكيد أنّ الظروف الخاصّة هي التي تخلقُ النموذج المحدّد والمميّز للدولة الفاشيّة إلّا أنّ هذه القواعد (2) لا تني تبرز كلها أو معظمها في تحليل النظم الفاشيّة وسنفحصُ في هذه الفقرة هذه القواعد ومدى تجاوب بناء الدولة في الكيان الصهيوني معها.

  1. القوميّة الرجعيّة الشوفينيّة: وهي لا تمثّلُ عنصرًا عارضًا في الفاشيّة، بل العنصر الثابت الذي لا يمكن أن يتحوّل في برامجها كما يؤكّد ديمتري، والسؤالُ المطروحُ ما هي الظروف التي يمكن أن تلحظ بين الوطنيّات الألمانيّة والأمريكيّة و"الإسرائيليّة"، بين سيادة العرق الآري وأمركة العالم والشعب المختار؟

يرتكزُ الكيانُ الصهيونيّ على فهمٍ مغرقٍ في الرجعيّة، لفكرةِ الهُويّةِ والقوميّةِ مرتكزًا على تطابق العرق مع الدين ونقاء العرق ومنع امتزاجه وذوبانه.

تتجلّى هذهِ الفكرةُ أوّلًا في فكرةِ يهوديّةِ الدولة؛ إذ يرفض الصهاينة باستمرار فكرة الدولة الثنائيّة القوميّة ويرفضون الاعتراف بالعرب أقليّةً قوميّة، ويعكس إعلان قيام "إسرائيل" هذا الأمرُ بوضوح، حيث دعيت فلسطين باسم «أرض إسرائيل» مؤكّدةً ارتباط اليهود بها، كما أكّدت على الحقّ الطبيعيّ والتاريخيّ لليهود في البلاد، وتحليل الوثيقة يؤكّد أن مفهوم الدولة الوارد فيها هو مفهومٌ انعزاليٌّ وعرقيٌّ يثيرُ مشكلةً للأقليّة العربيّة، والنصّ على يهوديّة الدولة يعني عمليًّا الاستيلاء على الأرض وتهويدها واستقدام المهاجرين اليهود وبناء المستعمرات لهم، والتركيز على العمل اليهوديّ والاقتصاد اليهوديّ وتعميم الثقافة اليهوديّة وبلورة السياسة اليهوديّة.

كما أنّ الحديث عن المساواة في الوثيقة، جاء منسجمًا في الفقرة الثانية أي بخصوص اليهود أما المساواة الواردة في الفقرة الثانية، التي تخصّ العرب، فجاءت مشروطةً بقيامهم بنصيبهم في إقامة الدولة، الدولة ذاتها المقامة على أنقاض كيانهم ووجودهم.

والوثيقةُ برفضها الحديث عن حقوق العرب أقليّةً قوميّةً تكرّس المساواة الحصريّة ضمنَ الجماعة اليهوديّة ما يعكسُ الوجه البشع للأبارتهايد المسمى إسرائيل. ومن سخرية القدر أن الساحة السياسيّة الصهيونيّة تجاوزت حى وثيقة الاستقلال التي يمكن أن يقال فيها الكثير، لدرجة أن بلدية تل أبيب تعلق هذا الإعلان على جدارها بلوحةٍ عملاقةٍ رفضًا لحكومة تضم سموتريتش وببن غفير وعتاة التزمت الديني.

  1. العودة إلى الماضي: وهي النزعة الفاشية إلى العالم المنتظم النموذجي، الآخذة في النموذج الإسرائيلي منحى ماضويًّا ومستقبليًّا أيضًا، في الحالة الإيطاليّة، كان النزوعُ الفاشي الإيطالي إلى روما القديمة وإمبراطوريتها العظيمة، وشكّلت أمثولةَ الجرمان القدامى في مواجهة قطعان السلاف الهمج مرجعيّةً مختارةً للنازية الألمانيّة، واستعادت الفاشية الأسبانية والغالانج عصر الإمبراطورية مترامية الأطراف في عهد الكشوف الجغرافيّة الكبرى، القائمة على الأخلاق والدين، ويتردّدُ الصدى في الشعب التوراتي، الكاهن، وفي أمريكا يتجسّدُ في استعادة الأيّام الأولى عند قيام الجمهوريّة الأمريكيّة التي جاءت ردًّا على تهاوي أوروبا وموتها.
  2. العداء للديمقراطيّة: يظهرُ هذا الموضوعُ أكثرَ ما يظهر في ضرب ركيزةٍ أساسيّةٍ في المفهوم الديمقراطي الليبرالي ولن نفاجأ إذا عرفنا بغياب قانون أساس حول الحقوق الاجتماعيّة حتّى الآن في "إسرائيل"، وقد أكّد مؤشّر الديمقراطيّة لعام 2003 أنّ "إسرائيل" هي في الجوهر ديمقراطيّةٌ شكليّةٌ بخصوص جانب الحقوق مؤشّرًا للنظام الديمقراطي، وحرية صحافيّة متدنّية، وأشار التقرير أن نسبة التأييد في إسرائيل عمومًا للمقولة الذاهبة إلى أن النظام الديمقراطي هو أمرٌ مرغوبٌ به، هي الأكثر انخفاضًا بين 23 ديمقراطيّة شملها الاستطلاع، ولا شيء تغيّر حتى الآن بعد عشرين عامًا من هذا البحث.

إنّ مشكلة اللاديمقراطية الإسرائيليّة تتبدى سواء في اليمين أو اليسار، حيث أن اليسار "الإسرائيلي" بممثليه المتعاقبين أثبت عجزا واضحا في استبطان القيم الديمقراطية والدفاع عن حقوق المواطنين، مما يعكس الغياب الفاضح للفوارق بين اليسار واليمين في مقارنة المواقف من القضايا الاجتماعية (3) وربما يعود أحد الأسباب إلى أن حركة العمل كما يحلل زئيف شطرنهل (4) انبنت أصلا كمنظومة قوة وهيمنة تمثّلُ هدفها الجوهري في إقامة الدولة استنادًا إلى احتلالين: الأرض والعمل، كما أن نشوء اليسار جاء من تقاليدَ إشكاليّةٍ من ناحية الديمقراطية الليبرالية، تقاليد جماعيّة كرّست إلى حد التقديس مبدأ الأكثرية لا الحريات الفردية، أدى إلى بروز نخبةٍ ديمقراطيّةٍ تؤمن أن الطليعة صاحبة القول الفصل في إقرار كل شيء باسم الشعب وقد عبر دافيد بن غوريون عن ذلك بقوله: «ليس المهم ماذا يريد الشعب، وإنما المهم ما هو مطلوب من الشعب» (5).

معسكر اليمين بدوره وخصوصًا الاتجاه التنقيحي الذي خرج منه الاتسل والليحي (الذين رفضا الانصياع للانتخابات في اليشوف)، حيث يعتقد أنّ الأفضليّة ممنوحةٌ لقيم القومية والدولة، وهذا المعسكر قدس وما يزال قيمًا معاديةً جوهريًّا للديمقراطية: النظام والقوة، الانضباط والتراتبية، والعسكرية والوحدة مقابل التسامح والتعدديّة. وحزب حيروت (الحرية) رفع لواء حرية الشعب مقابل حرية المواطن (6). أما المعسكر الديني فهو يعدّ أنّ الشريعة ويهوديّة الدولة أهمّ من حريات الإنسان والمواطن.

  1. عبادة البطل: يشكل الزعيم الملهم (الرئيس) نقطة جوهرية في النظام الفاشي، وأيضًا البطل الأسطوريّ النموذجيّ الذي تتجمّع فيه روح الأمة وهكذا تستعيد الذاكرة الإسرائيلية المحاربين أمثال شاؤول وداود ويوشع ولصوص المسادة، وليس الأنبياء: أرميا وأشعيا ودانيال.

وقد جاء في مؤشّرِ الديمقراطيّةِ الإسرائيليّة عام 2003 أنّ إسرائيل تندرج في عداد الدول الأربع الوحيدة من بين الدول الديمقراطية التي تعتقد غالبية الجمهور فيها أن «في مقدرة زعماء أقوياء أن يجلبوا منفعة لدولة أكثر من جميع الأبحاث والقوانين». تترافقُ القواعد السابقة لبناء الدولة الفاشية مع عشرات المؤشّرات الأخرى التي تكون عادةً موجودةً في كلّ أو بعض أنظمة الفاشية ونحن نناقشها هنا ونلحظ مدى انطباقها على الكيان الصهيوني.

علينا هنا أن نلحظ الاختلاف بين الفاشية والديكتاتورية العسكرية كما في أسبانيا فرانكو، والكيان الصهيوني، حيث يرتدي النظام أردية الليبرالية والديمقراطية، بينما الجوهر الفاشي يأخذ طابعا أيدلوجيا تحتل فيه العرقية حجر الأساس فضلا عن النزعة الشوفينية التعصبية وضيق الأفق والتعصب القومي (7).

ونجد مثالا لذلك أيضا لدى موسوليني الذي سعى إلى نظام عسكري سياسي محكم في كل نواحي الحياة الاجتماعية تجند فيه القيم الفردية لخدمة الدولة ومن أجلها يجب أن يضحي الفرد بذاته وبحرياته وحقوقه الأولية من حق التجمع إلى حق التعبير، والصحافة وغيرها (8)، حيث كل شيء للدولة ولا شيء ضد الدولة ولا شيء خارج كيان الدولة (9). ولأجل تحقيق هذا الهدف تعمد الفاشية إلى تدمير المجتمع وبناءه الطبيعي، فتعمل على ربط الطبقات الكادحة بممثليها الطائفيين من البرجوازية، ربطا تبعيا سياسيا مما يشل قدرتها على التحرك في حقل الصراع الطبقي، وهذا سبب تشكيل الهستدروت في إسرائيل، وتشجيع البنى الحزبية ذات الطابع الديني، كذلك ما تفعلُهُ بصفتِها قوّةَ احتلالٍ من آنٍ لآخر، عبرَ تهشيم البنى الحزبية للمجتمع الفلسطيني وتشجيع العلاقات التقليديّة، ولدينا ما يكفي من التجارب سواءً داخل المناطق المحتلّة عام 1948 أو 1967.

أما الشكلُ التوتاليتاري (الشمولي) للحكم فرغم عدم تطابقه مع الفاشية أو بلغةٍ أخرى تستطيعُ القول: إنه ليس بالضرورة اتسام الحكم التوتاليتاري بالفاشية رغم حمله بعض سماتها، والحالة الإسرائيليّة نجد التوتاليتارية – رغم أن البعض قد يعترض على هذا التحليل- وجدت مكانها في التجربة على مستويين الشعب الذي تم احتلاله وإبعاده وإبادته. أي الشعب الفلسطيني، حيث سلكت الصهيونية مسلكًا يماثل مسلك الطاغية، وهذا ما يسمى الحكم التوتاليتاري حسب حنة آرندت التي تؤكد أنه في مراحله الأولى يسلك مسلك الطاغية (10) ويعمد إلى الإرهاب الكلي.

أمّا على المستوى الثاني مستوى الجماعة اليهوديّة نفسه، حيث عبّر سلوكها وجرائمها حولت الصهيونيّة اليهود إلى أعضاء في الجماعة الصهيونيّة، ينظرون إلى أنفسهم وإلى غيرهم على هذا الأساس ممّا يجعلهم يدمرون المسافة القائمة بينهم بشرًا طبيعيين، وعبر السياسات المركزيّة وبوتقة الصهر والعسكرة، عملت الصهيونيّةُ تمامًا كالتوتاليتارية محرّكًا للتغيير المعالج مركزيًّا (11)، حيث تؤيّدُ الفاشيةُ هندسة الوعي القومي وصياغته وفق المصالح القوميّة.

وفي السلوك تجاه الرعايا، فإنّ ما يحتاجه الحكم التوتاليتاري لتوجيه سلوك رعاياه هو التهيئة التي تناسب كلا منهم ليلعب دور الجلاد بمثل الجدارة التي يلعب بها دور الضحية (12)، وتضيف آرندت أنه في نظرتها للقوانين لا تستبدل السياسة التوتاليتارية مجموعة من القوانين بأخرى بل تستغني عن أي توافقٍ تشريعيّ، معتمّدة التلفيق والانتقاء (13).

هذه السماتُ كما أثبتنا ثابتة كلّها عند الدولة الصهيونيّة، ولكن لا بدَّ من مزيدٍ من التمعّن في البنية الفاشيّة للدولة، لا شكَّ أنّ أشكال صعود الفاشية يختلف من بلدٍ إلى بلدٍ آخر ضمن الظروف الموضوعيّة الخاصة، فإذا كانت النازيّة الألمانيّة، صعدت حركةً عرقيةً قوميةً قائمةً على وحدة ونقاء العرق الآري، فإنها (بتسميتها كفاشية) صعدت في الهند باعتبارها نزعة طائفية (14)، بينما نجدها في "إسرائيل" قد وحدت بين الدين والعرق وطابقتهما، وكما كان هدف الفاشية الأوربية الاستيلاء على السلطة وإعادة تعريف الإقليم دولةً عرقيةً آرية، كذلك هدفت الفاشية الهندوسية للاستيلاء على الأرض وإعادة تعريف الهند، ليس دولةً علمانيةً وإنما دولةً هندوسيّة، وسعت الصهيونيّة منذ البداية إلى الاستيلاء على الأرض وتجسيد سلطتها عليها تحت راية خليط من الأفكار العلمانية والأيدلوجية الدينية الزائفة والمضللة، يصبح هدف الاستيلاء على السلطة هدفًا مركزيًّا لكل حركةٍ فاشيّةٍ مهما قلّ شأنها، وعندما تستولي الفاشيّة على السلطة، فإنّها تقوم بإعادة تنظيم الدولة وأجهزتها واضعة (الأمن) في مركز الانشغالات الوطنيّة، دامجةً بين الأجهزة القمعية (الشرطة) والعسكرية (الجيش) والأيدلوجية (الإعلام والتربية)، مترافقةً مع قمعٍ بربريٍّ للمعارضين وغسيل منظم للمخ تجاه الجماهير باتجاه إعادة صياغة الوعي العام، مما يوفر شروط الرضوخ للسلطة العرقية والخضوع الطوعي وخصوصًا عندما يكون الدين والأيدلودجيا شعارين في خدمة السلطة (15) لتقدم القمع في قفاز حريري يجعله مقبولًا بل مطلوبًا أحيانًا، وكما أكد لينين «كل الطبقات القامعة تحتاج لتحافظ على سيطرتها إلى وظيفتين اجتماعيتين: الجلاد والكاهن».

وتسعى الفاشية لإحلال دولة (الفولك) التي هي حسب وليم شيرر أقرب إلى معنى الجماعة البدائية التي تقوم على الدم والأرض، فدولة الفولك تحل العرق في مركز الحياة وواجبها أن تحافظ عليه نقيًّا سواءً كان العرق الآري أو اليهودي، وتتجلى هذه الفكرة أساسًا في النظرة إلى المنتمين إلى العرق المعين باعتبارهم متوحدين ومتطابقين مع الإقليم الجغرافي لهذا العرق ومنتمين تمامًا إلى مصالحه مقدمين هذه المصالح على مصلحة الإقليم الذي ينتمون إليه أصلًا بحكم المواطنة أو الجنسية.

وهكذا عن الفاشيّةِ الألمانيّةِ وفي قوانين الرايخ النازي فإنّ اصطلاح pan-germanism يعني كلّ من كان من الجنس والدم الألماني، أينما كان يعيش وفي أية دولةٍ كان يحيا، يجب أن يكون ولاؤه الأول لألمانيا ويجب أن يصبح مواطنًا في الدولة الألمانيّة، التي هي وطنه الحقيقي (16). وفي الحقيقة فإنّ هرتزل يتحدث عن هذا الموضوع ليبرر الدولة اليهودية التي نادى بها، فكلّ يهوديٍّ مهما كانت جنسيته ولاؤه الأول (لإسرائيل) وتعدّ (إسرائيل) وطنًا لليهود مهما بعدت بهم المسافة عن أراضي فلسطين، وهذا ما تثبته الوقائع والأحداث اليوميّة وما يثبته (حق العودة) العنصريّ الصهيونيّ، وكان هذا بالذات المسعى الأساسي لفكرة بوتقة الصهر، التي سعت إلى محو الفوارق بين المستوطنين ودمجهم في كيانٍ واحد، تزولُ فيه الفروقُ بين أبناء (شعب الله المختار).

والفاشيّةُ في سبيل ذلك ترفضُ أشكال التجمّع والتعاون التقدميّة، وتخشى الصراعَ الطبقيّ، ساعيةً لخلقِ دولةٍ فوق الطبقات وتوحّد ذاتها بالوطن ومن السهل إقناعها بالعدوّ الخفيّ (17).

ولعلّ (سان جوست) الثائر الشهير في خطابه ضد الملك الفرنسي عام 1783 يلخص الفكرة بقوله «الوطني هو الذي يدعم الجمهورية جملة ومن يحاربها بالتفصيل فهو خائن» (18) واضعًا حدًّا لأي معارضةٍ أو تذمّر، أليس ذلك هو المبدأ الأكبر للحكومات المستبدة في القرن العشرين.

وإذا كانت السلطات المستبدة تماهي نفسها بالدولة والمجتمع والإقليم، فيكون الحزب الحاكم بديلًا عن الشعب والأمين العام أو الزعيم بديلًا عن الحزب، وهكذا يتوحّد كلّ شيءٍ في الشخص الأوحد، وقد كتب تروتسكي في سيرة ستالين «الدولة أنا.. هكذا قال ستالين» وعدّ لويس الرابع عشر أنّه والدولة شيءٌ واحدٌ، بينما عدّ بابوات روما أنفسهم والدولة والكنيسة شيئًا واحدًا (19) أما الفاشية فتقول (المجتمع أنا) وهكذا اعتاد شارون القول: إنه (قدر إسرائيل.. مصلحة الدولة ومصلحة شارون سيان) (20).

يتأسّس المسعى الفاشي على تحويل المجتمع إلى مجرّدِ جماهير، ولأنّ هذه الجماهير بطبيعتها لا تقاوم الشهية إلى الانتظام السياسي لسببٍ أو لآخر، إذ لا يوحّدها وعيها صالحها المشترك، ولا تملك ذلك المنطق المخصوص بالطبقات الذي يعبّر عنه بمتابعة أهدافٍ مضبوطةٍ أو محدّدةٍ وقابلةِ للتحقّق، كما تشير حنة أرندت، يصبح هذا الجذب للأحزاب الفاشية في ظلّ نظامٍ يدمّر كلّ البدائل. وهكذا فالفاشي في سعيه إلى خلقِ جمهورٍ مشتّتٍ يهربُ من التماهي بالمجتمع، وينزع للتماهي بالجمهرة، التي تعاكسُ المجتمع في سماتها العامة، فبينما يميل المجتمع للانضباطية والانتظام والتكاتف والعلاقات الوثيقة تتّسم الجمهرة بالتشتت والفوضى والشكّ واللا يقين. وهكذا تنجح الفاشية في مسعاها إلى خلق جمهورٍ مشتتٍ وعديمِ الهُويّة انسجامًا مع نزعة الفاشي الهارب من التماهي بالمجتمع، النازع للتماهي بالجمهور.

والسؤالُ هنا كيف يمكنُ أن تنتج الفاشية ضمن نظامٍ ديمقراطي، يصل الحكام فيه إلى مقاعدهم عن طريق صناديق الاقتراع؟ يكمن الجوابُ في شقين: أولهما أنّ الفاشية ليست مجرّد نتيجةٍ سياسيّة، وإنما هي في الحقيقة التبلور السياسي الأعلى لمنظومة الأفكار والقيم الكامنة في التصورات المسبقة عن الذات والعالم والكامنة في الثقافة والتربية والدين، إنّها ليست مجرد حزب سياسي، بل حركة في التاريخ والفكر، تاريخ الأفكار وتاريخ الأفعال موجودة دائمًا في لحظات كمون وإعلان في الهامش أو مركز الفعل السياسي. الشق الثاني أنه في الوقت الذي تشكّل فيه الفاشيةُ أسوأ أنواع الديمقراطيّة وأكثرها تلفيقًا فإنّ هذا يعود بالذات إلى أنها تنتج أصلًا عن ديمقراطيّةٍ ملفّقة، فالنظام الفردي القائم على حقوق الفرد مقابل حقوق المجتمع والقائمة على التدمير وربط الأفراد بالمؤسّسة الرسميّة المركزيّة، مع كلّ حسناته، إلا أنّه يحملُ في جوهره بذور التكوّن الفاشي عبر تحطيم العلائق الأفقيّة بين الأفراد هذه العلائق المكوّنة عبرَ الطبقاتِ أصلًا في الفهم الماركسيّ وعبر النظم العائليّة والاجتماعيّة والنقابيّة في السوسيولوجيا الكلاسيكيّة. وهكذا لا يكون غريبًا أن من السمات المهمّة التي تتميّز بها الفاشيةُ الإيمان بجماليات السياسة وتسويغها وتسييس الجماهير، وهكذا يتجلّى فرض البعد الواحد على الجماهير وقتل مبادرات الأفراد، وجماليات السياسة تجد لها قبولًا كبيرًا عند البرجوازيّة الفقيرة وربات البيوت والشبيبة والمتدينين الحائرين. فالعالمُ الجماهيريُّ للفاشية يستمدُّ أسباب الوجود من الجمع ومن الاضطرابات النفسيّة التي تفقد الفرد ميزاته الفرديّة ليذوب في الجمع، فحضور الجمع يزيل كل اضطرابٍ لفترةٍ معيّنةٍ حيث الجمع والاضطراب ظاهرتان نقيضتان ما يؤدي إلى اختفاء الأخير مؤقّتًا (21)، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى عقليّة الحصار والتركّز على الإثنيّة والإجماع القومي، يصبح (شعب الله المختار) مرادفًا للطبقة وبديلًا عنها، ويختلف عنها بأنّ منظومة المصالح ليست هي أساسُ الهُويّة بل (الغرابة) و (الانتماء بالدم) التي تقومُ عليها لاحقًا منظومات المصالح، مما يجعلُ هذا البديل (الشعب المختار –قبيلة يهوه) نظامًا مغلقًا على الخارج، فلا يسمح له بالحراك منه إلى الخارج أو من الخارج إليه (الزواج – التهود وبالمثل ترك اليهوديّة أو التراجع عن الصهيونيّة) وهنا تخلقُ الفاشية نظامًا عضويًّا غير تعاقدي، الأعضاء المرتبطون قرابيًّا بالنظام هم شركاء طبيعيون وكل من هو خارجه (غوييم).

وهكذا فمواطنو الدولة الفاشية يقذفون بالعراء (المنفى والتهديد والإبادة) ثم يؤخذون في مسار الطبيعة أو التاريخ كما تحلل أرندت (22) يعني تسريع الحركة فيهما، فلا قبل لهم سوى أن يكونوا منفذي القانون الذي يلازمها (الحركة) أو يكونوا ضحاياه، وما يحتاج إليه الحكم في سبيل إرشاد ضحاياه هو الهيمنة التي تجعل كلا منهم جديرًا بأنْ يؤدي دور الجلاد بمثل تأديته دور الضحية على أتم وجه.

من جهةٍ أخرى تعلن الفاشية عن نفسها كارهةً للمجتمع ورافضةً لكل ما هو قائم، فالفاشيون يكرهون الديمقراطيّة ويكرهون التعدّديّة والليبراليّة، وعدم التدخّل في الاقتصاد، ويمقتون بشدة الاشتراكيّة ويشجبون السلوك المتساهل والانحطاط والتفسخ والحياة السهلة والتعاون الدولي وغيرها.

ولكن اتهامات الفاشيين للمجتمع لا تقوم على نظريّةٍ متماسكةٍ ولا يهتمون بالكمال أو الانسجام، وفي الحقيقة إنّ ذلك هو مصدر قوتهم: التركيز على الاتهامات دون الاضطرار لتوضيح لماذا... وهذا ما يساعدهم في الحصول على الدعم أو التضامن من عددٍ من المجموعات، بمعنى أنّ أي شخص كان يكره بعض مظاهر المجتمع كان مشروع (مخدوع) للفاشية يصح ذلك خصوصًا على المجموعات المحافظة، الكارهة للديمقراطيّة الليبراليّة (ندع الاشتراكية جانبًا) والمجموعة المتدينة (الكاثوليك المحافظون مثلًا) الذين يكرهون الحرية والسلوك المتساهل ويحاربون (التحرر النسوي والشذوذ الجنسي وثقافة المخدرات ويكرهون الأجانب..الخ) ويجدر النظر إلى أن هذه الجماعات دعمت هتلر وعقدت اتفاقات مع موسوليني رغم اختلاف الشخصين من ناحية التدين، وأثناء انهماك الفاشية في صرف الوقت على واجهة المجتمع فإنّها نادرًا ما تذكر كيف ستتغير الأشياء فهذا يلحظ بغموض مما سمح للمجموعات المختلفة لملء الفراغ بما يريدون.

كيف ترى الفاشيةُ المجتمع البديل، هذا لا يلحظ في برامجهم، فالفاشيون لا يعرفون إن كان مجتمع بديل ما ممكنًا. ولكن في النهاية فإنّ الفاشية تبني نظامها، ولعلَّ أهم عناصره تسلسل هرمي صارم، ولكن ليس المقصود هنا الطبقات الاجتماعية التقليدية ولكن بنية الحركة ذاتها، قيادة قويّة من الأعلى إلى الأسفل، قائمة على فكرة أن الحشود تحتاج لمن يقودها بحزمٍ وقوّةٍ متضمنةً مطلب الطاعة التامة، في ذات الوقت من جانب آخر، هناك نزوع نحو اللا نظام، فالفاشية مخالفة للقانون وتمقت النظام وتفقده، ترغب بتدمير أي اتساق، وآخر ما ترغب فيه هو الثبات والانسجام، فالثباتُ يعيقُ إسقاط النظام الوطني الذي تريده، وفي نموذجين كلاسيكيين (ألمانيا وإيطاليا) كان هناك نزوع إلى الأيام الماضية، نوستالجيا من نوع ما حنين تاريخي (23).

تبادرُ الفاشيةُ إلى الجمع بين (النظام دون قوانين) و(النظام الخاضع للقوانين) وبين (السلطة الشرعيّة) و(السلطة الاعتباطيّة)، وهكذا تنتج النظام الأكثر غرابةً على الإطلاق، التي تتعايشُ فيه جوانبُ هذا الواقع المتناقض، أليس أحد تعريفات «التوتاليتارية» أنّها شكلٌ معاصرٌ من أحد أشكال الاستبداد ما يعني نظامًا دون قوانين؟ أليست الدولة البوليسيّة دولةَ استبداد؟ رغم وجود قانون بها، فإنّ السيادة ليست لدولة القانون بـ لإرادة العصابة الحاكمة المحضة، وهكذا فـ (القانون) السائد في العديد من شرائع المجتمع الإسرائيلي، كما هي حال السياسيين ومتخذي القرار في الدولة الإسرائيلية يتسم بالأداتية، ما يجعل القانون أداةً لتنفيذ أهداف معينة وليس معيارًا أخلاقيًّا يعكسُ قيمًا ومعاييرَ اجتماعيّة، ولكونه مجرّد أداة فإنّه يتمُّ تغييره حتى يلائم الأهداف الحالية (24).

وإذا كان هذا النوع من الأنظمة يقوم على تناقضٍ فاضحٍ بين سلطتين؛ شرعيّة واعتباطيّة تلجأ دولة إسرائيل بتحليل ميخائيل وارشوفسكي (25) إلى آليتين من أجل تخفيف التناقضات الأولى الإنكار على طول الخط ما يؤدي إلى شيزوفرينيا محقّقة أثبتت وجودها في الواقع الفعلي والنموذج الأكبر إنكار وجود الترسانة النووية، ما منع وجود أشكال حماية منها طبقًا للخبراء الدوليين نتج عن هذا العديد من الحوادث العنيفة وجعل مفاعلات إسرائيل الأكثر خطورة في العالم.

والآلية الثانية استخدام تشريعاتٍ يتم تفصيلها على مقاس الأشخاص وهو ما يحدث إذا كان القانون مثلًا، يشترطُ أن يكون رئيس الوزراء عضو كنيست يتم تغييره من أجل نتنياهو، أيضًا إذا كان القانون يحكم على وزير سابق بالسجن بسبب الفساد يتم إطلاق حملة لإطلاق سراحه، ويتم إقرار قانون يسمح لأشخاص بعينهم إطلاق سراحهم بعد قضائهم نصف المدة. وإذا كان هناك قانون أساس يقيد حجم الحكومة بـ17 وزيرًا، يتم تغييره من أجل باراك ليحصل على ائتلاف واسع يشمل 30 وزيرًا، وموفاز في حينه أعلن ترشيحه للكنيست، رغم أن فترة السكون لم تنته، ونتنياهو يغير القوانين اليوم للسماح لدرعي بتولي وزارة ويغير قانون أساس ليمنح سموتريتش وبن غفير الصلاحيات المطلوبة، ويتلاعب برئاسة الكنيست ليأتي بمن يساعده مؤقّتًا على تمرير القوانين وسرعان ما سيتخلصُ منه لاحقًا.

سلوكُ ازدواجيّة القوانين مألوفٌ في النظم الفاشية، فقد دأب النازيون بدقّةٍ متناهيةٍ على جعل السلطة ضائعةً بين ظاهريّة وفعليّة، بل هي متنكرةٌ لبرامجها بالذات، لقد سجل أن الفاشي نفسه لا يأخذ خطط حزبه على محمل الجد، فالكثير من الأشياء توضع فقط لاجتذاب الشعب، وبرنامج الفاشي لا يكون بالضرورة متطابقًا مع الاعتقاد بحقيقة الإيمان. وقد يعدُّ الفاشي على سبيل المثال في برامجه بالقضاء على البطالة وغيرها، ولكنّه لا يحفظُ عهوده أبدًا، وقد احتوى البرنامج الفاشي المبّكر على معاداة الرأسماليّة واستغلال العمال، وهذا ما لم يأخذه أحدٌ على محمل الجدّ، بعد ذلك دمّر الفاشيّون اتّحاد التجارة وكلَّ منظّمةٍ عمّاليّةٍ مستقلّة، ألم يكن هذا بالضبط مصير الهستدروت في إسرائيل؟

وكما زعمت الفاشيةُ الإيطاليّةُ أنّها ضدّ الدين الرجعيّ، وهدّدت بإغلاق الكنائس بعد ذلك إلا أنّها عام 1929 ولتجذب جموع المتدينين عقد موسوليني اتفاقيّة لاتيران مع الفاتيكان، ليس فقط متعهّدًا بعدم المس بأراضي الكنيسة، بل أيضًا منح الفاتيكان المزيد من القوّة لم يحلم بها منذ تأسيس إيطاليا عام 1870، كذلك فعلت الصهيونيّة بتحالفها مع قطاعات اليهوديّة الرجعيّة، واتفاقيّة بن غوريون مع زعماء المتدينين السابق ذكرها.

وعلى عكس الجمل المنمقة في إعلان استقلال إسرائيل حول المساواة بين مختلف المجموعات القوميّة، إلا أنّ الممارسة كانت دائمًا على العكس من ذلك، وبينما ادّعت الحكومات المختلفة أنّ إقامة سلطاتٍ محليّةٍ عربيّةٍ في القرى كان لتمكينها من إدارة شؤون نفسها، جاء في أحد المستندات (26) الرسميّة من سبتمبر أيلول 1959 تحت تصنيفٍ أمنيّ «سري جدًّا للمرسل إليه فقط» يحمل عنوان (توصيات لمعالجة شؤون الأقليّة العربيّة) «إنّ هدف السلطات الإسرائيليّة من إنشاء هذه السلطات كان أوّلًا تحويل الصراع من صراعٍ قوميٍّ بين العرب واليهود في الدولة إلى صراعٍ بين العائلات في قراهم ومدنهم وبهذا فإنّها تقوّض أيضًا أيّ قوّةٍ سياسيّةٍ عربيّةٍ تتناقض وأهداف الدولة وأيدلوجيتها».

كما أن النشاط الاستيطاني الصهيوني الحكومي لدولة إسرائيل ودوائر الاستيطان وبالضدّ من منع البناء العربيّ، يعكس الخطاب الاقتصادي الإثني القائم في صلب الأيدلوجيا الصهيونيّة وعلى مختلف تأويلاتها المختلفة، بحيث تحوّلت الصهيونيّة إلى معيارٍ أوليٍّ بديهيٍّ يتمُّ النظرُ إلى العالم وإلى الديناميكيات التي تحصل من خلاله لعل تدمير القوانين باعتباره سمة أساسية للفاشية مرتبط بشكلٍ ما بشهية الفاشية اللانهائية للتوسع. فعندما يخلق بلدٌ ما حدودًا يوسّعها باستمرارٍ منتهكًا أحكام القانون الدولي، وعندما تكون الغاية هي دولةٌ إسرائيل، تبررُ دائمًا الوسائل، إذا يجب ألا نندهش عندما يكون احترام إسرائيل لقوانينها الخاصة ينتهي دائمًا؛ لأنّ يكون أمرًّا صعب المنال بشكلٍ مرعب (27).

الفاشية تبيع للشعب ما يريد شراءه، حتى لو كان سلعًا بالية، فيصير الشعار (ما هو حسن، هو ما يحسن للشعب الألماني-الإسرائيلي- الإيطالي- الأمريكي) وتقول البروتوكولات «كل ما هو مبارك للشعب اليهودي يكون عدلًا ومقدّسًا وفقَ الأخلاق» (28). وهكذا تلحظ في دعاية زعماء الصهيونيّة عزمًا مفرطًا في التبسيط المانع الذي به يختارون عناصر من أيدلوجيّاتٍ موجودةٍ تكون خير العناصر التي يجدرُ بها أن تكون أسس عالم آخر ومتخيل برمته، ولكنّه اختيار ملفّق، مضلّل إلى درجة الفجيعة الفكريّة المحضة!!

فالفكرُ الفاشيُّ في تلفيقِهِ هذا يرفضُ العقل ولا يتعامل مع الواقع التاريخي إلا من خلال ما يمكن تسميته بالمطلق الذاتي، فالمطلقُ بطبيعته شاملٌ وعالميٌّ يتخطى الزمان والمكان ولكن مطلقات اليهود مقصورة عليهم وحدهم فالله خاص بهم وحدهم (29).

هذا الانشغالُ بالمطلق الذاتي وبالماضي واستخدام الأيدلوجيا الملفقة لتبرير الذات وتعريفها يكشفُ عن زيف السياسة وادّعاء العلم بالموضوعيّة وعن النزعة الرجعيّة في التفسير الديني، ولكن الفكر الفاشي عندما يقدّم نفسه أيدلوجيا منفلتًا من الزمان والمكان، محاولًا في ذات الوقت إظهار نفسه واقعيًّا فإنّه يكشفُ عن سمةٍ أساسيّةٍ من سماته وهي الخلط: التوفيق التلفيقي، المادية بالروحانيّة بالدين، والعقلانية بالرومانسية والعاطفة والتحليل الاقتصادي بالمادي وبالرؤى الهائمة إلى حدّ الغيبيّة. ولأنّ هذا النوع من الأيدلوجيا يستحيلُ فيه الوصول إلى تحليلٍ نهائيٍّ للمسائل التي تواجهها المجتمعات تلجأ الفاشيّة إلى تبسيط المشاكل وتسطيحها دومًا، عبر طرح شعاراتٍ تستهوي الجماهير الأكثر تخلّفًا وتثير الغرائز فهي انفعاليّةٌ وديماغوجيّة (30) من نوع إعلان نتنياهو «خصخصة الموانئ ستخفض أسعار الشاي».

إنّ إطلاقيّة الفاشية الصهيونيّة مثلها مثل كل فاشية تمثل حصارًا في الزمن، وهي بذلك تنطوي على مواقفَ عقائديّةٍ ويمكن ترجمتها على النحو التالي «ما كان صالحًا في الماضي هو صالحٌ إلزاميًّا في أيامنا» أو «ما تقوله التوراة هو الحق» ومن هنا، فإنّ كلّ تغييرٍ وكلّ مطلوبٍ وكلّ انفتاحٍ هي أهدافٌ ممنوعةٌ ومحرّفة، وفي استعارة من أرندت (31)  التي تشبه الأصوليّة بأنّها نظامٌ يريدُ نفسه غريبًّا «إنه الأسلوب الذي يتوسله الطفل الحرون المنعزل في زاويته المتوحد المنطوي على فكرته الثابتة والعازم على أن يكون الوحيد في العالم الذي يحلّل الحقيقة التي لا تنازع والأشد عزمًا على أن يشاركه العالم كلّه تلك الحقيقة».

والفاشيّة الصهيونيّة في اغتصابها للمنطق والتفكير المنهجي، تضيق بأي نقدٍ أو فحصٍ أو نقض؛ لأنّها في ارتكانها للمطلق تفيد بأنّها كليّة، عصيّة على الاختراق، حين كتبت أرندت مقالها الشهير «إعادة فحص الصهيونيّة» عام 1946، أثارت حنق صديقها كورت بلومنفلد الرئيس الأسبق للمنظّمة الصهيونيّة الألمانيّة فقال عنها «لا تعرفُ شيئًا عن الصهيونيّة» وإنّها تقارب هذه المسائل بلا مبالاةٍ ووقاحةٍ وما ذلك سوى تعبيرٍ جليٍّ عن «كره يهودي للذات» وعن «رغبة جارفة في الاندماج»، ولكن لا أحد من منظري الصهيونية يقول عنها غير ما يتم نقدها من أجله، ويتم إعادة تقديمها بزيف وتضليل من جديد، وهذا الموقف يتناسب تماما مع نظرة الفاشية إلى وظيفة الصحافة وتجريدها من موقعها الضميري الناقد، في إحدى مقالاته (32) المعنونة (الصحافة تخنق الديمقراطية) كان الادعاء الأساسي الذي أدلى به أهرون باراك (ليس أحد أهم منظري الأيدلوجيا الصهيونية فحسب، وإنّما الذي لديه أيضًا بحكم منصبه رئيسًا للمحكمة العليّا قوّةً هائلةً للتأثير على السياسة والرأي العام): إنّ الصحافة الخاصّة هي أيضًا ملك عام ولها وظيفة معينةٌ في المجتمع وعلى موظّفيها «أن يعملوا بموضوعيّةٍ ويقدّموا الحقائق للجمهور»وكل صحيفة تتعدّى الموضوعيّة «ستقدّم للمحاكمة» ومن الواضح أنّ موضوعيّة التقارير والكتابة الصحفية، سيكون بالاعتماد على الخطاب الصهيوني المقبول، هذا ما يتلاءم مع المقولات حول جهاز إعلامٍ رسميٍّ مسؤولٍ تخدم تقاريره مصلحة الدولة، كما يراها النظام الحاكم بالطبع، وهذا يدل على رغبة المفكرين الصهاينة بتنظيم شرطي لـ «حرية التعبير المحافظة» دون الاكتفاء بالقيود القانونية المفروضة على الصحافة والرقابة العسكرية وقوانين الطوارئ، مما هو غريب ومنبوذ في أي ديمقراطية حقا (33).

وهكذا فكما تتبين الفشستة بالانزياح إلى اليمين في إسرائيل، تتبين أيضا بتضييق الخناق على الصحافة حول حرية التعبير والتفكير لصالح «صوت الإجماع» في التحكم بالإعلام وتوجيه مساراته لخدمة أغراضها الخالصة، وزج الجماهير في إطار معرفي قاصر لا منهجي وعديم النفع.

المراجع:

  1. أدولف هتلر. كفاحي. بيسان ط2 1995. ترجمة لويس الحاج. ص8
  2. أديب ديمتري. نفي العقل. ط1(دمشق: كنعان للدراسات والنشر، 1993)
  3. أنطوان شلحت. اسرائيل ديمقراطية شكلية. المشهد الاسرائيلي 28/9/2003
  4. المرجع نفسه
  5. هآرتس 9-2003
  6. المرجع نفسه.
  7. شلحت. مرجع سابق
  8. ديمتري، مرجع سابق ص409
  9. د. إبراهيم دسوقي أباظة+ عبد الغني الغنام. تاريخ الفكر السياسي. دار النجاح. بيروت 1973 ص 383
  10. المرجع نفسه
  11. حنة آرندت. (الشكل الروائي) في: ثلاث مقالات في التوتاليتارية اريك فروم وريتشارد لونثال وحنة آرندت. ترجمة صخر يوسف الحاج حسين ط1 (حلب: دار عبد المنعم ناشرون. حلب 2000) ص40
  12. اريك فروم. الجحيم. في: ثلاث مقالات في التوتاليتارية. ص24
  13. حنة آرندت. الشكل الروائي. مرجع سابق. ص44
  14. ستشينا مازر سومدار. المرأة والتعبئة اليمينية في الهند. الثقافة العالمية72 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سبتمبر 1995) ص 42
  15. ديمتري. مرجع سابق. ص408
  16. سلسلة شخصيات صهيونية. ثيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية. إعداد قسم الدراسات في دار الجليل للنشر. ط1 1986 عمان. ص71
  17. ديمتري. مرجع سابق. ص 340
  18. ألبير كامو. الإنسان المتمرد. ترجمة نهاد رضا. ط1(بيروت- باريس: منشورات عويدات.1983) ص 160
  19. اريك فروم. الجحيم. مرجع سابق. ص14
  20. شارون. ملف الوقائع السوداء المفتوح www.arabs48.com في  8/9/2002 .
  21. ديمتري. مرجع سابق. ص118
  22. حنة آرندت. أسس التوتاليتارية. دار الساقي. ص258
  23. Wallace G.Mills Hist.20316 fascism part 1, fascism in: http://husky1.stmarys/~wmills/course203/16-fascism-1.html
  24. نبيه بشير. وجود السكان العرب يجرد المكان من يهوديته. المشهد الإسرائيلي 8/9/2004
  25. ميخائيل وارشوفسكي. ديمقراطية إسرائيل. في: رؤية أخرى العدد 36/37 ربيع وصيف 2005 ( بيت لحم- القدس: مركز المعلومات البديلة )
  26. نبيه بشير. مرجع سابق.
  27. وارشوفسكي. مرجع سابق.
  28. حنة آرندت. أسس التوتاليتارية. مرجع سابق. ص90
  29. المرجع نفسه.
  30. د. جورجي كنعان. العنصرية اليهودية. ط1 (بيروت: دار النهار 1983 ) ص85
  31. أرندت. أسس التوتاليتارية. مرجع سابق. ص268
  32. هآرتس 14/5/1996
  33. ايلي مينوف. الخطاب الصهيوني الراهن: في الأيديولوجيا والاقتصاد في إسرائيل: الصهيونية: الخصخصة والليبرالية الجديدة. تحرير إلياس جرايسة وهداية أمين (القدس بيت لحم: مركز المعلومات البديلة 1998) ص 20