Menu

رؤيةُ مهدي عامل لحركةٍ عربيّةٍ ثوريّةٍ من طرازٍ جديد

د. مفيد قطيش

نشر في العدد (45) من مجلة الهدف الرقمية

صاغ مهدي عامل رؤيتَهُ لحركةِ التحرّرِ الوطنيّ العربيّة عمومًا ولإنتاجِ حركةٍ جديدة بشكلٍ خاص، في إطارِ نقدِهِ للفهمِ السائد للعمل الثوريّ واستهدافاته من قبل الأحزابِ الثوريّةِ والمثقّفينَ الثوريّين. وقد طالَ النقدُ مفهومَ ومضمونَ السيرورةِ الثوريّةِ في بلادنا والوضع المأزومِ الذي دخلته منذ فترةٍ طويلة، كما عالجَ أسبابَ هذهِ الأزمة وأساليب التعاطي معها والمخرج الثوريّ منها.

قدّم مهدي رؤيتَهُ منذ ما يزيدُ عن ثلاثة عقود. لكن الواقع الذي عالجه مهدي لم يتغيّر إلاّ لجهة تفاقم تناقضاته، ولذلك فهذا أمرٌ يستدعي تثوير الممارسة الفكريّة التي أرسى قواعدها أعلام نبتوا في هذه التربة العربيّة، فعملوا على إعادة صياغة الواقع فكريًّا ونضاليًّا، بما يفضحُ محاولات تشويهه وإبتذال صورته وبما يفتح أفقًا للتغيير، بعد أن كشفوا جوهر واقعنا وصولًا لجذوره، فكانوا مثقّفين جذريين، يستحقُّ تراثهم انبعاثًا وتطويرًا وتجسيدًا من قبل الحركة الثوريّة العربيّة.

لقد كثّف مهدي رؤيته هذه في صياغة مفهوم التحرّر وأزمة التحرّر وتقديم الحلّ الثوريّ لهذه الأزمة، ببناء حركة تحرّرٍ عربيّةٍ من نوعٍ جديد، عبر قراءته قراءةً ماديّةً تاريخيّةً (ماركسيّة) لبنيتنا الاجتماعية ولمآلات تطورها منذ الاستقلال وحتى استشهاده. لن نستعيد في هذه الكلمة مسار الفكر الذي أنتج هذه الرؤية، وإنما سنعرض لنتائج التحليل الذي أجراه مهدي، دون الغوص في تفاصيله.

بدأ مهدي من التعريف: ما هي حركة التحرر الوطني؟ ما هو التحرر الوطني؟ ولماذا يدخل في أزمة؟

يقول مهدي إنّ عملية التحرر الوطني هي في مفهومها النظري، عملية تحويل ثوري لعلاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بعلاقة تبعيتها البنيوية للإمبريالية، فهذه العلاقات تشكل القاعدة المادية لسيطرة الإمبريالية على بلادنا ونهب ثرواتها، عبر شبكةٍ واسعةٍ من العلاقات المختلفة والأنظمة السياسيّة القائمة في بلادنا. لذلك فالتحرّرُ هو عمليّةُ قطعٍ مع الإمبرياليّةِ والاستقلال عنها، وهذا ما يملي ضرورة تحويل هذه العلاقات من الإنتاج، ذلك أن تجدد هذه العلاقات يجدد علاقة التبعية بالإمبرياليّة ويجدّد سيطرتها. أمّا وأنّها عمليّةُ تحويلٍ ثوريٍّ لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، فهذا يعني أن سيرورة التحرر الوطني في بلادنا هي سيرورة الانتقال إلى الإشتراكية التي هي بدورها، عملية تغيير بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية بشكلها التبعي، وبهذا المعنى تعتبر حركة التحرر الوطني جزءًا من الثورة الاشتراكيّة العالميّة.

وباختصارٍ مكثّف، فإنّ حركة التحرّر الوطني هي عمليّةُ تحرّرٍ من الرأسمالية القائمة، وليست عملية تحرير لها من قيود التبعية، هي عملية صراع ضد البرجوازيّة التبعيّة المحليّة وضد البرجوازية الإمبرياليّة، هي حركة عداء للإمبريالية مترافقة بالعداء للرأسمالية، عداء لا يستقيم ولا يثمر ما لم يترافق بالعداء للرأسمالية، وحيث تفارق العداء للإمبريالية عن العداء للرأسمالية فشل التحرر الوطني وتحول العداء للإمبريالية إلى تساومٍ معها ولاحقًا إلى خضوعٍ لها وإلى تجديد علاقات الإنتاج الرأسمالية والتبعية بالإمبريالية، لا بل إنّ سيرورة التحرّر الوطني تحولت إلى عداءٍ للحركة الثوريّة ولعائقٍ أمام مسيرتها.

من هذا التعريف لعمليّة التحرّر الوطنيّ تتحدّدُ القوة الطبقيّة المؤهلة لإيصالها إلى نهايتها المنطقيّة - للتحرّر والاشتراكيّة. إنّها الطبقة العاملة، لكن هذا الواقع النظريّ يختلفُ عن الواقع التاريخيّ التجريبيّ، فقد حالت الظروفُ التاريخيّةُ في بلادنا، دون تحقّق ذلك لأسبابٍ موضوعيّةٍ متعلّقةٍ بولادة الطبقة العاملة في ظلّ رأسماليّة مكبوحةٍ في تطوّرها وتوسّعها وعاجزةٍ عن تصفيةِ علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية وتحويل القوى الاجتماعيّة المرتبطة بها، ولأسبابٍ ذاتيّةٍ متعلّقةٍ بعجز الأحزاب الثوريّة الممثّلة للطبقة العاملة، التي لم ترتقِ إلى مرتبة القيادة الثوريّة للعمليّة التحرّريّة، إمّا بسبب نهجها السياسي القاصر أو بسبب من رؤيتها الفكرية التي لم ترَ في التحرر الوطني مسألةً تخص الطبقة العاملة، كونها الطبقة المكرسة لتحقيق الانتقال إلى الاشتراكية، وكون المرحلة مرحلة انتقال إلى الرأسمالية، وهو ما يذكر بالموقف الدوغمائي من العملية التاريخية المنسوب زورًا للماركسية.

لقد تمكّنت البرجوازيّات العربيّة من احتلال موقع القيادة في حركة التحرر الوطني، وبسبب من طبيعتها أقفلت عملية التحرر على نيل الاستقلال السياسي، دون استكمال الاستقلال الاقتصادي المتمثّل في تغيير النظام الاقتصادي، وهذا أمرٌ طبيعي؛ إذ إنّ البرجوازية اصطدمت بحدودٍ طبقيّةٍ هي حدودُ تجديد الأنظمة التابعة التي تتسيد فيها، ولذا فهي غيرُ قادرةٍ ولا مصلحة لها أساسًا في تقويض أسسِ هذا النظام الذي يضمن وجودها الطبقي. كل هذا يُظهر عدم اتّساق عدائها للإمبرياليّة المعلن مع عدائها للرأسماليّة، وهو ما يكشف عجزها عن قيادة الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة من جرّاء عدم تلازم عدائها للإمبرياليّة مع عدائها للرأسماليّة، وبسبب من استحالة عدائها للرأسمالية، علمًا أنّ التحرّر من الإمبريالية مستحيلٌ دون التحرّر من الرأسماليّة، والعكس صحيح.

هذه الحالة غير الطبيعية – احتلال البرجوازية لموقع القيادة في حركة التحرر الوطني، يسميه مهدي عامل، انزياح المجرى التاريخي للتحرر الوطني عن مجراه النظري، بسبب من تبوّأ قوّةً طبقيّةً لا مصلحة لها، بل معاديةٌ لعملية تحويل علاقات الإنتاج الرأسمالية ومعادية لتغيير النظام هي البرجوازية، وبموجب ذلك لا تنوجد البرجوازية ولا الطبقة العاملة في موقعهما الطبيعي: فالطبقة العاملة التي ينبغي أن تقود التحرر الوطني موجودة في موقع تبعي، بينما البرجوازية تحتلُّ موقع القيادة وهي معاديةٌ لعملية التحرّر، وهذا ليس موقعها، هذه الحالة تجسّد أزمة حركة التحرر الوطني، بما هي أزمة قيادتها البرجوازية وأزمة البديل الثوري. وإذا كان طبيعيًّا أن تصل البرجوازية بالحركة التحررية إلى مأزقها وهو ما يتناسب مع مصالحها، يرى مهدي أنّه من غير الطبيعي أن تبقى الطبقة العالملة وأحزابها الثورية، مستنكفةً عن تأديةِ دورها التاريخي في قيادة حركة التحرر وإخراجها من أزمتها. من هنا يخرج مهدي باستنتاج حول ضرورة بناء حركة تحرر وطني عربية جديدة، بقيادتها وبرنامجها وبنهجها السياسي.

في رؤية مهدي لحركة التحرر تتشابك أسئلة الأزمة مع أسئلة الخروج منها، والمشكلة ليست في الأولى وإنما في الثانية. إذ لا يكفي القول باستحالة قيادة البرجوازية للسيرورة الثورية وبضرورة أن تكون القيادة للطبقة العاملة، تماشيا مع موقعها في علاقات الإنتاج كطبقة مهيمنة نقيض، فالمسألة تكمن في الشروط الضرورية التي تتيح للطبقة العاملة احتلال هذا الموقع وهي شرط احتلالها للموقع الطليعي وللموقع القيادي في السيرورة الثورية، من أجل وصول الحركة إلى نهايتها المنطقية، وتتأكد أهمية هذه الأسئلة المرتبطة بحل الأزمة في ضوء ما شهدته البلدان العربية ومنها لبنان من انتفاضات شعبية باءت بالفشل، وانتهت إلى تبديل طواقم حاكمة، دون مساس بالأنظمة القائمة. إلى ذلك ما زال الصراع قائما بين أطراف يسارية مختلفة حول العلاقة فيما بين أطراف التحالف الثوري الموضوعي وبين الممثلين السياسيين لهذه الأطراف، ونشهد ما يشبه تكرارا للتاريخ، ففشل الأحزاب البرجوازية الصغيرة والفئات الوسطية غير الهيمنية التي وصلت إلى السلطة لتحل محل البرجوازية التبعية، والتي تحولت لاحقا إلى برجوازية تبعية متجددة، لم يؤدِ لاستنتاج بضرورة الضغط لمنع تكرار هذه التجربة. بدل ذلك تستمر محاولات فصل السياسي عن الاقتصادي، ومحاولات الفصل بين العداء للإمبريالية والعداء للرأسمالية، ومحاولات فرض العلاقات غير الديمقراطية بين أطراف التحالف الموضوعي وبين ممثلي أطرافه، كما تستمر بدعة اعتبار المرحلة الراهنة مرحلة الانتقال إلى الرأسمالية وما تتطلبه من قيادة طبقية متناسبة معها. كل هذا يتكثف في مسألة قيادة السيرورة الثورية ومسألة الموقع الطليعي والموقع القيادي في التحالف السياسي الثوري وفي طبيعة البرنامج الثوري.

يوضح مهدي أن الحركة الثورية الجديدة المطلوبة هي حركة تحالف طبقي ثوري، متمحور حول الطبقة العاملة، تواجه تحالفا رجعيا يتمحور حول البرجوازية التبعية المرتبطة بالإمبريالية والمدعومة منها، فبين التحالفين: تناقض هو التناقض الرئيسي (السياسي) بصدد السلطة السياسية. يسعى التحالف الثوري إلى تغيير النظام الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي القائم، بينما يستميت التحالف الرجعي لتأبيد هذا النظام، ويسعى كل قطب لجذب الفئات الوسطية وعزل الطرف الآخر. فبحركة هذا التناقض يتمحور التاريخ والصراع التحرري، هذا الأمر يطرح على الطبقة العاملة وحزبها الثوري أن تحتل الموقع الطليعي والموقع القيادي في التحالف الثوري والسيرورة الثورية، لكي تتمكن من بناء حركة تحرّرٍ وطنيٍّ من طرازٍ جديد.

يؤكّدُ مهدي أنّ هذا الموقع الطليعي موقعٌ سياسيٌّ يتحقّقُ بمقدار ما يكون النهج السياسي للبروليتاريا وحزبها نهجًا ثوريًّا، أي متّسقٌ مع موقعها في بنية علاقات الإنتاج، الذي بموجبه هي مؤهلةٌ لقيادة عملية التغيير الثوري والانتقال إلى الاشتراكية. ويتحدّدُ هذا الموقع في حقل الصراعات الطبقية، وتخلف حزبها عن تأمين هذا النهج يفسح المجال أمام الأطراف الأخرى لاحتلاله ويفسح المجال لتشويه الحركة الثورية وانحرافها أو تعثرها. فالطليعية إذن نهج سياسي في قيادة السيرورة الثورية، تتجسد في الخطوات المطروحة لمحاصرة مواقع البرجوازية، وبعناصر البرنامج الثوري للتغيير في جميع المجالات، وهي أيضًا نوع خاص من العلاقات الديمقراطية بين أطراف التحالف الثوري وإشعارها بالاهتمام بمصالحها التي تتجاهلها البرجوازية، وهذا الموقع الطليعي هو الأساس السياسي لوصول الطبقة العاملة وحزبها إلى الموقع القيادي في الحركة الثورية والذي هو أيضا موقع سياسي يتحدد في حقل التناقضات الثانوية بين أطراف التحالف الثوري، وهو يتحدد بدوره بالنهج السياسي للحزب الثوري. ويميز مهدي هنا بين الموقعين الطليعي والقيادي. إذ يمكن للحزب أن يكون طليعيا دون أن يحتل موقع القيادة، لكنه لن يحتل الموقع القيادي ما لم يكن طليعيا، فليس باستطاعة حزبٍ متخلّفٍ فكريًّا ونضاليًّا، لا يفقه منطق الثورة ومهماتها: أن يكون طليعيًّا ومن ثمَّ قياديًّا.

يتوقف مهدي عند طبيعة القيادة الثورية: لمن تكون القيادة في الثورة؟ وهل القيادة ضرورة أو تترك الثورة لعفويتها؟ وبالمناسبة بقي هذا السؤال عالقا طيلة الفترة التي استغرقتها إنتفاضة 17 تشرين في لبنان، بدون إجابة.

يجيب مهدي: الثورة ليست ممكنةً دون قيادة، ودونها تسير إلى الفشل، غير أن المسألة تكمن في العلاقة بين طبيعة الثورة وطبيعة قيادتها، ولأنَّ العلاقة بين طبيعة حركة التحرّر وطبيعة قيادتها البرجوازية لم تكن متسقة، بل متناقضة، وصلت إلى الأزمة، لذلك فإن الحل يكون بتغيير قيادتها الطبقية. ويحذر بأنه لا يكفي القول: بأن تكون القيادة للتحالف الثوري ككل أو أن تكون للطبقة العاملة، بل من الضروري تحديد الطرف المهيمن في التحالف، بمعنى الطرف الذي يكتسب ثقة الأطراف واقتناعهم بنهجه وبرنامجه وبأهليته للقيادة واشتمال برنامجه لمصالح الحلفاء، لا الطرف الذي يملي هيمنته بالتعسف والقمع.

لكن الواقع التجربة غير ذلك، فالطبقة العاملة غير مؤهلةٍ لتأدية هذا الدور، وكذلك الأمر أحزابها، وهو ما أتاح الفرصة لأحزاب البرجوازية والفئات الوسطى من احتلاله، لذا تأكد القانون الذي يحكم السيرورة الثورية: كلما كانت القيادة الطبقية في هذه السيرورة لقوى طبقية وسطية غير هيمنية باءت الثورة بالفشل، لأنها لا تحمل خيارًا اجتماعيًّا بديلًا.

إنَّ حلَّ التناقض الأساسي (الاقتصادي) بتغيير علاقات الإنتاج والانتقال إلى الاشتراكية، مرتبط بحل التناقض الرئيسي (السياسي) بانتزاع السلطة السياسية، وهذا أمر لن يتحقق بدون قيادة بروليتارية وحزب ثوري. أما وأن الطبقة العاملة غير مؤهلة للقيام بهذا الدور، فإن المهمة السياسية التاريخية للحزب الثوري يتمثل في تأهيلها للعب هذا الدور، بدءا من صياغة البرنامج وتنطيم صفوفها والإرتقاء بوعيها وتنظيم نضالاتها وبناء التحالف الطبقي الثوري الضروري وإرساء علاقات ديمقراطية داخله بين أطرافه، وهذا ما افتقرت إليه التجارب التحالفية في سياق الثورة التحررية الوطنية العربية.