في قمة أوروبا –أمريكا اللاتينية التي انعقدت في مايو 2004 في المكسيك وحضرها رؤساء دول وحكومات 58 دولة، لم تجرؤ دولة واحدة على أن تتهم الولايات المتحدة – لا تلميحا ولا تصريحا- بالمسؤولية عن الحروب المحلية والنزاعات العسكرية، والحروب الاقتصادية ضد دول أمريكا اللاتينية، وهذا باستثناء كوبا التي حاولت أن تنتزع موافقات إدانة مباشرة لواشنطن وخاصة بشأن تعذيب السجناء العراقيين في "أبو غريب"، إلا أن أحدا لم يستجب في ذلك الوقت لموقف كوبا وصدر بيان القمة بصيغة فضفاضة تتحدث عن شعور دول أوروبا وأمريكا اللاتينية باللوعة والأسى بسبب سوء معاملة السجناء العراقيين، وطالب البيان بتقديم جميع الأفراد المسئولين عن انتهاكات القانون والعدالة دون أن يُذكر اسم الولايات المتحدة، الدولة المرتكبة لجرائم سجن "أبو غريب" هذا بالإضافة إلى أن أغلب الدول الأوروبية، اعترضت على فقرة في البيان الختامي تتعلق بإدانة مباشرة وصريحة للعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على كوبا.
وحتى الآن ما زالت الولايات المتحدة تعتبر هذه القارة أي أمريكا اللاتينية بمثابة أقرب "مُؤخرة استراتيجية" لها. إن تاريخ أمريكا اللاتينية مليء بالأحداث السياسية الاجتماعية والعسكرية العاصفة، التي كان للولايات المتحدة دور مباشر فيها وغير مباشر فيها، خدمة لمصالح الإمبريالية الأمريكية، التي تعمل بكل الوسائل بهدف التأثير على صياغة السياسة الداخلية والخارجية لبلدان أمريكا اللاتينية وإخضاع اقتصاد هذه الدول لمصالح الاحتكارات الأمريكية. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية أصبحت الانقلابات العسكرية والتمردات، والتدخل في السياسة الداخلية لهذه الدول والتمردات المُعادية للأحزاب اليسارية، لا بل والتدخل العسكري الأمريكي المباشر من أكثر الأشكال تكرارا ضد دول هذه القارة. ومن بين جميع الانقلابات التي حدثت في بلدان أمريكا اللاتينية خلال العقود الأخيرة، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وفترة "الحرب الباردة" ضد الاتحاد السوفييتي، كانت أكثريتها موحى بها مباشرة من جانب الولايات المتحدة.
وخلال هذه العقود الأخيرة وأيضا الآن تسعى الولايات المتحدة من خلال رفع شعار "تعزيز الدفاع عن النصف الغربي للكرة الأرضية" خدمة لمصالح الولايات المتحدة التي تعمل بكل الوسائل من أجل فرض هيمنة القطب الأمريكي الواحد على العالم، وحرب الناتو والولايات المتحدة والنظام النازي في كييف ضد روسيا هدفها النهائي تقسيم روسيا إلى دويلات وفرض هيمنة القطب الواحد الأمريكي على العالم لأجيال قادمة.
حاولت الولايات المتحدة على مدى عقود وضع القوات المسلحة لبلدان أمريكا اللاتينية تحت إمرتها، بهدف استخدامها لمحاربة الحركات الديمقراطية والوطنية اليسارية الثورية في بلدان أمريكا اللاتينية، والانقلاب الأخير الذي جرى في البيرو لأكبر مثل على ذلك. وهنا نريد أن نؤكد بأن نزع السمة القومية عن القوات المسلحة في دول أمريكا اللاتينية كان يصاحبها توسُع نشيط للرأسمال الأمريكي الشمالي في هذه الدول.
في عام 1947 جرى مُؤتمر عُقد في ريو دي جانيرو توقيع معاهدة ما يُسمى "الدفاع عن النصف الغربي للكرة الأرضية" التي كانت الوثيقة الرئيسية التي تُحدد العلاقات المتبادلة بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية وتُعين طريقة حُصول هذه الدول على "المساعدة العسكرية" لا بل الإرهابية الامريكية. وقد أدرجت المعاهدة في عداد الدواعي التي تقضي بتحريك نظام "الأمن الجماعي" هذا، لا بل التخريبي هذا ليس فقط النزاعات داخل القارة، بل أيضا النزاعات خارج القارة، والمفهوم الغامض للغاية، وهو "العدوان غير المسلح" الوارد في نص المعاهدة، أتاح للأوساط الحاكمة الأمريكية، وأتاح لطبقة رأس المال الأمريكي، وخاصة شركات صناعة السلاح إمكانية نسبه إلى أي مظهر من مظاهر حركة التحرير والحركة الثورية والحركة المعادية للإمبريالية وهيمنة القطب الواحد.
وهنا نذكر بأنه في العام 1948 جرى تحت رعاية وضغط الولايات المتحدة، تأسيس منظمة الدول الامريكية التي كانت بمثابة وسيلة قوية في أيدي الإمبريالية الأمريكية لمُواصلة اخضاع بلدان أمريكا اللاتينية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وأداة لقمع النضال الثوري وحركة التحرر الوطني في النصف الغربي للكرة الأرضية. والحصار الاقتصادي لكوبا ولفنزويلا والانقلاب في البيرو ومحاولة الانقلاب الأخيرة والفاشلة في البرازيل لأكبر مثل على سياسات الولايات المتحدة الإرهابية التخريبية في دول أمريكا اللاتينية. فكل سياسات الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية كانت تهدف وتهدف الآن إلى إقامة كتلة مغلقة – اتحاد سياسي عسكري خاضع كليا لسياسة الإمبريالية الأمريكية في النصف الغربي للكرة الأرضية، وهذا بالإضافة إلى ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية الآن في حربها ضد روسيا في أوكرانيا بهدف إقامة حلف مع النازية في أوكرانيا وإقامة ناتو جديد أوروآسيا يحيط بروسيا من الغرب والجنوب ويعمل على إضعاف وتقسيم روسيا. وكل هذه السياسات تهدف إلى خدمة طبقة رأس المال بشكل عام وشركات صناعة السلاح بشكل خاص، وفرض هيمنة القطب الواحد الأمريكي لأجيال قادمة. كانت الولايات المتحدة تحقق إخضاع جيوش أمريكا اللاتينية لإرادتها عن طريق استخدام نظام خاص لتعليم الكوادر العسكرية "وغسل أدمغتهم" وإرساليات الأسلحة والعتاد الحربي إلى أمريكا اللاتينية وإجراء مناورات مشتركة وما شابه. ويُستفاد من معطيات تقريبية بأن عشرات الآلاف من عسكريي أمريكا اللاتينية تعلموا ويتعلمون الآن في مؤسسات الدراسة العسكرية والقواعد والمراكز التعليمية العسكرية في الولايات المتحدة.
أما فيما يخص الإرساليات من الأسلحة والعتاد العسكري فقد كانت تجري على أسس تجارية وتجلب أرباحا طائلة للاحتكارات العسكرية الامريكية، بالإضافة إلى ذلك كانت الولايات المتحدة تحفز سباق التسلح في بلدان أمريكا اللاتينية الذي يُكلف هذه البلدان مليارات الدولارات، وهذا كان يُلحق ويُلحق الآن ضررا هائلا باقتصاد دول أمريكا اللاتينية. وقامت الولايات المتحدة بتغطية القارة اللاتينية بشبكة من القواعد العسكرية ومراكز الاسناد، واحتلت مكانا خاصا في منظومتها جزيرة بورتوريكو والجزر المحاذية لها التي تُشرف على مدخل منطقة حوض بحر الكاريبي.
والأداة الأخرى لتأثير الولايات المتحدة على جيوش بلدان أمريكا اللاتينية هي مئات الخبراء والمستشارين العسكريين الأمريكيين الذين تستخدمهم الولايات المتحدة لأجل المعالجة الأيديولوجية لعقول أفراد هذه الجيوش لأجل تدريبهم لمعاداة الأحزاب والقوى اليسارية في أمريكا اللاتينية. وواقع أن الولايات المتحدة هي في آن واحد عضو وقائد لمنظمة الدول الأمريكية ولحلف شمال الأطلسي (الناتو) قوّى النزعة الشمولية لاستراتيجية الإمبريالية وطابعها العدواني ودعم سياسات إسرائيل العدوانية في منطقة الشرق الأوسط واحتلال العراق والمؤامرة على سوريا وحرب التحالف العدواني ضد اليمن وحرب أمريكا وحلف الناتو والنظام النازي في كييف ضد روسيا لأكبر مثل على الطابع العدواني للإمبريالية العالمية وخاصة الولايات المتحدة.
ولعبت الولايات المتحدة وتلعب الآن من خلال المخابرات المركزية الامريكية، التي أُنشأت بواسطتها في بلدان أمريكا اللاتينية شبكة واسعة من المنظمات التي توجه جهودها الأساسية نحو محاربة الحركة الديمقراطية الشعبية والعناصر التقدمية في الجيوش الوطنية، ومن أجل هذه الغاية جرى في الماضي ويجري الآن بعث أو استحداث منظمات نازية جديدة اُشرك ويُشرك فيها بصورة واسعة جلادون هتلريون سابقون فروا إلى أمريكا الجنوبية بعد انسحاق الرايخ الفاشي النازي على يد الاتحاد السوفييتي بالأساس.
لقد كانت الولايات المتحدة تسعى لوضع جيوش بلدان أمريكا اللاتينية تحت إمرتها على أمل جعلها حصنا لسياستها الاستعمارية في أمريكا اللاتينية، وكان يجري بلوغ ذلك بفرض وظائف بوليسية على هذه الجيوش للحفاظ على "النظام الداخلي" الذي من شأنه أن يضمن للولايات المتحدة حرية استغلال الموارد الإنتاجية – الخامية المحلية وقمع النضال اليساري الثوري والتحرري الوطني. وفي العديد من دول أمريكا اللاتينية عندما كانت الرجعية الداخلية عاجزة عن التغلب على القوى الديمقراطية الشعبية التقدمية، عند ذلك كانت الولايات المتحدة تلجأ إلى العدوان العسكري المباشر وغير المباشر، وبجريرة القوى الرجعية في هذه البلدان منذ خمسينات القرن الماضي عانت دول أمريكا اللاتينية من العديد من النزاعات والانقلابات بدعم من الشيطان الإمبريالي الإرهابي الأمريكي.
كانت غواتيمالا إحدى الضحايا الأولى لعدوان الولايات المتحدة في القارة الأمريكية اللاتينية. ففي حزيران عام 1954 اقترفت الولايات المتحدة هجوما فرضيا على هذا البلد بهدف الإطاحة بحكومته الشرعية، وبعد الإطاحة بحكومة اربينس الديموقراطية اغتصب المتدخلون الأمريكيون السلطة وسلموها إلى مصانع وعملاء شركة "يونايتد فروت كومباني" الأمريكية. وانطلاقا من أراضي هندوراس قامت عصابات من المرتزقة والرجعية الغواتيمالية التي شكلتها ودربتها وسلحتها الولايات المتحدة باقتحام غواتيمالا وزراعة الموت والدمار.
وبغية تغطية عمليات الاقتحام قامت الطائرات الأمريكية في ذلك الوقت بقصف المدن والقرى الغواتيمالية بالقنابل والرشاشات. وأثر الإطاحة بالحكومة الديموقراطية أقيم في البلاد، أي غواتيمالا، نظام الدكتاتورية العسكرية. وقامت صنائع واشنطن صنائع المتوحش الإمبريالي العالمي الأمريكي بحملة تنكيل دموية في غواتيمالا وتعرض كثيرون من الوطنيين لعمليات التعذيب وأعدموا بدون تحقيق وحاكمة، وألغي الإصلاح الزراعي، فنزعت الأرض من أيدي الفلاحين وأعيدت إلى شركة "يونايتد فروت كومباني" التي تمثل طبقة رأس المال الأمريكي المغتصبة حرية الشعب الغواتيمالي وحُلت الأحزاب الديمقراطية التقدمية والأحزاب اليسارية والنقابات وخيم على البلاد في غواتيمالا ظلام الرجعية المحلية وظلام الشركات الاحتكارية الأمريكية، خادمة طبقة رأس المال الأمريكي. ولكن حتى بذلك لم تُحرز الولايات المتحدة النتائج المرجوة فلم تهدأ في غواتيمالا الحركة الشعبية التقدمية ضد تعسف الاحتكارات الأمريكية والرجعية المحلية. ولم يبق النظام الدكتاتوري في الحكم إلا بمساعدة الحراب والدولارات والإرهاب الأمريكي. وفي تلك الفترة في آن واحد مع النضال في غواتيمالا كان يشتد النضال المُعادي للهيمنة الإمبريالية الأمريكية في كولومبيا وبوليفيا وبنما وبلدان أخرى بأمريكا اللاتينية الذي غالبا ما كان يرتدي طابع حركة فدائية – ثورية.
وفي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في فترة الحرب الباردة التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الاتحاد السوفييتي والتي من خلال هذه الحرب وضعت المخابرات الأمريكية منذ عام 1954 خطة استراتيجية لتفكيك الاتحاد السوفييتي خلال أربعة عقود ونجحت في ذلك من خلال فترة رئاسة غورباتشوف الذي كان أحد مستشاريه الكبار عميل للمخابرات الأمريكية. والحرب التي تخوضها الولايات المتحدة ويخوضها الناتو سوية مع النظام اليميني النازي في كييف هدفها الأساسي تفكيك وتهميش دور روسيا ليس فقط في أوروبا لا، بل على مستوى عالمي، بهدف المحافظة على هيمنة القطب الواحد الأمريكي على العالم.
وهنا نذكر بأنه خلال فترة أواخر الخمسينات من القرن الماضي وتحت ضغط حركة التحرر الوطني والحركة الثورية اليسارية في أمريكا اللاتينية مرحلة الأزمات الحادة، ففي عام 1956 أطيح بالنظام الديكتاتوري في البيرو وفي عام 1957 في كولومبيا وفي عام 1958 في فنزويلا وفي عام 1959 في كوبا وفي عام 1960 في السلفادور وفي عام 1961 في جمهورية الدومينيكان وفي جملة من البلدان الأمريكية اللاتينية الأخرى أُبعد عن الحكم صنائع الاحتكارات الرأسمالية الامريكية. والآن الانقلاب الذي حصل في البيرو، سيكون مصيره الفشل والنضال الشعبي الواسع للشعب في البيرو لا بد وأن ينتصر وأن يلقى أعوان الاحتكارات الأمريكية في بيرو إلى مزبلة التاريخ وانتصار الشعب في بيرو سيتحقق وستصبح دولة بيرو دولة يسارية ومتحالفة مع كوبا وفنزويلا وبوليفيا والبرازيل، ولا بد وأن تُقيم هذه الدول علاقات تتميز بالحرية والتعاون الاقتصادي والسياسي مع روسيا والصين و إيران ودول إفريقية عديدة من أجل تشكيل قُطب جديد على مستوى عالمي مُؤمن بالتعاون والتضامن والتعاضد الاقتصادي والسياسي والإنساني بين الشعوب بخلاف سياسات هيمنة القطب الإمبريالي الأمريكي الذي يخوض سياسات فرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على شعوب العالم قاطبة خدمة لطبقة رأس المال العالمي – مصاص دم الشعوب.
مراجع المقال:
-تفاقم الأزمة العامة للرأسمالية – تريبيلكوف – إصدار دار التقدم موسكو عام 1975.
-الشرق الأوسط الكبير مؤامرة أمريكية ضد العرب – د. سعيد اللاوندي.
-الحروب المحلية الإمبريالية.