Menu

لا فصل بين الثقافة والنضال..

حوارالقائد والمناضل والأديب كميل أبو حنيش: يقع على عاتق المثقّف أن يسبق السياسي في تجسيد الوحدة الوطنية

كميل أبو حنيش

إعداد وحوار: الأسير الصحافي مدير مركز حنظلة - منذر خلف مفلح

قال الأسير القائد وأحد أبرز مثقفي الحركة الأسيرة، وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين كميل أبو حنيش، إنّ "مرحلة الانتفاضة الأولى ساهمت في صقل شخصيته، وتعميق انتمائه الوطني، كما ساهمت مرحلة الدراسة في إنضاج وعيه السياسي والفكري، واكتساب خبرات تنظيمية وإدارية".

وأضاف أبو حنيش خلال مقابلة خاصة أجراها معه الأسير الصحافي عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة ومدير مركز حنظلة منذر خلف مفلح "حسمت خياراتي مبكراً بأن طريق النضال هو طريقي الوحيد، ولم أتردد لحظة واحدة عن الانخراط في الانتفاضة الثانية منذ أيامها الأولى، وقمنا ورفاقي بتأسيس الذراع العسكري للجبهة الشعبية في نابلس، وتوليت قيادتها منذ العام 2000 حتى 2002".

وأكد أبو حنيش بأن تجربة السجن الأهم في حياته النضالية، وساهم مع رفاقه في بناء وتشكيل منظمة فرع السجون، وأنه أصبح مسؤولاً عن الفرع بين أعوام 2016-2019.

وأوضح خلال حواره المطول بأنه لا يوجد فصل بين الثقافة والنضال، داعياً المناضل والثائر والمقاوم بأن يسعى باستمرار لتثقيف ذاته، فالثقافة جبهة تفوق أهميتها الجبهة العسكرية والسياسية، لأن ثقافة الشعوب هي تاريخها وذاكرتها وهويتها الحضارية وتجربتها الإنسانية.

واعتبر أبو حنيش خلال حديثه لمدير مركز حنظلة "أن تجربة الحركة الأسيرة تعد تجربة مميزة على كافة الأصعدة، والأخص التجربة الثقافية"، لافتاً أن "السجن تاريخياً كان يُخرّج القادة والمثقفين والمتعلمين"، واصفاً الحياة الثقافية في السجون بأنها "أحد أهم الأسباب في تماسك التنظيم الاعتقالي وحماية من سياسات الطمس والاستلاب التي تتبعها استخبارات السجون في استهداف وعي الأسير وانتمائه الوطني".

وأشار أبو حنيش في مقابلته، إلى أنّه "أنجز 15 كتاباً مطبوعاً، وتوجد خمسة أخرى قيد الطباعة"، مضيفاً أنه "أنجز 8 روايات، كتابين في النقد الأدبي، كتابين في السياسة، وكتاب عن التجربة التنظيمية والاعتقالية في سجون، وديواناً شعرياً، وقصة قصيرة، إضافةً لمئات المقالات والدراسات، وقصائد الشعر المنشورة على المواقع الالكترونية".

وحول دور المثقف في مواجهة التطبيع تساءل أبو حنيش: "كيف يتسنى لنا إقناع المثقفين العرب بضرورة التصدي لكافة أشكال التطبيع مع الاحتلال، ونحن كفلسطينيين نعاني من جماعات تلتقي وتنسق مع العدو على كافة الصعد جهاراً نهاراً، إضافةً إلى استمرار حالة من الانقسام، والتي تُشّكل ذريعة للمُطبعين للمضي قدماً في تطبيعهم؟!".

وأضاف أبو حنيش أنه "يقع على عاتق المثقفين أن يسبقوا السياسيين في تجسيد الوحدة الوطنية من خلال بناء المؤسسات الثقافية والوطنية، وتوحيد الخطاب الثقافي، والاتفاق على مبادئ المشروع الثقافي التحرري".

واعتبر أبو حنيش أنّ "قضية الأسرى جزء من القضية الوطنية، وبدون مؤسسة ومشروع وخطاب ثقافي فلسطيني تحرري يخدم القضية الفلسطينية بما فيها قضية الأسرى سيظل الدور الذي تلعبه الثقافة مجرد دور محدود، ولا يتعدى التعاطي مع الأسير وابداعاته واحتياجاته الإنسانية".

وختم عضو المكتب السياسي للجبهة مقابلته بالتأكيد على أنّ "النضال الوطني واجب إنساني وأخلاقي ووطني، يدفعه المناضل عن طيب خاطر من دون انتظار أن يتلقى استحقاق أو أي مقابل، وإذا كان هذا المناضل مثقفاً أو لديه نصيب من الإبداع، فيصبح واجبه مضاعفًا".

النص الكامل للمقابلة التي أجراها مدير مركز حنظلة منذر خلف مفلح:

السؤال الأول: قَدمّ لنا نبذة عن سيرتك الذاتية؟

يعود انخراطي في الحياة النضالية إلى سنوات الانتفاضة الأولى، التي اندلعت في أواخر العام 1987، واستمرت حتى العام 1994. وكنتُ في حينها، أي عند انطلاق شرارتها، فتىً في الثانية عشر من عمري، وكسائر أبناء شعبي وجدت نفسي منُخرطاً في فعالياتها الشعبية المتنوعة، وانتميت منذ العام الأول للانتفاضة لتنظيم الجبهة الشعبية في قرية بيت دجن، وكان نشاطنا في تلك المرحلة -حيث كنا مجرد أشبال- في إطار طلائع الشهيد غسان كنفاني ، وبعد عامين أو ثلاثة في إطار لجان المقاومة الشعبية، وهي أطرٍ جماهيريةٍ تابعة للجبهة، حيث يمضي فيها الأعضاء والمؤيدون مدة قبل نيلهم العضوية الحزبية في الجبهة، وما أن وصلنا السن القانونية - أي خمسة عشر عاماً- حتى تَمكنّت وأفراد خليتي من نيل العضوية التي كانت تقتضي منا المثابرة والنشاط والفعل الانتفاضي حتى نستحقها إلى جانب الشروط الخاصة بالعضوية.

كانت مرحلة الانتفاضة الأولى مهمة في حياتي، وساهمت في صقل شخصيتي وتعميق انتمائي الوطني، وكنت أيضاً في خضمها ناشطاً في اتحاد لجان الطلبة الثانويين، ولاحقاً بعد انتهاء الانتفاضة، كنت ناشطاً في إطار جبهة العمل الطلابي في جامعة النجاح، وتوليت قيادة الإطار في السنة ما قبل الأخيرة للتخرج، وكانت مرحلة الجامعة مهمة أيضاً، وشَكّلت حلقة أخرى في حياتي النضالية. وفي تلك المرحلة شاركتُ في المؤتمرات الحزبية، واعتقلت مرتين (عام 1994- وعام 2000) قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، كما وساهمت مع عددٍ من رفاقي في تشكيل المكتب الطلابي المركزي للجبهة الشعبية في جامعات ومعاهد ومدارس الضفة، وتوليتُ قيادة المكتب الطلابي بين أعوام (1998- 2000) إلى أن جاءت مرحلة الانتفاضة الثانية.

في الواقع كانت مرحلة الانتفاضة الأولى، ومرحلة العمل الطلابي، مرحلتين مكثفتين في حياتي وتجربتي النضالية، ساهمت الأولى في تعميق انتمائي الوطني، وتحديد خياري كمناضل، أما المرحلة الثانية فساهمت في إنضاج وعيي السياسي والفكري، وإكسابي خبرات تنظيمية وإدارية.

وفي المحصلة حسمتُ خياراتي الشخصية بأن طريق النضال هي طريقي الوحيد، لذا لم أتردد لحظة واحدة عن الانخراط في الانتفاضة الثانية منذ أيامها الأولى.

ولدى اندلاع الانتفاضة الثانية وجدتُ نفسي مع رفاق آخرين نسارع للمشاركة في المقاومة، وقمنا بتأسيس الذراع العسكري للجبهة في منطقة نابلس، وحمل في ذلك الحين اسم "قوات المقاومة الشعبية، ثم حمل فيما بعد اسم "كتائب الشهيد أبو علي مصطفى ". وتوليت قيادة الكتائب منذ العام 2000، وحتى اعتقالي في نيسان 2003. وخلال هذه الفترة تعرضت لعددٍ من محاولات الاغتيال، وهدم الاحتلال منزل أسرتي في بدايات العام 2003. أما عن التجربة الكفاحية فقد نفذت الكتائب عشرات وربما مئات العمليات الفدائية ضد قوات الجيش الصهيوني وقطعان المستوطنين، وقد لاحقتني قوات العدو منذ الأسابيع الأولى للانتفاضة، وبقيت مطارداً منذ نهايات العام 2000، وحتى اعتقالي في 15-4-2003. وخلال هذه الفترة شاركتُ مع رفاقي في التخطيط وتنفيذ عددٍ كبير من العمليات أوقعت خسائر في صفوف العدو، وارتقى العديد من الشهداء والاستشهاديين في تلك المرحلة.

أما تجربة السجن فهي تُعتبر المرحلة الأهم في حياتي النضالية، حيث أمضيت حتى الآن زهاء 20 عاماً، وكنتُ ناشطاً في مختلف الفعاليات التنظيمية والثقافية والاعتقالية وغيرها في منظمات الأسر، وتوليت عدة مهام. ساهمت مع رفاقي في بناء وتشكيل منظمة فرع السجون، كرد على مشروع الشرذمة وتكريس الانقسام في جسم الحركة الأسيرة، الذي أشرفت عليه مصلحة السجون. وقد انتخبت في الصفوف القيادية الأولى لهذه المنظمة في أكثر من دورة، وأصبحت مسؤولاً للفرع بين أعوام 2016-2019. ولا أزال أُقدم واجبي النضالي على أكثر من صعيد، إلى جانب مشاركتي في مختلف معارك الإضراب عن الطعام. هذا باختصار شديد السياق العام عن سيرتي النضالي التي بدأت منذ العام 1987 ولا تزال مستمرة حتى اليوم.

السؤال الثاني: ما الذي جعل شخص منغمس في معاركه النضالية يتجه للجبهة الثقافية، أهي محاولة لبناء متاريس أو تحصين ثقافي؟ أكان من أجل تأريخ التجربة أم استشراف المستقبل؟ يمكن أن يتموضع فيه أنت وبقية المثقفين المشتبكين في إطار المعركة على الثقافات الوطنية وثقافة المقاومة والاشتباك في مواجهة الترهل الثقافي، وثقافة الهزيمة؟

في الواقع، لا يوجد فصل بين الثقافة والنضال، بل على العكس، يتعين على المناضل والثائر والمقاتل أن يسعى باستمرار لتثقيف ذاته، وتحصيل المزيد من الثقافة الثورية. لقد نشأت في حزبٍ يؤكد على أهمية الثقافة، ويعتبرها شكلاً من أشكال المقاومة، وكان الحزب في سنوات الانتفاضة الأولى يحرص على تثقيفنا، ويُشدد على ضرورة أن نطالع، وكان يزودنا بالمنشورات والكراسات والكتب المتنوعة من أدبٍ وشعرٍ وسياسةٍ وفكرٍ وتجاربٍ ثوريةٍ عالمية. لذا أدركتُ مبكراً أن الثقافة الثورية هي جزءٌ لا يتجزأ من هوية المناضل. وقد ساهم أدب غسان كنفاني إلى جانب مقولات الحكيم جورج حبش التي تحث على الثقافة، في تعزيز اتجاهي نحو المزيد من اكتساب الثقافة، لأنها تُعتبر جبهة يتعين علينا كشعب ألا نخسرها بل هي حصننا الأخير في مواجهة الثقافة الصهيونية العدوانية العنصرية. هكذا نشأت وتعلمت في مدرسة الجبهة الشعبية، وثابرت على المطالعة ولاحقاً على الكتابة. واكتشفت متعة الثقافة وكيفية تحويل الكلمة إلى سلاح في المواجهة مع الاحتلال. وقبل مرحلة السجن كانت قراءاتي متنوعة، ولكنها ليست بذات الزخم كما هو الحال عليه اليوم. وكنتُ أنشط في مختلف الفعاليات الثقافية، وكانت لي بعض الكتابات البسيطة في مجلات الحائط الجامعية في النشرات الطلابية غير أن مرحلة الأسر كانت هي الأعمق والأغنى. وذلك لأسباب متعددة منها طوال الفترة التي أمضيتها حتى الآن في السجن، إلى جانب التفرغ والنضج والمهام. أو أن المسألة تغيير اتجاه من العمل النضالي إلى العمل الثقافي. وإنما ثمة ترابط ما بين الثقافة والنضال.

وكما أسلفت كانت مرحلة السجن محطة مهمة في إغناء ثقافتي واتساع معارفي، وساهمت المطالعة المعمقة في معرفة الكثير مما كنت أجهله على صعيد الفكر الصهيوني والشؤون "الاسرائيلية"، وكذلك التاريخ، وكذلك ساهمت بتعميق هويتي الفكرية. واكتشفت مع الوقت أهمية الثقافة في تعزيز الذات، وحمايتها من الانزلاق والهزيمة، ودورها في تعزيز صمود الأسير، وهو يواجه إجراءات السجان وسياساته التي تستهدف وعيه وثقافته وانتمائه. واكتشفت أيضاً أهمية تحويل الكلمة إلى سلاحٍ في المواجهة، ومن هنا بدأت رحلتي الكتابية التي امتدت قرابة العقدين؛ فالثقافة الثورية والملتزمة والمنطوية على شروطها النضالية والوطنية والإنسانية لها دور كبير في حماية المناضل وتعزيز صموده، وصقل روحه، إلى جانب تعزيز وتماسك الجماعات والشعوب والمجتمعات التي تواجه سياسات الاستلاب والقمع والطمس وتستهدف الوجود. إذاً؛ فالثقافة جبهة ربما تفوق أهميتها الجبهة العسكرية أو السياسية، لأن ثقافة الشعوب هي تاريخها وذاكرتها وهويتها الحضارية وتجربتها الإنسانية. وإذا تخلى أي شعبٍ عن ثقافته فإنه سيواجه تحديات الإلغاء والإبادة وانتهاك الحقوق. وكان لتمسك شعبنا بثقافته، أن ساهم في صموده وتحديه ومقاومته وتجذره في أرضه، وكانت ثورته المتعاقبة تعكس ثقافته وحضارته وقدرته على صنع معجزة البقاء.

السؤال الثالث: حدثنا عن تجربة الثقافة في السجن؟

يتعين علينا الإشارة إلى أن تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية، تُعد تجربة مميزة على كافة الأصعدة، وبالأخص التجربة الثقافية، فمنذ ما يربو على خمسين عاماً من تجربة هذه الحركة تكرست تقاليد ثقافية، كالجلسات، والندوات، والبيانات والمجلات، وإلزامية المطالعة الذاتية إلى جانب التعليم الأكاديمي. وكان للتنظيم الاعتقالي دور في هذه العملية. وكان السجن تاريخياً يُخرّج القادة والمثقفين والمتعلمين. فكانت تجربة السجن ثرية على هذا الصعيد. وعندما دخلت السجن قبل عشرين عاماً وجدتُ هذه التقاليد السائدة فانخرطت بها بحماسة مع الإشارة إلى تراجع الاهتمام بالأنشطة الثقافية في السنوات الأخيرة، ولكنها تتفاوت من فصيلٍ لآخر على الساحة الاعتقالية. وعموماً بإمكان الأسير المهتم بالشأن الثقافي أن يُنظم وقته، عندها بإمكانه أن يملأ ساعاته اليومية بالنشاط الثقافي، كالمشاركة في الجلسات الثقافية والمبادرة لإعدادها واختيار موضوعاتها، وإحياء المناسبات الوطنية، وذكرى الشهداء، والمشاركة في الكتابات كالتعاميم والنشرات والمجلات. لكن الأهم هو المطالعة الذاتية التي تأخذ حيزاً مهماً من وقت الأسير المهتم، وهي الوسيلة الأهم في تطوير ثقافة الأسير وصقلها وإغنائها.

وعلى صعيدي الشخصي كنت ناشطاً على صعيد الحياة الثقافية في السجن في مختلف فعالياتها وأوجهها من مطالعة ذاتيةٍ وجلسات وكذلك الكتابة. فقد خصصت وقتاً محدداً وصارماً للكتابة اليومية، وبسبب هذا التحديد الصارم، ألزمت نفسي بإنجاز مشاريع كتابية دأبت على التخطيط لها، وبالفعل كنت أنجزها رغم الصعوبات التي تواجهنا في السجون من مداهمات وتفتيشات ومصادرة للأوراق والكتابات غير أن الهاجس الأهم في هذه العملية هو كيفية تسريب تلك الكتابات خارج الجدران. وقد اتبعت كغيري وسائل مختلفة من التهريب عبر الكبسولة إلى إخراجها من خلال الأسرى المحررين، ولكنها كانت تُصادر في غالب الأحيان، إلى أن توفرت وسائل تقنية حديثة سهلت هذه العملية، وساهمت في التعجيل بإنجاز الكثير من الكتابات.

وعموماً تعد الحياة الثقافية في السجون إحدى أهم الأسباب في تماسك التنظيم الاعتقالي وحمايته من سياسات الطمس والاستلاب التي تتبعها استخبارات السجون في استهداف وعي الأسير وانتمائه الوطني.

السؤال الرابع: اشرح لنا مشروعك الثقافي، وإنتاجاتك الأدبية والفكرية والسياسية، وما الهدف الذي تخدمه؟

بصراحة لم أخطط سلفاً، ولم يكن لديّ أي مشروع خاص على صعيد الكتابة والثقافة. وكنتُ أكتب بدون خطة، ومع الوقت، وجدت نفسي أشق طريقاً متعبة فتارة أكتب في مجال الأدب، وتارةً في مجال النقد، ومرةً في السياسة والفكر والدراسة والتنظيم، فكان التنوع في الكتابة يعكس التنوع في القراءة. لقد أنجزت حتى الآن قرابة 15 كتاباً مطبوعاً وتوجد خمسة أخرى قيد الطباعة، وهذه الكتابات متنوعة: 8 روايات، كتابين في النقد الأدبي، كتابين في السياسة وكتاب عن التجربة التنظيمية والاعتقالية في السجون، وديواناً شعرياً، وقصة قصيرة، إضافةً لمئات المقالات والدراسات وقصائد الشعر المنشورة على المواقع الالكترونية، وقد نشرت قبل عامين حوالي 27 حلقة تتحدث عن الكتابة من داخل السجون، حملت العنوان "الكتابة والسجون" شرحتُ من خلالها عن الكتابة وهواجسها ومعيقاتها ورسالتها ولخصت فيها مجمل كتاباتي داخل السجن، وستصدر قريباً على شكل كتاب.

وبالمجمل أصبح لدي مشروعاً كتابياً يتطور مع الوقت. وذلك إيماناً مني بأهمية الثقافة، لا سيما الأدب في المعركة الوطنية التحررية، وأجد انهماكي في هذه العملية كجزء من واجبي كمناضل يخوض نضاله هذه المرة في الميدان الثقافي.

ومن ناحية ثانية تعد الثقافة سلاحاً مهماً في حياة السجن إذ أنها تصون المناضل وتعزز قناعاته وتفشل مخطط إدارة السجون التي ترى بأي انجاز ثقافي يصدر عن الأسرى، يُمثل إحباطاً لسياساتها ومزاعمها عن ترويض الأسرى، وأنهم - أي الأسرى - مجرد "إرهابيون" ليس لديهم أية ثقافة أو مشاعر إنسانية أو ملكات إبداعية. حيث شَكلّت هذه السياسة إحدى المحفزات لمثابرتي على الكتابة. ومن ناحيةٍ ثالثة فنحن نكتب للجماهير، ولكل من يهمه أمرنا. نكتب للعالم ونشرح عن معانياتنا ونحاول أن نُقدم ثقافةً وأدباً لائقاً بتضحياتنا ومنسجماً مع شروطِ معركتنا التحررية، بهدف التأثير في شعبنا، وأيضاً في جماهير أمتنا، وكل من يهمه الشأن الفلسطيني في كافة أرجاء العالم. إذاً فمشروعي الثقافي ينبع من هذا الأساس الذي يرى بالثقافة والأدب رسالة وسلاح يتعين على المناضل أن يتقن خوض غمارها.

السؤال الخامس: هل يمكن أن يقدم المثقف الفلسطيني من وراء القضبان رواية أو نموذج أو برنامج عمل للم شمل مثقفي المقاومة من أجل خدمة القضية الفلسطينية؟

من الطبيعي أن تتعدد المرجعيات الفكرية للمثقفين الفلسطينيين المحسوبين على معسكر المقاومة، وحتى لا نقع في مصيدةِ المفاهيم المجردة والمستقاة من مدرسة كل مثقف. يمكننا أن نقول إن الثقافة الثورية والمقاومة يجب أن تتحدد أولاً وأخيراً بالاتفاق على عدوانية المشروع الصهيوني، وأن مقاومته حقٌ طبيعيٌ للشعب الفلسطيني، ففي خضم معركة التحرر الوطني ينبغي على الثقافة والمثقفين التصدي للسياسات والممارسات الاستعمارية الصهيونية التي تستهدف الوجود الفلسطيني، وعدم الانجرار وراء قضايا فرعية من شأنها حرف بوصلة النضال الفلسطيني عن وجهته الحقيقية. ومن هنا تنبع رسالة المثقف الوطني الثوري سواء كان داخل السجن أو خارجه. أما ما يميز المثقف الأسير عبر سائر المثقفين والمناضلين هو المكان الذي يعيش فيه، وهو مكان مكتظ بالهواجس والحرمان وملاحقة السجان لكتاباته وأوراقه علاوةً على أنه يُمثّل نموذجاً ملهماً في الصمود والثبات على المواقف لسائر المثقفين الفلسطينيين والعرب، ولا أظن أن المثقفين الملتزمين بقضية شعبهم يحتاجون إلى لم شمل لأننا لا نتحدث عن حزبٍ أو جماعة، ولكن بالإمكان تشكيل الأطر الثقافية التي من شأنها أن تساهم في إغناء الثقافة الوطنية المقاومة، وتصحيح مساراتها وزجها في المعركة التحررية على نحو أمثل، عبر التخطيط لفعاليات ثقافية تساهم في تحفيز الكثير من العناصر الثقافية الخاملة في مجتمعنا وتثويرها ووضعها أمام مسؤولياتها.

وبصراحة ليست لديّ أي رؤية على هذا الصعيد لأن الساحة الفلسطينية تعج بالاتحادات والمؤسسات الثقافية، الرسمية وغير الرسمية، ولا أدري إن كانت هذه التعددية المتباينة في الكثير من أهدافها وأنشطتها وأولوياتها، تخدم المعركة التحررية أم أنها تعكس أزمة المشروع الوطني الفلسطيني. وطالما نحن في حالة الانقسام وطني وسياسي ستظل جهودنا ونضالنا الثقافي مبعثراً أو مشتتاً وحتى متعارضاً. ولا يمكننا تحويل الجبهة الثقافية إلى جبهة مقاتلة وملتزمة وفاعلة ومؤثرة إلا على قاعدة الوحدة الوطنية والكفاحية التي من شأنها أن تساهم في بناء مؤسسات وطنية ثقافية، تركز جهودها وطاقات مختلف المثقفين والمبدعين، وترسم طريق المواجهة الثقافية والفكرية مع المشروع الصهيوني وثقافته العدوانية والعنصرية.

وما يجري حالياً مع الأسف مجرد جهود فردية. أما المؤسسات العامة ومع الاحترام لجهودها وأنشطتها والقائمين عليها، فإنها تظل محدودة التأثير، وتأتي نتاجاً وتعبيراً عن حالة الانقسام الوطني، وبموجب هذا الانقسام تَتحوّل تلك المؤسسات إلى مجرد أبواقٍ حزبيةٍ واقطاعيات خاصة لبعض الأشخاص أو الاتجاهات السياسية، والنتيجة ثقافة وطنية عرجاء وقاصرة عن أداء مهامها.

السؤال السادس: قَدمّ لنا رؤيتكم حول برنامج "ثقافة المقاومة والصمود في مواجهة ثقافة الانهزام والتطبيع في المنطقة العربية وفلسطين؟

قبل الإجابة على مثل هذا السؤال، يتعين علينا أن نتساءل: كيف يمكن أن يتسنى لنا إقناع المثقفين العرب بضرورة التصدي لكافة أشكال التطبيع مع "اسرائيل"، ونحن كفلسطينيين نعاني من جماعات تلتقي وتنسق مع العدو على كافة الصعد جهاراً نهاراً، إضافةً إلى استمرار حالة من الانقسام، والتي تُشّكل ذريعة للمُطبعين للمضي قدماً في تطبيعهم، ولدينا أيضاً الكثير من المُطبعين؟. فلا يعقل أن نطالب اخواننا العرب أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك. أي أن ندعوهم لوقف التطبيع ومقاومته، ولدينا كوارث على هذا الصعيد. سيقول لنا الكثير من المغرضين: حسناً. أنتم اعترفتم "بإسرائيل" وفتحتم لها الباب لتغزو أسواقنا وفضائياتنا وتمهد الطريق أمام التطبيع الشامل. ولديكم الكثير من المُطبعّين. نحن نعرف أن هذه ذرائع وأن ثمة كثير من المُطّبعين يقومون بأدوار مشبوهة منذ زمنٍ بعيد وأن مزاعمهم ومبرراتهم عن الانقسام الفلسطيني، والاعتراف "بإسرائيل" وتوقيع اتفاقيات أوسلو ما هي إلا ورقة توت تستر عوراتهم. ولكن حتى تستقيم المعادلة وننصف أنفسنا قبل أن نطالب الآخرين بإنصافنا. نحتاج إلى وقفة مع الذات لتقييم دورنا وأدائنا. علينا أن نسارع لإنهاء الانقسام وإعادة تعزيز العلاقة مع شعوب أمتنا العربية، ومع شعوب العالم أجمع، واستقطاب الملايين من الناشطين الذين يمكننا أن نكسبهم بسهولة إلى صفنا. وإذا تعذر إنهاء الانقسام الوطني، يقع على عاتق المثقفين أن يسبقوا السياسيين في تجسيد الوحدة الوطنية من خلال بناء المؤسسات الثقافية الوطنية، وتوحيد الخطاب الثقافي، والاتفاق على مبادئ المشروع الثقافي التحرري الذي من شأنه أن يُقدم الرؤى والتصورات في خدمة العملية التحررية، ومواجهة الاحتلال، وتقديم النموذج، وتحويل تلك المؤسسات إلى مراكز ضغط حقيقية، تسعى إلى إحباط مشاريع التطبيع في المنطقة، وتمد جسور العلاقة والتعاون مع المؤسسات ومع المثقفين العرب الذين لا حول لهم ولا قوة في مواجهة مثل تلك المشاريع.

إذاً نحن بحاجة إلى المؤسسة الحقيقية التي تجمع عقول المبدعين في فلسطين يجب أن يكون لدينا مشروع ثقافي تحرري، وهذا المشروع ترسمه المؤسسة، وتحدد معاييره ومعالمه وترسم آفاقه. ويجب صياغة سردية وطنية واحدة في مواجهة السردية الصهيونية الغيبية الأسطورية والرجعية والعدوانية.

السؤال السابع: كيف يمكن أن تخدم الثقافة والمثقفين قضية الأسرى؟

قضية الأسرى هي جزءٌ من القضية الوطنية. وبدون مؤسسة ومشروع وخطاب ثقافي فلسطيني تحرري يخدم القضية الفلسطينية بما فيها قضية الأسرى، سيظل الدور الذي تلعبه الثقافة والمثقفين مجرد دور محدود، ولا يتعدى التعاطي مع الأسير وإبداعه واحتياجاته الإنسانية. برأيي من هنا يجب أن نبدأ وعلينا أن نكف عن لوم الثقافة والمثقفين لاستنكافهم عن أداء واجبهم لأن ذلك به ظلم وتجني، لأن المثقف له ابداعاته ومساهماته الفردية، ووحده مسؤول عنها، أما الثقافة الوطنية فينبغي أن تكون نتاجاً لمؤسسة حقيقية وجدية السؤال الثامن: كلمة أخيرة؟

أجدد التأكيد على أن النضال الوطني هو واجبٌ إنسانيٌ وأخلاقيٌ ووطني، يدفعه المناضل عن طيب خاطر من دون انتظار أن يتلقى استحقاقاً أو أي مقابل، وإذا كان هذا المناضل مثقفاً أو لديه نصيب من الإبداع، فيصبح واجبه مضاعفاً. هكذا أرى نفسي وهكذا أرى ما ينبغي أن يكون عليه المثقف الفلسطينين أثناء معركة التحرر الوطني الفلسطيني. فنحن في نهاية المطاف نقدم واجبنا اتجاه الحياة، واتجاه القضايا والمبادئ والمُثل التي نؤمن بها، وهو ما يعني أن ثمة رسالة تنطوي عليها جهودنا كمناضلين ومثقفين ومبدعين، ولهذا يتعين علينا أن ندرك دورنا، وأهمية ما نبذله في خدمة القضية الوطنية.