Menu

خمسةَ عشرَ عامًا على رحيله..

الدكتور جورج حبش مؤسس وأمين عام الجبهة الشعبيّة في حوار أجري معه عام 1998 وتعيد "الهدف" نشره

الحكيم جورج حبش

أجرى الحوار: نواف الزرو

* الهزائمُ العربيّةُ ليست نبتًا شيطانيًّا، وإنّما هي نتاجُ عواملَ تراكمت وتأسّست في سياقاتها الاجتماعيّة التاريخيّة.

 * التّجرِبةُ تقولُ لنا: إنّ الباطل القويّ قادرٌ على إلحاق الهزائم المتتالية بالحقّ الضعيف.

 * القدس ُ تتعرّضُ للتدمير التاريخيّ، وبقاءُ الأمر عند مستوى الاحتفالات والمهرجانات والبيانات لن يحميَ بيتًا عربيًّا واحدًا في القدس.

 * خصوصيّةُ فلسطين في الوجدان العربيّ ليست عاطفيّةً، إنّما باعتبارها تكثيفًا للتحدّي، ورمزًا للكرامة والاستقلال العربي.

   في أيّار عامَ 1998، وبمناسبة مرور نصف قرنٍ على اغتصاب فلسطين، وإقامة الدولة الصهيونيّة، حرصتُ – بصفتي مديرَ قسمِ الأبحاث والدراسات والندوات الاستراتيجيّة في صحيفة الدستور الأردنيّة - على إجراء سلسلة حواراتٍ استراتيجيّةٍ حولَ القضايا الكبيرة في الصّراع العربيّ الصهيونيّ، وحرصت على أن يكون أوّل حوارٍ استراتيجيّ، أجريه مع الراحل الدكتور جورج حبش ؛ ضمير الثورة الفلسطينيّة وحكيمها، فيما يلي نص الحوار- الذي نشر في صحفٍ عربيّةٍ عدّةٍ آنذاك - ونستحضره اليوم في الذكرى الخامسةَ عشرةَ لرحيله؛ لأهميّته للأجيال، وللذاكرة الوطنيّة، وللتاريخ:

-س- حينما نتوقّفُ اليوم أمامَ هذه المناسبة "النكبة" فإنّ أوّلَ ما يخطرُ ببالنا ذلك السؤال الكبير: لماذا هُزمنا؟ ولماذا استمرارُ الهزيمة؟ ولماذا فشلت الأمّةُ العربيّةُ في التصدّي؟ وكيف يمكنُ الخروجُ من مأزقِ الهزيمة ونفقِ الفشل؟

 ج- السؤالُ على بساطته كبيرٌ وعميقٌ وينفتحُ على مساحاتٍ وأبعادٍ واسعةٍ تعطي مساحة الصراع الممتد في الزمان والمكان بكاملها.

نعم، لماذا الهزيمة العربيّة المستمرّة؟

 التعاملُ مع هذا السؤال يعني إعادة قراءةٍ شاملةٍ لمجمل تاريخ الصراع ومكوّناته وأسسه؛ الأمرُ الذي يضعنا أمام أسبابٍ ومرجعيّاتٍ لا حصر لها؛ ذلك أنّنا نتحدّثُ عن هزائمَ متراكمةٍ ومترابطة.

  بالتأكيد، الهزائمُ ليست نبتًا شيطانيًّا، وليست وليدة الصدفة، إنّها نتاجُ عواملَ تراكمت وتأسّست في سياقاتها الاجتماعيّة التاريخيّة، وبهذا المعنى فإنّنا أمام هزائمَ تستندُ إلى أسبابٍ بنيويّةٍ متحرّكة، إلى الدرجة التي أصبحت معها تمتلكُ ديناميات إعادة إنتاجها، هذا ما يفسّرُ استمرارها وتواصلها، هذه الحقيقة تعيدنا إلى مراحلَ تاريخيّةٍ بعيدةٍ نسبيًّا، ولا نجانبُ الحقيقة إذا ما وجدنا أنفسنا نعود إلى بداية القرن العشرين، إلى الظروف والعوامل التي أنتجت اتفاقيات سايكس - بيكو، وربّما أبعد من ذلك لمن يشاء.

  إذن؛ فنحن أمام اختلالٍ تاريخيٍّ بنيويٍّ يحكمُ معادلة الصّراع منذ البداية ما بين قوى التحرّر والنهوض القوميّ والمشروع الإمبرياليّ الصهيونيّ، وكلّ المعادلة التي تستندُ بدورها إلى قرونٍ من التخلّف والاستبداد الذي مثّله الاحتلالُ العثمانيُّ للوطن العربيّ.

 هذهِ الملاحظةُ مهمّةٌ وضروريّةٌ؛ لأنّها تؤشّرُ أوّلًا: لخلفيّة الاختلال التاريخيّ، ودور الاستعمار في حالة التخلّف والتمزّق التي تعاني منها الأمّةُ العربيّةُ حتّى اليوم، وثانيًا: لإدراك طبيعة الصراع ووعيه ضدّ المشروع الإمبريالي - الصهيونيّ باعتباره صراعًا/اشتباكًا تاريخيًّا، وليس كما يحاولُ البعض الآن حصره في حدودٍ ومساحاتٍ ضيّقة، والتعامل معه بمنطق النزاع الطبيعي الذي قد ينشأ بين شعبين أو دوليتين جارتين على الحدود، أو على حقلٍ من النفط مثلًا.

  إنّنا نواجِهُ مشروعًا صهيونيًّا يستندُ إلى ما أنجزه الاستعمارُ منذ بداية القرن، ويواصل الآن بقوّةٍ وعنفٍ العملَ لتأييد حالة التفوّق والهيمنة، ومضاعفة حالة الاحتلال في توازن القوى؛ ما يتيحُ له الحفاظ على إنجازاته، والانطلاق لتحقيق المزيد من الأهداف.

   الحقيقةُ المشارُ لها أعلاه تضعنا أمامَ إشكاليّة معايير الصّراع، حيث كان الحلفُ المعادي يديرُ الصراعَ ضدّنا بشموليّةٍ وحيويّةٍ مستخدمًا كاملَ طاقته، ولم يكن معيارُهُ الناظمُ واقعنا الضعيف والمتخلّف، وإنّما المعايير التي تحكمُ أداء أكثر البلدان الرأسمالية تطوّرًا، وبالمقابل اتّسمت ممارستها بالتشتّت والانفعاليّة وعدم الترابط؛ الأمرُ الذي أخلَّ برؤيتنا للصراع المحكوم بمبدأ تراكم وتكامل العوامل والمراحل.

    هنا تبدأُ إشكاليّة العامل الذاتي في إدارة الصراع، فبقدر ما يجب رؤية الثقل الذي تمثّله العوامل الموضوعيّة التي تعبّرُ عن الاختلالات التاريخيّة في موازين القوى، يجبُ أيضًا وبنفس القوّة رؤية العوامل الذاتيّة التي لم تتمكّن من إدارة الصراع بصورةٍ شموليّةٍ باعتباره صراعًا اجتماعيًّا تاريخيًّا ممتدًّا في الزّمان والمكان.

إنّ إدراك هذا البعد يفسّرُ لنا جملةً من الاختلالات الخطيرة في الفكر والممارسة.

    ونجدُ مثالًا على ذلك الخطاب السياسي العربي الذي يعتقد بأنّ التركيز فقط على مبدأ الحق كافٍ لهزيمة الفكر والمشروع المضاد الذي يجسّد الباطل، غيرَ أنّ التّجرِبةَ أتت لتقولَ: إنّ الباطل القوي قادرٌ على إلحاق الهزائم المتتالية بالحقّ الضعيف.

   تقودُنا هذهِ الحقيقةُ إلى حقيقةٍ رديفة، وهي أنّ الانتصار على الباطل المدجّج بالقوّة الاقتصاديّة والعسكريّة والعلميّة، يتطلّبُ ارتقاء أصحاب الحق بذاتهم سياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا واجتماعيًّا، لمستوى المعايير التي يفرضها الصّراعُ في مواجهة الباطل، وبهذا المعنى، فإنّ معايير الصّراع لا تنحدرُ ذاتيًّا، وإنّما موضوعيًّا.

   هكذا نعيدُ التوازن للرؤية السياسية، حيث تتخطى الانفعال والعفوية لترتقي إلى مستوى الرؤية الاستراتيجية التي تتطلّبُ أداءً شموليًّا راقيًا في السياسة والاقتصاد والتنظيم والعلم؛ أي باختصار تلبية متطلبات الصراع بأبعاده المجتمعة وعلى المستويات والأصعدة كافةً.

   إنّ الاختلال في الرؤية والمعايير قاد عمليًّا وفكريًّا إلى حالةٍ من التمزّق الداخلي، التي وجدت تعبيراتها في الانفصام بين الأهداف والأداء والإمكانات، حيث نجد أنّ إمكانات الأمّة العربيّة بشريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا هائلةٌ، لكنّها مشتتةٌ ومبعثرةٌ لا ينظمها ناظمٌ جديّ؛ الأمرُ الذي جعلها تتبدّدُ باستمرارٍ أمام الهزائم التي أخذت تعمّقُ حالةَ الإحباطِ وتؤسّسُ لفكرٍ وممارسةٍ يقومان على حتمية الهزيمة، ومن ثَمَّ تدورُ الدائرة من جديدٍ تجاهَ الهبوط بالأهداف الوطنيّة والقوميّة لتتكيّف مع الفكر والممارسة الهابطين أصلًا.

  هذا الواقعُ وجد ترجماته في الفكر والممارسة المشار إليهما على شكل افتراقٍ بين شروط الصراع القومي ومقوّماته ضدّ الحلف الإمبريالي - الصهيوني المتفوّق المتقدّم، وبين واقع الأداء السياسيّ الاجتماعيّ الداخلي المتخلّف، لقد تمَّ الفصل بصورةٍ عنيفةٍ بين شروط الانتصار ضدّ العدوّ القوميّ وشروط البناء الاجتماعي الداخلي.

  وهكذا ابتلع الخطابُ السياسي القومي التحرّري الشروطَ السياسيّة - الاقتصاديّة - الثقافيّة - العلميّة التي دونها يستحيلُ تحقيقُ التحرّر السياسي.

   هنا بالضبط تتمظهرُ جريمةُ اغتيال الديمقراطية في أكثر المجتمعات العربيّة، ومعضلة اغتيال الخاص باسم العام، أو اغتيال العام باسم الخاص، وأيضًا إدارة الصراع بعيدًا عن صيرورات الواقع وغياب الفعاليّة الفكريّة في المجتمع العربيّ أو تغييبها، حيث لم نعد نقفُ أمامَ الأسئلة الكبرى إلا عندما يُلحِقُ بنا العدوُّ هزيمةً ما، لقد بدا فعلنا الفكريّ – السياسي، ردَّ فعلٍ أكثرَ منه عمليّةً تعكسُ فعالية المجتمع الطبيعية بما فيها فعاليةٌ ضدّ العدوّ القوميّ، واتّجاه حاجاته المطلبيّة اليوميّة التي تتجلّى في احتياجاته الاقتصاديّة التربوية والحريّات الفرديّة والسياسيّة والإعلاميّة والتنمويّة وإدارة الثروات القومية والتعليم ... الخ .

   ومما تقدّم يمكنُ القول: إنّ أسباب هزائمنا تكمن - أوّلًا - في ضعفنا، وثانيًا في قوّة العدوّ الذي نواجهه.

    أما بالنسبة للأسس والشروط للخروج من المأزق، أو نفق الهزيمة كما يقول السؤال، فإنّني أرى أن المسألةَ ليست أمنيّةً أو مجرّد قرارات، وبما أن الهزائم نتاجُ ديناميّاتٍ وتراكماتٍ تاريخيّة، فإنّ مغادرتها بالضرورة ستكون نتاج ديناميّاتٍ وتراكماتٍ تاريخيّةٍ مضادّة، تجدُ تعبيراتها في إطلاق فعاليات المجتمع الظاهرة والكامنة في المجالات شتّى، وهذا مشروطٌ – أوّلًا - بإطلاق الفعالية الفكريّة التي عليها واجبُ إعادة الاعتبار للذّات تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا، وهنا يتجلّى دور وظيفة المثقفين والمفكرين العرب الذين يقعُ على عاتقهم عبء التصدّي للفكر المبتذل والمسطّح، وإبراز وهج الطاقة الحضاريّة الكامنة، وتخليصها ممّا لحق بها من إحباطٍ وعدم ثقةٍ بالذات .

    في السياق ذاته، يأتي دورُ القوى والفصائل السياسيّة بمختلف تيّاراتها ومشاربها الفكريّة (قوميّة، يساريّة، إسلاميّة) لتعيد قراءة ذاتها وبناءها على أساس معايير المواجهة والصراع ضدّ الحلف المعادي، وفي الوقت ذاته توفير شروط البناء المجتمعي الداخلي، وأيضًا مواجهة الإشكالات الاستراتيجيّة المتعلّقة بأشكالِ العمل الوحدويّ وأسسه؛ سواءً على المستوى ال قطر يّ أو القوميّ، وامتلاك رؤيةٍ متحرّكةٍ وفعّالةٍ للارتقاء بالعمل القومي؛ سواءً على مستوى المؤسّسات، مثل جامعة الدول العربية أو الارتقاء بحقوق المواطن العربي: حرية التنقل، والتنسيق بين المؤسسات التعليمية، والصحية، والبيئية والاقتصادية ... الخ .

   كل هذا يجبُ أن يقوم بالضرورة على أساس إدراك طبيعة الصراع، وألا مجالَ لبناءٍ وتنميةٍ بمعزلٍ عن مجابهة أطماع ومخاطر المشروع الصهيوني، وبهذا المعنى تغدو عملية البناء الذاتي والداخلي وطنيًّا وقوميًّا، مكوّنًا أصيلًا من مكوّنات المواجهة والصراع القومي ضدّ المشروع المعادي.

   في ضوء هذا الفهم تأخذُ العملية بمجملها ومضامينها وأبعادها معنى نهضةٍ شاملة، وتغدو عمليّةً تجديديّةً متواصلةً تركّزُ الطاقات وتكثّف الجهود ضمنَ رؤيةٍ استراتيجيّةٍ تقومُ على فهم الصراع اشتباكًا تاريخيًّا يفرضُ عمليّة تركيمٍ لا تتوقّف؛ بهدف تأمين شروط الانتصار المادية والمعنوية؛ وفي السياق تحرير طاقة الإنسان العقلية وتفجير عناصر الإبداع الهائلة المخزونة في جموع الأمة العربيّة.

   إنّ الوصول بالمعادلات إلى هذا المستوى يعني في الحقيقة انقلابًا اجتماعيًّا جذريًّا لا بدَّ وأن يجد ترجماته على شكل إعادة صياغةٍ لموازين القوى التي تحكمُ الصراع لصالح الحق بعد امتلاكه لشروط القوة الضرورية في النهاية.

الخيارُ العسكريّ:

س- الواضحُ أن الدول العربيّة أسقطت الخيار العسكري في مواجهة المشروع الصهيوني، فما تقديراتُكم لهذه المسألة، وما أولويات الخيارات لديكم؟

ج- من ناحيةٍ علميّةٍ لا يمكنُ القولُ بسقوط الخيار العسكري لسببٍ بسيط، ذلك أن هذا الخيار ليس نتيجة إسقاطٍ ذاتيٍّ لهذا الزعيم أو ذلك؛ إنّ الذي يحدّدُ طبيعة المواجهة وشروطها وأشكالها هي محددات ومعطيات الصراع ذاته بما في ذلك أطرافه المتصارعة، وبهذا المعنى فإنّ طبيعة المشروع الصهيوني ومرتكزاته الفكرية العدوانيّة، التوسّعيّة العنصريّة، إضافةً لأهدافِهِ الناظمة التي تقومُ على الاحتلال والتفوّق والسيطرة والنهب، تفرض المواجهة العنيفة بأشكالها كافةً؛ سواءً الرسميّة أو الشعبيّة.

   على هذا الأساس يجبُ التمييزُ بين عدم القدرة في لحظةٍ ما على خوض مواجهةٍ عسكريّةٍ؛ بسبب عدم توفّر شروطها، وبين فكرة حذفها بالكامل من جدول الأعمال، هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخرَ يجبُ التمييزُ بين سياسة بعض الأنظمة المهزومة التي شطبت من فكرها وبرنامجها مبدأ الصراع العنفي ضدّ العدو على أساس الاستسلام له ولشروطه، وبين العوامل التي تغذي مبدأ الصراع بألف سببٍ وسببٍ؛ بَدْءًا من احتلال الأرض وتشريد أصحابها، مرورًا بالاعتداءات الصهيونيّة التي لا تتوقف من قصفٍ وتدميرٍ ومجازر، وصولًا للأطماع الصهيونيّة التي لا تقفُ عند حدود .

   إنّ هذه  الحقيقة هي التي تفسّرُ لنا التناقض الفاضح بين أنظمةٍ وأحزابٍ أسقطت الكفاح المسلّح من فكرها واستراتيجيّتها، وبين واقع الحال الصاخب الذي يتجلّى في حالة الاشتباك المتواصلة والدامية مع الاحتلال، وولادة منظّماتٍ وقوًى سياسيّةٍ تؤمنُ بهذا الخط الكفاحي وتمارسه باستمرار، فإذا كان أصحاب الفكر الانهزامي يعتقدون أن استسلامهم قد أنهى الخيار العسكري فهذا شأنهم، أما بالنسبة لإسرائيل فإنّ التحدّي قائمٌ ومتواصلٌ؛ لأنّها تدرك واقع الصراع، وتدرك حقيقة أهدافها، وإلا فكيف تفهمُ تركيبها المرعب للأسلحة النوويّة والجرثوميّة والكيماوية .

والشيءَ نفسَهُ يمكنُ قولُهُ على مستوى الشعوب العربيّة التي تدرك حقيقة الصراع بتجربتها، ولهذا فهي تستجيبُ له بصورةٍ موضوعيّة.

 على أساس هذا الفهم، يمكنني التأكيدُ أنّ الصراع ضدّ إسرائيل ومشروعها هو صراعٌ مفتوحٌ على كلّ الاحتمالات، ومن الخطأ الفادح وضعُ شكلٍ من أشكال النضال في مواجهة الآخر؛ فلوحةُ الصراعِ تحتملُ الرصاصة والطائرة والزجاجة الحارقة، والحجر، والمظاهرة، والدفاع عن الأرض، وحقّ التعليم، وحماية المياه والجامعة والشجرة والتنمية الأساسية ... الخ. وهذا الفهم لا ينفي بالطبع تراجع مظهر أو شكل في لحظةٍ أو مرحلةٍ ما وتقدّم شكل آخر، ولكن على أساس تكاملِ الأشكالِ وتساندِها كافةً وليس تناقضها.

أسسُ الصراعِ لم تتغيّر:

س - حملت التطوّراتُ والتغيّراتُ وتراكمات الأحداث عبر السنوات الأخيرة معها كذلك تغيراتٍ في المفاهيم والثوابت العربيّة - إن جاز القول - فبعد أن كان الثابت الاستراتيجي أن صراعنا مع العدو صراعُ وجودٍ لا حدود، طرحت عملية السلام منذ انطلاقتها مقولة: إنّه صراعُ حدود، ويمكنُ التسويات السياسية فيه، فكيف تنظرون لهذه المعادلة اليوم؟ وهل ما زال الصراعُ في اعتقادكم يستندُ إلى معادلة صراع الوجود ونفي النفي؟ أم أن المعادلة تغيّرت؟ وما ملامحُها اليوم؟

ج- ما زلتُ أعتقدُ أنّ أسس الصراع لم تتغيّر، بل إنّ الأحداث زادتها وضوحًا وحدّة، والصراع - حسب فهمي - ما زال صراعًا وجوديًّا، ولكن بأي معنى؟ لا أقصدُ بالصراع الوجوديّ الإبادة المادية الشاملة، إنّما أقصد الصراع بين مشروعين: مشروع صهيوني - إسرائيلي عدوانيّ توسعيّ استيطانيّ يستهدفُ احتلال الأرض والهيمنة الاقتصادية والسياسية تحت حماية مظلّات الرعب النووي وأسلحة التدمير الشامل، والمشروع النهضويّ العربيّ بما يعنيه من تحريرٍ للأرض والثروات والتقدّم الاقتصادي الاجتماعي والوحدة، وبهذا المعنى لا مجال للتعايش، فالمشروعُ الصهيوني وُجد أصلًا مشروعًا إمبرياليًّا لنهب الثروات العربيّة، ومنع وحدة الأمّة وتعميق حالة تمزّقها وتشتّتها، وأطماعه لا تزال ثابتةً، بل أصبحت أكثرَ عنفًا ووحشيّةً بعد أن أراكم مقوّمات القوّة بصورةٍ رهيبة .

  على هذا الأساس، فإنّ المشروع الصهيوني لا يمكنُ أن يُوجدَ حالةً طبيعيّةً؛ لأنّه بالأصل غيرُ طبيعيٍّ ولم يأتِ بالأساس لحلّ مشكلة اليهود الإنسانيّة في أعقاب المحرقة النازية، بل إنّه مشروعٌ استعماريٌّ فكرًا ومضمونًا، وفي حال تخلّيه عن جوهره، فإنّه يفقدُ وظيفته الاستعماريّة وتنتفي، من ثَمَّ، أسس الصراع. والسؤال: هل صيرورةُ الأحداث والتطوّرات تشيرُ إلى هذه الإمكانيّة أم إلى عكسها؟ الإجابة أكثر من واضحة، بل إنّ المشروع الصهيوني الذي تخطى مراحل التأسيس وحقّق إنجازاتٍ واضحةٍ ضدّ الأمّة العربيّة وراكم قوّةً اقتصاديّةً وعسكريّةً هائلة، ويستندُ إلى تحالفٍ عضويٍّ مع الإمبرياليّة الأمريكيّة، تتّجهُ حركته الداخليّة سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا نحو المزيد من التطرّف والعنصريّة، بمعنى أن الاختلال المتزايد في موازين القوى لصالحه اقتصاديًّا وعسكريًّا أخذ يعبّرُ عن نفسه بأطماعٍ جديدة؛ إذ لم يقف عند هدفه الذي كان يعلن عنه في مراحل التأسيس أي الحفاظ على الذات، إنّما يسعى الآن لدور المهيمن والمسيطر والقوّة الضاربة الإمبرياليّة الأمريكيّة والرأسمال العالميّ في منطقة الشرق الأوسط .

   وبهذا المعنى أشيرُ إلى أنّ المعضلة بالأساس ليست في شخص نتنياهو- مثلا - على فجاجتها وصلفها كما يحاولُ البعض أن يشيع، فنتنياهو يمثّلُ تعبيرًا مكثّفًا عن حركةٍ أكثرَ عمقًا؛ إنّه النسيج المتطوّر للبُنى الفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة الإسرائيليّة على مدار عقود تلك الدولة من تأسيسها، وعليه، فإنّ صعود نتنياهو للسلطة سبقه صعود الليكود للسلطة منذ أواسط السبعينات؛ الأمرُ الذي يعكسُ الميل العام لحركة المجتمع الصهيوني نحو اليمين والتطرف بما في ذلك حزب العمل الذي دفعت التغيرات الداخلية الإسرائيلية بصقوره إلى القيادة (رابين، باراك)، وبالمجمل؛ فإنّ نتنياهو هو الوجهُ الآخرُ لمقولة: الشرق الأوسط الجديد، التي أطلقها بيرس، بمعنى أن نتنياهو يمرُّ بالصورة الأكثر وضوحًا عن التوازنات التي باتت تحكم المجتمع الإسرائيلي؛ إنّه لا يرى ضرورةً حتى لتلك الحلول  التي كان حزبُ العملِ  يتميّزُ بها، وأمريكا تعي هذه الحقيقة وتحترمها .

   ما تقدّمَ يشكّلُ الأساس الذي يمكن في ضوئه قراءة المعادلة الراهنة للصراع، بما هي لا تزال تقوم على التناحر بين المشروع الصهيوني والمشروع التحرّري (النهوض العربي)، وإلا بماذا نفسّر الإصرار الإسرائيليّ على رؤيته لعمليّة السلام، التي لا تتجاوزُ مفهوم الإصرار على تركيع الأمّة العربيّة واستسلامها.

    بهذا يتوضّحُ فهمي لفكرة الصراع الوجودي، الذي يعني أن لا تعايشَ مع المشروع الصهيوني فكرًا وأهدافًا وأطماعًا وسيطرةً ونهبًا، وهذا الفهمُ لا يعني بالنسبة لنا – نحن العرب والفلسطينيين - أن صراعنا مع اليهود قائمٌ على النهب والسلب، بل إنه على عكس الفهم الصهيونيّ الذي يجاهدُ باستمرارٍ لوضع المعادلة في إطار حرب الإبادة بين اليهود والعرب، إنّنا نقولُ بإمكانية عيش اليهود معنا مثلهم مثلنا، ولكن ليس على أساس الفهم الصهيونيّ العنصريّ الذي يواصلُ العمل بمعايير المحرقة النازية نفسها ضدّ اليهود والعرب في آنٍ واحد .

اتفاقيّات أوسلو ووادي عربة:

س- إن كنا سألنا عن إسقاط العرب للخيار العسكري، فإنّنا نسأل كذلك عن الثوابت الاستراتيجيّة الأخرى للصراع، فأين نحن اليوم من تلك الثوابت؟ وهل يا ترى الفرص الحقيقيّة في رأيكم لاسترداد الأرض والحقوق المغتصبة عبر عمليّة المفاوضات السياسيّة الجارية؟ وكيف؟

ج- ما أسفرت عنه مشاريعُ التسوية الأمريكيّة منذ مؤتمر مدريد وحتّى الآن، يشيرُ إلى أن تلك المشاريع لم تكن بأيّ حالٍ مشاريعَ للتسوية، إنّما مشاريعُ لفرض الهزيمة والاستسلام على الأطراف العربيّة، وأقول هذا ليس من باب المبالغة، إنّما بالاستناد لقراءة الحقائق التي أفرزتها اتفاقيات أوسلو، ووادي عربة، حيث تخطّت تلك الاتفاقيات الحد الأدنى من الحقوق الوطنية والقومية المشروعة، لقد هبطت اتفاقات أوسلو بحقوق الشعب الفلسطيني من مستوى حقوق شعبٍ يناضلُ من أجل حريته واستقلاله التي ليس لها معنى دون حقّ العودة وتقرير المصير وبناء الدولة الوطنيّة المستقلّة وعاصمتها القدس وتفكيك المستوطنات الصهيونيّة، وممارسة السيادة الكاملة؛ إلى مستوى حكمٍ ذاتيٍّ محدودٍ محاصرٍ وممزّق؛ حكمٍ ذاتيٍّ يقومُ على أساس الفصل العنصري للسكان مع بقاء الأرض والسيادة تحت سيطرة الاحتلال .بينما اتفاقات وادي عربة تقوم على أساس التحالف مع إسرائيل وتلبية شروطها الاقتصاديّة والأمنيّة .

   وبالمقابل نجد أن التسوية على المسارين السوري - واللبناني لم تتقدّم؛ لأنّ سوريا أدارت عمليّة التفاوض على أساس تمسّكها بحقوقها الوطنيّة والقوميّة؛ الأمرُ الذي ترفضه إسرائيل التي لا ترى في التسوية أكثر من الرضوخ لشروطها، وهكذا تراجعت عن كلّ التزاماتها.

  إلى جانب ذلك تحاولُ إسرائيل عن طريق المفاوضات متعدّدة الأطراف ترتيب المنطقة وَفْقَ رؤيتها ومصالحها الاستراتيجيّة الاقتصاديّة والأمنيّة، بدعمٍ وإسنادٍ أمريكيٍّ كاملين.

   وفي ضوء ما تقدّم يتّضحُ أن التسوية وَفْقَ الفهم الإسرائيلي - الأمريكي ليست تسويةً لحلٍّ عادل، إنّما تفرضُ الهزيمة على العرب؛ بهذا المعنى فهي فاقدةٌ لشروط التسوية العادلة حتى بالمقياس النسبي، التي لا يمكنُ أن تتحقّق دون استرداد الأرض والحقوق المغتصبة، وما دامت كذلك فهي تحملُ بذور فشلها، وتعيد تغذية الصراع من جديد.

إنّ استمرار المفاوضات في السياق ذاته، ضمن المنطق ذاته، لا يمكن أن يقود للسلام.

  إنّنا في الحقيقة أمامَ حالةٍ من الاشتباك الشامل، وما لم يتم التعامل عربيًّا مع حقائق الواقع والصراع على أساس ضرورة إحداث إزاحات في موازين القوى، فإنّ المعادلة ستبقى ضمن المستوى الذي يحدّده الحلف الأمريكي الإسرائيلي.

ملف القدس:

س - إذا كان هناك شبه إجماع، فإنّ مثل هذا الإجماع يتعلّقُ بمدينة القدس العربيّة المحتلّة بوصفها محور السلام والحرب، فهذه المدينة العربية تتعرّضُ لحملاتٍ استيطانيّةٍ محمومةٍ متلاحقةٍ بلا توقّف؛ بهدفِ تهويدها بالكامل، وباتت المدينة تحت الهيمنة الاحتلاليّة المبرمجة، والسؤال الكبير الذي يفرضُ نفسه في ضوء ذلك: ما الذي قدّمته الأمّةُ لتخليص المدينة؟ وبرأيكم، ما المهمّاتُ العاجلة وآليات العمل الناجحة من أجل إنقاذ المدينة من التهويد الكامل والضياع التاريخي؟

ج- إنّ محنة القدس ليست مفصولةً عن محنة فلسطين والشعب الفلسطيني، فلا يمكنُ أن تكون القدس بخيرٍ في الوقت الذي يجري فيه تبديد حقوق الشعب الفلسطيني، عندما أنظر إلى الإمكانات العربيّة الاقتصاديّة والسياسية والبشرية والعلمية، وعمليات التبديد والهدر التي تجري لثرواتنا، وأبرزها نعمة النفط التي تحوّلت إلى نقمةٍ اقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ؛ أشعر بالألم والغضب.

  إنّ مواجهة محنة القدس لا يمكن أن تتم بالكلام والشعارات والخطابات، فالقدسُ تتعرّضُ للتدمير التاريخي والاستيطان الصهيوني من داخلها ومن خارجها، وتشريد أهلها وطردهم بصورةٍ منهجيّةٍ عبرَ منعهم من العودة إليها ورفض تجديد هُويّاتهم، واحتلال بيوتها شبرًا شبرًا، ونبش الأنفاق تحت مقدّساتها الإسلاميّة والمسيحيّة بحثًا عن هيكلٍ يهوديٍّ مزعوم، والإعلان صباح مساء بأن القدس عاصمةُ إسرائيل الأبديّة، وكلّ ما يمكنُ الحديث عنه بعض الوظائف الإدارية للعرب ضمن السيادة الإسرائيليّة، كل ذلك يجري والعرب والمسلمون يتّخذون القرارات ويؤلّفون اللجان، وعلى أهميّة ذلك إلّا أن بقاء الأمر على مستوى الاحتفالات والمهرجانات والبيانات لن يحمي بيتًا عربيًّا واحدًا في القدس .

   إنّ التحدي يحتاجُ لسياسةٍ حازمةٍ تتلازم مع خطواتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وضغطٍ عربيّ – إسلاميّ - مسيحي شاملٍ يرتكزُ إلى موقفٍ واضحٍ ونهائيٍّ بأن لا سلامَ ولا حلَّ ولا أمنَ في المنطقة دون القدس .والضغط دوليًّا على إسرائيل، وخاصّةً في الأمم المتّحدة ومجلس الأمن، للتنفيذ الفوري الذي لا يقبلُ المناورة والمماطلة لقرارات الشرعيّة الدوليّة بشأن القدس، وهذا لا يمكنُ أن يتمَّ إلا إذا اتّخذت خطواتٍ عمليّةً وعقوباتٍ واضحةً ضدّ إسرائيل ما دامت لا تلتزم بتنفيذ تلك القرارات، وعكس ذلك يعني فقدان مؤسّسات الشرعيّة الدولية لوظيفتها ودورها، ومن ثَمَّ رفض سياسة الالتزام بتلك القرارات من طرفٍ واحد .

   إلى جانب ذلك، أن تتّخذ خطواتٍ عمليّةً ضدّ الدول التي تتعاملُ مع القدس وفق الفهم الإسرائيلي، مثل الكونغرس الأمريكي الذي بات يقرّ القدس عاصمةً لإسرائيل.

    إذن؛ فدونَ سياسةٍ عمليّةٍ وحازمةٍ يبقى الحديثُ حبرًا على ورق، ويبقى لسان حال إسرائيل: أنت تكلم كما تشاء، وأنا أفعل ما أشاء، ويبقى استهتارها بالرأي العام العربي والإسلامي الذي لم يتخطَ حدود الكلام برغم إعلان ضم القدس، ورغم كل سياسات تهويد المدينة المقدّسة وتدميرها. إلى جانب ذلك ضرورة تقديم الدعم المادي المنظّم لإسناد صمود المواطنين العرب في المدينة، والحفاظ على مقدّساتها، وترميم آثارها.

وفلسطينيًّا عدم المساومة لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ على حقوق الفلسطينيّين التاريخيّة والسياسيّة في القدس، ورفض كلّ المناورات الصهيونيّة مثل الصلاحيّات الإداريّة أو الدينيّة، أو استبدال القدس بأحد الضواحي، مثل العيزرية أو أبو ديس، إضافةً إلى مواجهة خطر تهجير الفلسطينيّين من القدس.

خصوصيّة فلسطين:

 س - نأتي إلى فلسطين التي احتلّت على مدى العقود الماضية خصوصيّةً ومكانةً متميّزةً جوهريّةً مركزيّة في البرنامج القوميّ العربي بشكلٍ عام، وفي الوجدان العربيّ بشكلٍ خاص، وفي كلّ الأدبيّات العربيّة على امتداد الخريطة العربيّة، فأين نحن اليوم من كلّ ذلك؟

ج- مكانة فلسطين المميّزة في الوجدان العربيّ لا تقفُ عند حدود مكانتها المقدّسة والتاريخيّة، إنّما تتخطّى ذلك باعتبارها المكان الذي تتكثّف فيه المواجهة بين الأطماع والمشاريع الإمبرياليّة - الصهيونيّة والأهداف القوميّة في التحرّر والسيادة. لقد كان قدر فلسطين أن تكون الموقع أو رأس الجسر للمشروع الاستعماري في قلب الأمة العربية، ذلك المشروع الذي تتخطى أهدافه فلسطين للهيمنة على الوطن العربي سياسيًّا وعسكريًّا.

  وقد أدركت الأمّةُ العربيّةُ بوعيها حقيقة هذا الخطر وأهدافه البعيدة، وتلمست بتجربتها أن لا مجال للتحرّر وتحقيق الوحدة العربيّة في ظلّ التهديد الصهيوني، ولا مجال للتحرّر الاجتماعي والتنمية والسيطرة على الثروات وخاصة النفط ما دام الخطر الصهيوني جاثمًا على أرض فلسطين، من هنا ندرك حالة الرفض والمجابهة العربية بأشكالها اللغوية والمنظّمة ضدّ المشروع الصهيونيّ.

    إذن، فخصوصيّةُ فلسطين في وجدان الأمّة العربيّة ليست خصوصيّةً عاطفية، وإنما باعتبارها تكثيفًا للتحدي ورمزًا للكرامة والاستقلال العربي، وقد أدركت الأنظمة والقوى السياسية هذه الحقيقة، لهذا نراها جميعها تتوسّلُ فلسطين باستمرارٍ لتكتسب شرعيتها الوطنية والقومّية، ورغمَ أنّ فلسطين وتحرير فلسطين قد ظلَّ مساحةً واضحةً ومركزيّةً في الخطاب السياسيّ العربيّ الرسميّ والشعبيّ، وأيضًا في البرامج، إلا أنّ الممارسة لم ترتقِ إلى مستوى استحقاقات المجابهة .لهذا كان التناقضُ واضحًا بين خطابها القوميّ التحرّري، وممارستها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الداخليّة، حيث افتقدت للديمقراطيّة الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، وكان طابعُها في الجوهر بوليسيًّا، وعليه، كيف يمكنُ تحقيقُ الانتصار في صراعٍ قوميٍّ في ظلّ افتقاد الإنسان العربي لروح الديمقراطية والإبداع ؟!

    إنّ فلسطين وقضيّة الشعب الفلسطيني هي جوهرُ الصراع العربي الصهيوني، وستبقى كذلك ليس بسبب الرغبات، بل لأنّ أخطار المشروع الصهيوني تشملُ عموم الأمة العربية وأهدافها وطموحاتها، لهذا فإنّ من أشد الأخطار التي حملتها اتفاقات أوسلو تمثّلت في محاولة الكيان الصهيوني إحداث عمليّة طلاقٍ بين القضيّة الفلسطينية وعمقها العربي، وللأسف وقع فريقُ أوسلو في هذا المستنقع عندما توهّم أن بإمكانه الوصولَ للحقوق الفلسطينيّة على أساس التسوية المنفردة ، والنتيجة أن هذه السياسية وفّرت للعدو الاستقرار بالطرف الفلسطيني وفرض تسوية مذلّة عليه .

     والحقيقةُ المرّةُ أن محاولات تفلّت فريق أوسلو الفلسطيني من دائرته العربيّة، هي محاولاتٌ يائسةٌ لن تقود إلا لنتائج أكثرَ بؤسًا، كون هذا المنطق وما يعبّرُ عنه من سياسةٍ وفكرٍ وممارسةٍ هو منطقٌ انعزاليٌّ، ويتعارضُ مع بديهات التاريخ والواقع، إلّا أنّه يمكن فصل فلسطين عن جسد الأمة العربيّة.

   وبالقدرِ نفسه يتبدّى وهمُ بعض الأنظمة العربيّة بإمكانيّة التقدّم الاقتصاديّ والاجتماعيّ، والعامة في ظلّ وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين؛ الأمرُ الذي تعتقدُ أنّه يبرّرُ لها الابتعاد عن واجبها تجاهَ قضيّة فلسطين.

قراراتُ الشرعيّة الدوليّة:

س- ما قراءتكم لدور الشرعيّة الدوليّة وقراراتها المتعلّقة بقضيّة فلسطين؟ وما الأفقُ الحقيقيٌّ الذي ترونه لتطبيق قرارات الشرعيّة الدوليّة؟

  ج- إنّ قراءة قرارات الشرعيّة الدوليّة، ومن ثَمَّ، الموقف منها يتحددانِ انطلاقًا من المعيار الذي ننطلق منه.

فإذا انطلقنا من معيار الحقوق التاريخيّة للشعب الفلسطيني، فإنّ تلك القرارات لا تشكّلُ معيارًا صالحًا للحكم، ذلك أنّ الحقوق الفلسطينيّة التاريخيّة غير قابلة للنقاش؛ إنّها حقوقٌ طبيعيّةٌ بالمعنى الكامل، والغزوة الصهيونيّة منذ أوّل مستوطنٍ على أرض فلسطين هي غزوةٌ عدوانيّة، ومن ثَمَّ فوجودها وما ترتّب على ذلك الوجود هو غيرُ شرعيٍّ بالمعنى التاريخيّ.

  هذه الحقيقةُ هي التي تعطي للصراع صفةَ الاشتباك التاريخي الذي لن يهدأ، ولن يتوقّفَ رغم بعض مظاهر التراجع والكمون والانحناء إلا بعودة الحقوق لأصحابها كاملةً.

   إذن، فإذا انطلقنا من معيار موازين القوى، وضرورة الاستفادة من الهامش الذي تعطينا إياه قرارات الشرعية الدولية، التي يلبي بعضًا من حقوقنا، وتدين الاحتلال ولو جزئيًّا، فإنّنا يجب أن نعمل لتوظيف تلك القرارات والاستفادة منها؛ إنّها بهذا المعنى سلاحٌ قانونيٌّ دوليٌّ لواجهة اندفاعة المشروع الصهيوني وممارسات الاحتلال ضد شعبنا وأرضنا، حيث نجد القرار الذي يعترفُ بقيام الدولة الفلسطينيّة المستقلّة، وقرار حقّ العودة وتقرير المصير، وقرار حقّنا في مقاومة الاحتلال، وقرار رفض المساس بالقدس، ورفض بناء المستوطنات الصهيونيّة وعدم شرعيّتها، إضافةً لعشرات القرارات التي صدرت عن هيئة الأمم المتّحدة ومجلس الأمن، وما يتفرّغُ عنهما من الهيئات التي تدين ممارسات الاحتلال في ميادين حقوق الإنسان والاقتصاد والثقافة والتعليم ... الخ .

   وبهذا المعنى، أرى من المهمّ والضروريّ استخدام هذا السلاح بفعاليّة، خاصّةً وأنّ إسرائيل وأمريكا ترفضان باستمرارٍ الالتزامَ بتلك القرارات، في الوقت الذي لا تتورّعُ فيه الولاياتُ المتّحدةُ عن خوض الحروب، وفرض الحصار ضدّ شعوبٍ بكاملها باسم قرارات الشرعيّة الدوليّة.

   أمّا بالنسبة لتنفيذ تلك القرارات، فإنّني أعتقدُ أنّ اتفاقية أوسلو الفلسطيني، قد أفقد الشعبَ الفلسطينيَّ سلاحًا حقيقيًّا ولو بالمعنى القانوني، عندما قبل بإدارة المفاوضات بعيدًا عن مرجعيّة المؤسّسات الدوليّة وقراراتها؛ الأمرُ الذي حوّله لصيدٍ سهلٍ أمام المفاوض الإسرائيلي المسنود.

  على هذا الأساس، فإنَّ مرجعيّةَ المفاوضات على المسار الفلسطيني تجري - الآن - دونَ أيِّ مرجعيّةٍ دوليّةٍ باستثناءِ مرجعيّة القوّة الإسرائيليّة وما تمخّض عنها من اتّفاقات، هذه الحقيقةُ كانت تدركها إسرائيلُ مسبقًا، ولهذا؛ فقد أصرّت في مدريد على رفض أن يكون لهيئة الأمم ومجلس الأمن أيُّ دورٍ حقيقيٍّ في المفاوضات، ووافقت فقط على دور مراقب.

إنّني على قناعةٍ بأنّ استمرار المفاوضات بين السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل بمعزلٍ عن قرارات الشرعيّة الدوليّة ومؤسّساتها، لن يقودَ إلا إلى المزيد من التنازلات الفلسطينيّة، وعليه فمن الضروريّ الوقوف لإعادة النظر في هذا الخيار السياسيّ، خاصّةً وأنّ إسرائيلَ مستمرّةٌ في تخطّي الحقوق الفلسطينيّة الأساسيّة ممثّلةً بحقّ العودة وتقرير المصير والدولة المستقلّة وعاصمتها القدس وتواصل فرض حقائق قوّة الأمر الواقع.

 إنّ العودة عن خيار أوسلو تجاهَ خيار قرارات الشرعيّة الدوليّة مشروطةٌ بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أساس التمسّك بالثوابت الوطنيّة، والعودة للتنسيق العربي، الذي يوفّرُ الداعمة للنضال الوطني الفلسطيني، إلى جانب تصعيد المقاومة ضدّ الاحتلال بأشكالها الجماهيريّة والعنيفة كافةً؛ الأمرُ الذي يضعُ إسرائيلَ وأمريكا أمامَ حقيقة أن لا سلامَ دون الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.