Menu

حولَ "الدور الوظيفيّ" للسلطة الفلسطينيّة في ضوء اجتماع العقبة

حسن شاهين

نشر هذا المقال في العدد 47 من مجلة الهدف الإلكترونية

عقد في مدينة العقبة الأردنيّة في السادس والعشرين من فبراير/شباط اجتماعٌ خماسيٌّ ضمَّ قياديين أمنيين فلسطينيين وإسرائيليين إلى جانب مسؤولين من الولايات المتّحدة و مصر والأردن. جاء الاجتماعُ بعد أيامٍ من صدور بيانٍ رئاسيٍّ من مجلس الأمن ضدّ توسيع المستوطنات الإسرائيليّة، البيان جاء بعد سحب مشروع قرارٍ قُدّم إلى المجلس من قبل الإمارات نيابةً عن السلطة، يطالبُ بوقف الأنشطة الاستيطانيّة الإسرائيليّة ردًّا على إصدار حكومة نتنياهو تراخيص لتسع بؤرٍ استيطانيّةٍ عشوائيّة، إضافةً إلى إعلانها عن بناء آلاف الوحدات السكنيّة في مستوطنات الضفّة الغربيّة، وجاء التراجعُ عن مشروع القرار بعد اتّصالات بين السلطة وإسرائيل برعايةٍ أمريكيّةٍ انتهت بالاتفاق على تعليق حكومة نتنياهو مؤقّتًا الترويج لبناء كتلٍ استيطانيّةٍ جديدةٍ في الضفة حسب موقع "والا" العبري نقلًا عن مصادرَ إسرائيليّةٍ وصفها بالمطّلعة. اجتماع العقبة جاء أمنيًّا بامتياز، وهو أمرٌ لا يشذ عن قاعدةٍ مستمرّةٍ منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، حيث ترسّخت العلاقة الأمنية بين الجانبين وتوقفت عجلة المفاوضات التي كانت بالأساس توصف من قِبل المعارضة الفلسطينية بالشكلية.

منذ إنشائها عام 1994 اُتهمت السلطة الفلسطينية من قبل معارضي أوسلو بأن لها دورًا وظيفيًّا مُحدّدًا يتمثّلُ برفع وظيفة إدارة حياة الفلسطينيين في مناطقها عن كاهل الاحتلال، وهذا الدور الوظيفي تمأسست السلطة الفلسطينية بنيويًّا لتأديته، من عقيدة أجهزتها الأمنية القائمة على التصدي للمقاومة الفلسطينية وكبح أنشطتها الموجهة ضد الاحتلال، أي حماية إسرائيل من مقاومة الشعب الفلسطيني بينما تقف عاجزةً ومتفرّجةً عندما يتعرّض شعبها لاعتداءات قوّات الاحتلال الإسرائيلي، إلى التنسيق الأمني، وتسليم السجل المدني للسكان الفلسطينيين إلى سلطات الاحتلال، وترسيم التبعية الاقتصادية لإسرائيل وفق بروتوكول باريس الاقتصادي (1994)؛ ولأنّ هذا الدور الوظيفي أصبح مركزيًّا بالنسبة للقيادة الفلسطينية جرى تهميش منظمة التحرير الفلسطينية وإهدار حمولتها السياسية والوطنية لصالح سلطة الحكم الذاتي المصممة لتأديته. نفت السلطة وقيادتها مرارًا تهمة "الدور الوظيفي" وعدّته من باب المزايدة السياسيّة، وأكّدت أنّها "سلطةٌ وطنيّةٌ" تحملُ مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، إلا أنّ الرئيس محمود عباس اعترف صراحة بـ"الدور الوظيفي" في خطاب ألقاه بتاريخ 28 كانون ثاني/يناير 2020 ردًّا على إعلان الرئيس الأمريكي حينها دونالد ترامب عما عُرف بصفقة القرن، حيث قال "إنّه سيتمُّ البدء فورًا باتّخاذ كلّ الإجراءات التي تتطلّب تغيير الدور الوظيفي للسلطة الوطنية؛ تنفيذًا لقرارات المجلسين المركزي والوطني". إن أي متابعٍ ولو من بعيدٍ للشأن السياسي الفلسطيني يعلم أنه بعد مرور ثلاثة أعوام على هذا الخطاب لم يتغير شيء، الدور الوظيفي بقي على حاله وقرارات المجلسين المركزي والوطني ما زالت حبرًا على ورق. خطاب عباس الغاضب ذاك يضاف إلى محاولاتٍ سابقةٍ لإظهار أن في جعبته خيارات يمكن استخدامها غير أداء ذلك الدور الوظيفي، قبل ذلك كان هناك استحقاق أيلول (2011) ودولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة (2012)، والعمل على الانضمام إلى المنظمات الدولية، لكن الحقيقة أنه لا يمتلك أي خيارات جدية، فلا البناء الهيكلي للسلطة الفلسطينية ولا مشروعها السياسي يسمحان لها بإجراء تغييراتٍ جوهريّةٍ في عقيدتها ووظيفتها.  

القيادة الفلسطينية حين دخلت مسار أوسلو أنهت عمليًّا أي خيار خارجه؛ لأنّه ترتّب عليه التحوّل من قيادة جبهة للتحرر الوطني (منظمة التحرير) إلى سلطة حكم ذاتي لمناطق تحت الاحتلال، خاضعة لشروط سياسية واقتصادية ومالية صارمة من قبل دولة الاحتلال والمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة. في الانتفاضة الثانية حاول ياسر عرفات أن يناور باستخدام الحراك الشعبي المُدبّر والمقاومة المسلحة للخروج من الستاتيكو السياسي الذي فرضته إسرائيل بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد، وانتهى الأمر بحصاره حتى وفاته وفشل الانتفاضة الثانية.

 محمود عباس، منذ أن تولّى رئاسة السلطة أعلن بشكلٍ واضحٍ نبذه لأي خيارٍ خارج مسار العملية السياسية التي انطلقت في أوسلو، وهو موقفٌ ينسجمُ مع قناعاته التي عبر عنها مرارًا قبل ذلك بسنواتٍ طويلة، لكن المفارقة أن صاحب مقولة "المفاوضات خيارنا الأوّل والثاني والثالث" عاطل عن التفاوض منذ نحو ثلاثة عشر عامًا، إلا أنه استسلم لحالة الستاتيكو السياسية التي حاول قبله أبو عمار أن يقاومها، ويكتفي بإطلاق تهديدات تغييرًا للدور الوظيفي وبعض الأنشطة الدبلوماسية الأقرب إلى حملات العلاقات العامة منها إلى العمل السياسي الحقيقي، فالعمل السياسي له برنامج بغايات وأهداف، وهو فعلٌ مستمرٌّ لا مجرّد ردّ فعل على سياسات وإجراءات ميدانية إسرائيلية.

تروج السلطة لنشاطها الدبلوماسي الأخير ضد الاستيطان الإسرائيلي على أنه إنجاز، وهو يضاف إلى "إنجازات" سابقة على هذا الصعيد احتفت بها السلطة خلال الثلاثين عاماً الماضية، لكن تلك الإنجازات لم تمنع من زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية من نحو 114 ألف قبل أوسلو إلى أكثر من 750 ألف في أعلى التقديرات ونحو نصف مليون في أقلها نهاية العام الماضي، إضافة إلى حوالي 350 ألف مستوطن في القدس ، وقد التهم النشاط الاستيطاني حوالي 40% من مساحة الضفة الغربية.

مسألة الاستيطان تظهر بوضوح كيف أن إسرائيل مضت دون هوادة في تثبيت وجودها على كامل فلسطين التاريخية، ولم يمنعها من ذلك وجود السلطة الفلسطينية، بل على العكس ضاعفت مكتسباتها على الأرض تحت سمع وبصر القيادة الفلسطينية، التي ترُد على خسارة المعركة على الأرض بحملات علاقات عامة دولية، وتسعى إلى تحقيق "انتصارات" شكلانية كاعتماد فلسطين دولة بصفة مراقب في الجمعية العاملة للأمم المتحدة. ومع عدم التقليل من قيمة الجانب الشكلاني في السياسة والقانون الدوليين، إلا أنه يفقد قيمته إن لم يجد واقعاً على الأرض يدعمه. بالتالي إن الواقع الذي تفرضه إسرائيل على الأرض سيدوم وسيفرض تعبيرات شكلانية قانونية مستقبلية عنه، بينما "انتصارات" السلطة ستأفل وتتلاشى بمرور الزمن.

اليوم بعد ثلاثة أعوام على إعلان الرئيس محمود عباس تغيير الدور الوظيفي للسلطة، والذي سبقته أعوام من نفي أن تكون السلطة موجودة لأداء هكذا دور؛ ينعقد اجتماع ذو طابع أمني في العقبة، وذلك مباشرة إثر طرح مسألة الاستيطان في مجلس الأمن. السلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن باتت لا تجد حرجًا في أن يتم نقاش حتى القضايا الوطنية الأساسية كقضية الاستيطان من زاويةٍ أمنيّةٍ بحتة. الواقع بوضوحٍ وبعيدًا عن أية مزايدةٍ هو أنّنا أمام سلطة حكم ذاتي تؤدّي دورًا وظيفيًّا، تكيّفت معه ولم تعد قادرةً على تجاوزه، وربّما حتى ليست راغبةً في ذلك. ومن ثَمَّ، إن تجاوز الدور الوظيفي للسلطة وإنهائه لا يمكن أن يأتي بمبادرة من داخل السلطة، لا بدَّ من تغييرٍ ينتجه ضغطٌ شعبيٌّ هائل، ومن غير المرجّح أن تقوده المعارضة الفلسطينية التقليدية التي تؤدي بدورها دورًا وظيفيًّا خاصًّا بها، لكن هذا مبحث آخر...