Menu

دعوةٌ أخرى للقراءة كيف يمكنُ تفسيرُ سلسلةِ الهزائم التي تتعرّضُ لها الأمّةُ منذ قرون؟!

محمود البوسيفي

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

لماذا ينهزمُ العربُ الأكثرُ عددًا أمامَ الصهاينةِ الأقلّ عددًا؟! ولماذا استمرَّ هذا الأمرُ طويلًا؟!

لا أزعمُ أنّني امتلك إجاباتٍ بقدر ما أدعو لقراءة التفاصيل والغوص في التضاريس، والبحث في منظومة المفاصل سعيًا للمعرفة التي تملك وحدها مفاتيح الأبواب المغلقة والأسئلة الملغزة...

ثمّةَ أحداثٌ جرت قبل نحو أربعة قرونٍ على شواطئ الساحل الشرقيّ لما يعرفُ الآن بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، تكادُ تتماثلُ مع ما يحدثُ في فلسطين منذ مطلعِ القرن العشرين... ففي أواسط القرن السابع عشر تقريبًا كان الهنود الحمر يعدون مائة مليون نسمة تقريبًا تطوق قبائلهم الودودة معسكرات هشّة وضعيفة لآلاف من المهاجرين قذفتهم هولندا وإنجلترا تحت وطأة شظف العيش.. كانت ممالك وحضارات الهنود الحمر في الأزتيك بالمكسيك والأنكا في البيرو تمتدُّ شمالًا وجنوبًا في فيوض روحيّة وحضاريّة يقف العالم حاليًّا مدهوشًا من جلالها... وشأنها المرموق.

بعد نحو قرنين وتحديدًا في أوّل إحصاءٍ يقوم به البيض في 1929، وصلت أعدادُ القادمين فقط من هولندا وبريطانيا إلى ثلاثين مليونًا مقابل تناقصٍ حادٍّ في تعداد أمة الهنود الحمر وصل فقط إلى ثلاثمائة ألف!

لن يكون مفيدًا سرد الحكايات التي تفنّد أكاذيب السينما الهوليوديّة عن تلك الأمة العظيمة، ولكن لا بدَّ للمتفحّص كما أسلفنا من إدراك طبيعة التفاصيل لبناء إجاباته عن أسئلةٍ لم تعد محيّرة... مجموعات لا بأس بها من المؤرخين الأمريكيين أكّدوا في حوليّاتٍ موثّقةٍ أنّ العدد الإجمالي من الهنود الحمر الذين فتك بهم البيض خلال ثلاثة قرون.

يفوق الستين مليونًا!

ولا يتجاهلُ عدد من المؤرخين أن الهنود الحمر لم يكونوا عدائيين أو متوحشين، كما تصوّرهم روايات السينما لكنّهم كانوا أقربَ للودّ وروح الصداقة وعدم الممانعة في التعايش... تسجّل تلك الحوليّات الاقتراح الذى تقدّم به في 1829 الرئيس الأمريكي الجديد (أندرو جاكسون) وهو ضابطٌ سابقٌ في الجيش، وطلب فيه من الكونغرس تخصيصَ منطقةِ غرب المسيسبي للهنود الحمر دون غيرهم وهو ما تمَّ فعلًا على الأوراق والأختام والملفّات... لكن الواقع أظهر أن المهاجرين لم يحترموا ذلك القرار، وتابعوا مضايقة الهنود ونزع مبرمج لأراضيهم... ولم تمضِ سوى تسعة عشر عامًا أخرى حتى أعلن عن اكتشاف الذهب في أراضي كاليفورنيا وهي من ضمن المناطق المخصصة للهنود غرب المسيسبي، فقام البيض باجتياح شامل للمناطق واحتلالها بعد حرب إبادة...

كان الغضب في أوساط الهنود الحمر من تحصيل الحاصل كما يقولون، فأعلنوا الاحتجاج والرفض، وهذا بالضبط ما كان ينتظره الجيش الأمريكي لبدء عملية وصفها مؤرخ أمريكي من أصل إيرلندي بأنها بمثابة التدشين لمصطلح التطهير العرقي، ولا بد أن المؤرخ الموضوعي كان اطلع على الأمر العسكري الذي أصدره جنرالات الجيش في 1862 والقاضي بذبح الرجال والأطفال الذكور من الهنود أينما وجدوا واسترقاق النساء، يتحدث الكابتن نيكولاى هوت عن معركة شارك فيها ضد قبائل (النافاهو) فيقول: كان النافاهو رجالاً ونساء وأطفالاً يركضون في جميع الاتجاهات، بينما كان الجنود يلهبون جماجمهم بالرصاص ويطعنون أجسادهم النحيلة بالحراب، رأيت جندياً - يضيف الكابتن هوت في شهادته - يغتال طفلين وامرأة فصرخت به أن يتوقف فنظر لي ساخراً قبل أن يجهز على ضحاياه.

الميجور أرثر موريسون تحدث في شهادته عن الكيفية التي تم بها حصر واغتيال زعماء الهنود من قبائل (الميسكاليرو) فقال إن الكابتن جيمس جرايدون أقنعهم بأنه صديق لهم وقدم إليهم مؤونة كبيرة من لحم البقر المقدد والدقيق وكميات كبيرة من الخمر الذي دعاهم لاحتسائه نخباً للصداقة، وبعد نحو ثلاث ساعات أعطى أوامره لجنوده المدججين بالبنادق بإفراغ مخازنها في أجسادهم وهم يترنحون في أمان وثقة.

في مطلع القرن العشرين كان اليهود الذين اضطهدتهم روسيا وأوروبا يتدفقون بتخطيط من بؤر صهيونية مدعومة من رساميل أوروبية إلى فلسطين، ليقيموا معسكرات زراعية لم يجد العمال الفلسطينيون غضاضة في العمل بها دون أية مواربة أو ضغائن، وبدأ التوسع على حساب أراض كان يمتلكها أتراك وناس من جنسيات غير فلسطينية تم بيعها تحت ضغوطات مختلفة، واستمر ذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى بانكسار إمبراطورية آل عثمان وهزيمة تركيا ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني وصدور وعد بلفور.

بدأت الحكاية هنا كما بدأت هناك!

فالرقعة التي حددها قرار التقسيم (...) كانت مطوقة بعرب فلسطين من أهل البلاد الذين واصلوا حرث وزرع أراضيهم بالطريقة القديمة نفسها، في حين حول الصهاينة مناطق احتلالهم إلى تجمعات إنتاجية تعتمد أحدث وسائل التقنية المعروفة في تلك الفترة، وشكل التدفق المالي من يهود العالم خللاً آخر في معادلة الصراع الذي تحول قبل إعلان 15. 5. 1948 إلى حرب خفية تدعمها بريطانيا لترحيل الفلسطينيين عن بلداتهم وقراهم وحقولهم، ودفعهم تحت الإغراء والتهديد للجوء إلى مناطق في غزة وفي الضفة الغربية، وفى حالة الرفض نفذ الصهاينة جريمتهم المروعة ضد سكان قرية دير ياسين تحت شعار.. ترحل أو تُذبح!

تابعوا قراءة التفاصيل السابقة بوضع أسماء وتواريخ جديدة، لتكتشفوا أن زعماء الحركة الصهيونية كانوا ينفذون تفاصيل حرب الاحتلال ضد الهنود الحمر بدقة شبه متناهية.

هذه دعوة لقراءة مؤشر الأمية في الوطن العربي وفى الكيان الصهيوني وفي مخصصات البحث العلمي هنا وهناك وفى الإنتاج الزراعي والصناعي والمعلوماتي.. الخ.

القراءة تقودنا لفك الطلاسم وإيقاد الشموع للخروج من نفق الجهالة والتخلف سعياً لاستعادة الكرامة.