أعادت الحربُ الروسيّةُ الأوكرانيّة التذكيرَ ببضعةٍ من الحقائق الرئيسيّة بشأن الحروب، إزاحة العديد من الأوهام التي هيمنت خلالَ العقود الأخيرة حولَ شكل الحروب في عالم اليوم، وفي المستقبل؛ والمقصودُ هنا ليس على مستوى الأدوات العسكريّة المباشرة المستخدمة في الحرب، التي كانت تقليديّةً جدًّا في الحرب الروسيّة الأوكرانيّة إلى حدٍّ أعاد معه الناس لتذكر الحرب العالمية الثانية، ومعارك المشاة والدبّابات والطائرات التقليديّة، لكنّ الأهمّ هو في استعادتها لصورة الحرب باعتبارها عمليّةَ استحضارٍ لقدراتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ واقتصاديّةٍ توفّر التفوّق العسكريّ في ساحات المواجهة، وبتعبيرٍ آخر التعبئة، وقدرة المجتمعات على الحشد والتنظيم والتخطيط وتركيز الأهداف.
مع انحسارِ الهجوم الروسيّ الكبير في بداية الحرب الأوكرانيّة، وتحقيق القوّات الأوكرانيّة لتقدّمٍ لافتٍ في العديد من الجبهات، واستعادتها لمناطقَ عدّةٍ كان الروس قد سيطروا عليها بداية الحرب، بدأ الحديثُ في معظم التحليلات التي تغطّي الحرب عن نوعٍ من التأجيل المحتمل للعمليّات العسكريّة الرئيسيّة، وذلك في ضوء اضطرار الروس للتموضع الدفاعي، وسد الثغرات في خطّ الجبهة الواسع واحتياجهم للوقت لتعبئة مزيدٍ من الجنود، واعادة تنظيم قواتهم وخططهم، ولاحقًا بات لهذا التأجيل اسمٌ متداولٌ وهو هجوم الربيع، فلقد سيطرت رؤيةٌ تقول إنّ الطرفين مضطرّان لتأجيل أيّ أعمالٍ قتاليةٍ كبرى لما بعد انتهاء فصل الشتاء وبرده القارص، ورغم أن المعارك خلال الشتاء جرت في معظمها في حيّزٍ ضيّقٍ الا أنّها أعطتنا ملامح مهمّةٍ ومؤشّراتٍ لتغيّراتٍ هائلةٍ جرت على شكل هذه الحرب وموضوعها.
إذن، فالحربُ التي بدأت عمليّةً روسيّةً لإخضاع الحكومة الأوكرانية، وإجبارها على التخلّي عن السياسات العدائيّة لروسيا، وخطواتها نحو التحالف مع الناتو، لم تعد حربًا وقائيّةً وباتتْ حربًا يخوضها الروس ضدّ الناتو فعليًّا، في واحدةٍ من نسخ سيناريوهات الحرب التي أعدّها الطرفان خلال الحرب الباردة؛ أي اجتياح سوفياتي ضخم لبلدٍ أوروبيّ حليفٍ للولايات المتّحدة، تتصدّى له القوّات البريّة الأوروبيّة بغطاءٍ ودعمٍ أمريكيّين يحرم روسيا "الاتحاد السوفياتي آنذاك" من استخدام أسلحتها النوويّة، ما غيّر شكل هذه الحرب هو عمليّة التعبئة الهائلة التي قامت بها القوى الغربيّة، التي حولت موضوع الحرب من القدرة على الحسم، إلى القدرة على الحشد وتدبير الموارد لأجل الصمود في وجه استنزافٍ طويلٍ بالأسلحة التقليديّة.
التعبئةُ سؤالًا سياساتيًّا؟
حينما قرّرت روسيا زيادة عدد قوّاتها في أوكرانيا اضطرّت لتنفيذ تعبئةٍ جزئيّةٍ استدعت فيها ٣٠٠ ألفٍ من المدنيّين الروس للخدمة العسكريّة، وهو ما لا يتفق مع التصوّرات الشائعة عن جيش الاتّحاد الروسي، القوّة العسكريّة الثانية في العالم بعد الولايات المتّحدة، لكنّه أمرٌ يمكنُ فهمُهُ في ضوء فهم طبيعة القوّة العسكريّة الروسيّة للاتّحاد الروسي بعد تفكّك الاتّحاد السوفياتيّ، فلقد واجهت روسيا بعد الحقبة السوفيتية تهديدًا لوجودها بحدّ ذاته، لا لدورها الدوليّ أو نفوذها فحسب، وجاهدت طويلًا للحفاظ على أدوات الردع الاستراتيجي لخصومها، وهي ترسانتها النوويّة والصاروخيّة القادرة على تدمير دولٍ بأكملها في حالة تعرّض وجودها للخطر، أما في ميزان الأسلحة التقليديّة، فلم تعد روسيا لتطوير قدراتها إلا منذ بضعة سنوات، والأهم أنّ حجم جيشها تقلّص كثيرًا لدرجة أنّ الجيش الروسي عدديًّا لا يزيد عن ٩٠٠ ألف جنديّ من ذاك الحين، وحتّى خطط تطويره هدفت لإيجاد جيشٍ أحدث، وأكثر كفاءة، وأصغر حجمًا في هياكله ووحداته الجزئيّة.
هذا الوصف لا ينطبق فقط على الجيش الروسي، بل على معظم الجيوش في الاقتصاديات الحديثة، التي تميل للحفاظ على جيشٍ محترفٍ صغير العدد نسبيًّا، يلائم احتياجاتها الدفاعيّة في وقت السلم، بل إنّ التخصّصات الإداريّة والتدريبيّة والبُنى القياديّة في هذه الجيوش قد تشكّل نسبةً كبيرةً تصلُ للنصف على حساب عديد المقاتلين الأفراد، هذا التقسيمُ يخدمُ كون الجيش الصغير المحترف ليس إلّا منصةً استيعابيّةً تقود تحوّل البلاد من حالة السلم لحالة الحرب في زمنٍ قياسيّ، يخوض العمليّات العسكرية الضرورية والملحة، ويستوعب أضعاف أضعاف إعداده من المدنيين الذين حشدتهم البلاد للقتال ويقوم بتدريبهم وتوزيعهم على التخصصات، يضع الخطط ويحدّد الاحتياجات التسليحيّة الإضافيّة بشكلٍ مسبقٍ، ويقوم بتعديل هذه الاحتياجات حسب نوع الصراع ومستواه، فتقوم الدولة بتعبئة بناها الصناعية والاقتصادية لخدمة هذه الاحتياجات وتلبيتها.
في النموذج الروسي للتعبئة ما زالت القيادةُ السياسيّةُ ترى ألا داعي للتحوّل لنموذج اقتصاد الحرب، أي تحويل قطاعاتٍ كبيرةٍ من القوى العاملة والشركات والمؤسّسات لتصنيع المعدّات العسكريّة ومتطلّبات إمداد الجيش، بل إنّها تميلُ لشراء كثيرٍ من الاحتياجات العسكريّة، وغير العسكرية التي يطلبها الجيش من خارج البلاد دون الدخول في الكلفة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لتعطيل الاقتصاد المحلّي، وتحويله للتصنيع الحربي.
في الجانب الأوكراني يبدو الحال مختلفًا، فلقد تغيّرت البلاد جذريًّا منذ اندلاع الحرب، وباتت أجهزة الدولة ومؤسّساتها وأراضي البلاد مكرّسةً منصّةً استيعابيّةً للجهد العسكريّ الغربيّ ضدّ روسيا، فالجيشُ الأوكراني القديم تكاد ملامحه أن تكون قد اختفت مع حلول هذا الربيع، واستحال لكتائب وألوية شبه مستقلّةٍ يديرها ضبّاطٌ غربيون بشكلٍ مباشرٍ أو تعمل بـ"استشارتهم"، ضمن خططٍ عامةٍ يجري التوافق عليها بين ما تبقى من قيادة الجيش الأوكراني، وخبراء وضباط من حلف الناتو، وفي الموجة الجديدة للتعبئة، يجري العمل على حشد من ١٥٠-٢٠٠ ألف أوكراني، سيتدرب نحو٣٠٪ منهم في دول الناتو ليقودوا زملاءهم في هجوم الربيع المقبل، فعليًّا لا يعيد الناتو بناء جيشٍ لأوكرانيا بدلًا من ذلك الذي دمّرته روسيا، بل يقوم ببناء موجةٍ هجوميّةٍ جديدةٍ لها وظيفةٌ واحدةٌ وواضحةٌ، وهي هجوم الربيع القادم، والحديث عن مايو ٢٠٢٣ موعدًا لهذا الهجوم حسب تصريحات تسرّبت من مكتب الرئيس الأوكراني، هذه القوّة بات يستحيل حشدها من الأوكران وحدهم، لذلك دفعت بولندا نحو ٤٠-٦٠ ألف جندي من جيشها تحت مسمى متطوعين ضمن الجيش الأوكراني، ذلك بجانب مئات من الضبّاط من دول الناتو المختلفة.
قوة الهجوم ستحظى بتسليحٍ من ٣٠٠ عربة مدرّعة من طراز سترايكر، ونحو ١٠٠ عربة هجومٍ من طراز برادلي ونحو ٢٠٠ دبابةٍ غربيّة الصنع تضاف لبضع مئاتٍ من الدبابات السوفيتيّة القديمة، التي ما زال الأوكران يحتفظون بها، وعشرات الآلاف من الصواريخ المضادة للدبابات، وملايين من قذائف المدفعية.
يطلق الأوكران في وضعية الجبهة الهادئة أكثر من ١٠ ألاف قذيفة مدفع يوميًّا، وفي تقديرات أخرى ٣٠ ألف قذيفة؛ أي بمعدّلٍ يصل من نصف مليون إلى مليون قذيفة شهريًّا، وهو ما يفوق بأضعاف إنتاجَ دول الناتو مجتمعةً من هذه القذائف، وهو ما يخلقُ سؤالًا كبيرًا حولَ إمكانيّة استمرار المعسكر الغربي في هذه الحرب، التي تحوّلت لحربٍ حول التعبئة والاستنزاف، ففي الوقت الذي يجيب المسؤولون الأوكران على هذا التحدي بتصريحاتٍ تؤكّد على حسم المعركة لمصلحتهم بشكلٍ نهائيٍّ من خلال هجومٍ واحدٍ كبيرٍ يشنّونه هذا الربيع، وهو ما يبدو أن خطط مستشاري الناتو وضباطه للهجوم أيضًا تتوافق معه، تجيب شركات صنع السلاح الأوروبيّة بشكلٍ مختلفٍ عليه.
يشيرُ الباحثُ رامي خريس في مقالٍ له في هذا الموضوع، أن شركات صناعة الأسلحة الأوروبيّة بدأت بالفعل بتكثيف ساعات العمل، وزيادة إنتاجيّتها للطاقة القصوى، وتوظيف عاملين بعقودٍ مؤقّتةٍ، لإنتاج ما يلزم هذه الحرب من أسلحة، وأن الشركات الأمريكية تُبدي حذرًا أكبر في التحوّل نحو توسيع خطوط إنتاجها.
المؤكّد أنّ هجومًا بمئات الدبّابات على القوّات الروسيّة سيكون عبئًا ثقيلًا، وتحدّيًا هائلًا، خصوصًا في ظلّ الدعم الاستخباري والتسليحي والتدريبي الغربي الكبير للأوكران، ولكن الخطط الغربيّة المتفائلة حول تحطيم الجيش الروسي بهذا الهجوم تبدو أقرب للدعاية الهادفة لإقناع الأوكران بخوض معركةٍ أخيرةٍ قد يفقدون معها آخر رصيدٍ ممكنٍ من الأفراد والسلاح.
وإذا ما قُدّر لهذه الخطط الانتكاس ومجابهة مطر من القذائف المدفعيّة الروسيّة، والدخول في حقولٍ لصيد المدرعات بواسطة الوحدات الروسيّة المسلّحة بقاذفات الكورنيت وغيرها، ذلك دون احتساب أن العمليّة الهجوميّة ستجري في مناطق مغطاة بالدفاع الجوي الروسي، ويستطيع الطيران الروسي المشاركة فيها عن كثب في الدعم الجوي للقوات المقاتلة على الأرض، وهو ما يعني عاصفةً ناريّةً عند جبهة الاختراق الرئيسيّة والثانوية المحتملة، حينذاك سيكون على الناتو الدخول في حساباتٍ أكثر تعقيدًا تتجاوز بكثيرٍ أسئلة فشل عمليّةٍ عسكريّةٍ حشدت لها أوروبا بموارد وطاقات هائلة، وغالبًا سينقلب المزاجُ الغربي الداعم للحرب، و سيفقد هذا الدعمُ زخمه.