Menu

ما يزالُ الوهجُ القوميُّ حاضرًا

رضي الموسوي

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

تفاجأ المطبّعون العربُ في مونديال قطر /منافسات كأس العالم، بأنّ الشبابَ العربيَّ لم تنطلِ عليه حيلُ الاتفاقات الإبراهيمية وغير الإبراهيمية، بل إنّ هذا الشباب الواعد ابتكر وسائلَ جديدةً لتوصيل رسائله التي فحواها: أن الكيان الصهيوني كيانٌ زُرع في خاصرة الوطن العربي؛ ليمارس أبشع أنواع جرائم الإبادة الجماعية التي يتعرّضُ لها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعين عامًا.

كانت العاصمةُ القطرية الدوحة تزخر بنشاط الشباب الخليجي والعربي، بينما كان علم فلسطين والحطة الشهيرة تظلل الجماهير الغفيرة التي جائت لتحضر مباريات فرقها، وكان الشبابُ المتوثّبُ يقوم بواجبه القومي الذي فرض فلسطين الدولة الثالثة والثلاثين في يوميات المونديال التي استمرّت قرابة شهر توّجت بمباراةٍ نهائيّةٍ بين فرنسا والأرجنتين يوم الثامن عشر من ديسمبر /كانون الاول 2022، توّجت فيها الأرجنتين بطلةً للعالم في لعبة كرة القدم.

لم ينتهِ الأمرُ لدى الشباب الخليجي والعربي عند توزيع العلم الفلسطيني، بل أقدموا على الكثير من الأنشطة التي تؤكّدُ مظلوميّةَ شعب فلسطين وحجم الكوارث التي تعرّضَ لها بسبب الاحتلال الصهيوني، رغم أن الحديث في السياسة ممنوعٌ في المسابقات الرياضيّة. وفي ضفةٍ أخرى من المشهد رفض البحرين يون تحويل بلادهم إلى مرتعٍ لاحتفال الصهاينة بما يسمى بعيد "الحانوكا"، حيث تم جلب الصهاينة من الكيان ومن أمريكا وأوروبا والخليج ليدنسوا أراضي البحرين ويمارسوا طقوسهم الاستيطانيّة المقيتة التي عبّر شعبُ البحرين عن رفضه لها عبر المسيرات والمظاهرات التي خرجت في العاصمة المنامة وجزيرة سترة والقرى المتناثرة على خارطة الجغرافية البحرينية؛ ذلك أنّ الشعب البحريني جبل على مناهضة التطبيع التي يراد له تقبلها رغمًا عنه، فبانت في الوفود الصهيونيّة التي جلبوها لمدارس الإعدادية تحت يافطة الصداقة التي يعرفها الشعب البحريني بأنّها فرضُ سياسة الاحتلال الصهيوني على تلاميذ المدارس. 

يضافُ لذلك الجانب الآخر من الصورة التي ينبغي توضيحها والمتعلقة بواقع التطبيع في الخليج العربي. فقد شكّلت اتفاقيات التطبيع بين الكيان الصهيوني وكلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين في صيف 2020، اختراقًا كبيرًا في جدار مقاومة التطبيع مع الدولة العبريّة، خصوصًا وأن هذه الاتفاقيات جاءت في وقتٍ يعاني فيه الوطن العربي من وهنٍ وضعفٍ وتشتّتٍ وتيهٍ لم يشهد التاريخ له مثيلًا.

لقد سعى الكيانُ الصهيوني في العقود الثلاثة التي سبقت توقيع ما يسمى بالاتفاقيات الإبراهيمية، إلى إحداث الاختراقات التطبيعية مع الدول الخليجية وخصوصًا تلك التي تعاني من خللٍ ديمغرافيٍّ وسكانيٍّ لا يشكل المواطنون فيها إلا نسبةً ضئيلةً كما هو الحال مع الإمارات وقطر على سبيل المثال. وقد بدأت علنا في 1994، عندما قام وفدٌ دبلوماسيٌّ صهيونيٌّ برئاسة وزير البيئة آنذاك، يوسي ساريد، بزيارة البحرين للمشاركة في مؤتمر حول قضايا البيئة، وفي العام 1996 افتتحت كل من قطر وسلطنة عمان مكاتب تجارية للكيان في عاصمتي البلدين.

وقد زادت هذه الاختراقاتُ بشكلٍ علنيٍّ في السنوات اللاحقة عبرَ إرسال ما يسمى بالوفود الشعبيّة أو الخبراء "الأفراد" الذين تمَّ تأسيسُ مراكز بحثٍ لهم من أجل تمرير عملية التطبيع وقياس ردود الفعل، ثم تطوّرت إلى اللقاءات الرسميّة العلنيّة في المؤتمرات الدوليّة التي عادةً ما تصاحبها لقاءاتٌ ثنائيّةٌ بعيدةٌ عن وسائل الإعلام، وحقّق التطبيع خطوات عبر الإيعاز لبعض المنظّمات التي تمَّ تشكيلها لهذا الغرض القيام بزيارات للأراضي الفلسطينيّة المحتلّة تحت يافطة التسامح والصداقة، وأضيفت لها بعض الفرق الرياضية، وتجنّد البعض لخدمة هذا الهدف ومن بينهم صحفيون ورجال إعلام ورجال دين من مختلف المذاهب، كما حصل للوفد البحريني الذي ووجِهَ برفضٍ شعبيٍّ فلسطينيٍّ حاسم. كرّت سبحة التطبيع لتصل إلى منتصف سبتمبر 2020 عندما نُظّم في حديقة البيت الأبيض احتفالٌ للتوقيع على ما سمي بالاتفاقات الإبراهيمية تم فيها الإعلان عن اتفاقيّةٍ بين الكيان وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، أعقبها بعد شهر اتفاقية مع السودان ثم جاءت اتفاقية الكيان مع المغرب. حينها، قال بنيامين نتنياهو "إن التطبيع سيتواصل مع دولٍ عربيّةٍ أخرى".

وفي حفلٍ تمَّ تنظيمُهُ في حديقة البيت الأبيض منتصف سبتمبر/ أيلول 2020، جرت مراسمُ التوقيع على الاتّفاقيّات الإبراهيميّة بين الكيان الصهيونيّ، وكلٍّ من الإمارات العربيّة المتّحدة والبحرين، وأعقبها بشهرٍ دخول السودان في نادي المطبعين المعلنيين ثم المغرب في ديسمبر كانون الأول من نفس العام.

وقد أصدر البيت الأبيض بعد حفل التوقيع ثلاثة نصوص تتضمنُ إعلان اتّفاقات إبراهام، ارتكزتْ على إقامة علاقاتٍ دبلوماسيّةٍ كاملة، والتعاون المشترك في مجالاتٍ عدّةٍ مع الكيان. لكن هذه الاتفاقات لم تشر لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ إلى أن الكيان ملزمٌ بوقف ضم الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، أو حتّى تأجيل هذا الضمّ، أو تجميد بناء المستوطنات أو تحقيق تقدّمٍ في المفاوضات الإسرائيليّة الفلسطينيّة لإقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ أو الإفراج عن معتقلين فلسطينيّين كبادرة حسن نية.

تغلغلٌ مدروس:

ولأهميّة الخليج العربي بالنسبة للكيان الصهيوني فقد عمل الأخير على التغلغل في دول المجلس ليسهل عليه قيادتها؛ لأنّه ينظرُ إلى دول مجلس التعاون على أنّها البقرة الحلوب التي تدرُّ ذهبًا لما تتمتّع به من ثرواتٍ طبيعيّةٍ لا تقتصرُ على النفط الخام فحسب، إنما تمتلك في باطن أراضي بعض بلدانها الكثير من المعادن الأخرى المهمة للصناعات الحديثة.

يستهدفُ الكيان الصهيوني دول مجلس التعاون الخليجي التي يبلغ ناتجها المحلّي الإجمالي عام 2021، أكثر من 1.802 تريليون دولار، يقابلُهُ ناتج الكيان الصهيوني الذي يبلغ أكثر من 481 مليار دولار نهاية 2021 وفق تقديرات البنك الدولي. ولأهمية الإمارات بالنسبة للكيان، حيث وقّع اتفاقيّات كثيرة معها، فقد بلغ ناتجها المحلي الاجمالي 558  مليار دولار في 2021 وفق تقديرات الدوائر الرسميّة في حكومة دبي، فيما بلغ الناتج المحلي الإجمالي للمغرب 132 مليار دولار في نفس العام، والسودان 34 مليار دولار، أي أنّ النواتجَ المحليّةَ الإجماليّة للبحرين والمغرب والسودان لا تصلُ إلى 43 بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي للكيان الصهيوني، الذي يقلُ عن حجم الاقتصاد الإماراتي، حيثُ يشكّلُ 86 بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي للإمارات، وهو ما تعملُ عليه دولة الاحتلال التي ترى في الإمارات مركزًا يمكنُ الانطلاق منه للتجارة مع أكثر من ملياري نسمة في العالم. لكن الإمارات ليست الهدف النهائي للكيان، بل إن الهدف هو كل دول المجلس وخصوصًا السعودية.

يشكلُ إجمالي الناتج المحلي للكيان أقل من 27 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لمجلس التعاون الخليجي، وهذا يشكلُ 63 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربيّة. وتسعى المؤسساتُ الصهيونيةُ للحصول على موطئ قدمٍ في الاقتصاديّات العربيّة بالاختراق التطبيعي وتجتهد لزيادة صادراتها للمنطقة.

تسارعُ الاختراق الصهيوني لدول الخليج أحدث فرقًا، فزاد التبادلُ التجاريُّ بين الكيان والإمارات مع الوقت. فبعد نحو عامٍ على توقيع اتفاقات التطبيع، زاد التبادلُ التجاريُّ بين الطرفين إلى نحو نصف مليار دولار، حسب بياناتٍ للمكتب المركزي للإحصاء في "إسرائيل"، التي نشرتها صحيفة جيروزاليم بوست وقالت إنه بعد مضي عام على التطبيع، تجاوز حجم المبادلات التجارية بين البلدين 570 مليون دولار. واستمرارا في زيادة التبادل، قفز التبادل بين الجانبين من 1.22 مليار دولار في العام 2021 الى 1.4 مليار دولار حتى شهر اغسطس/اب 2022. وجاءت اتفاقية التجارة الحرة في مايو/ايار2022، لتضع أهدافًا جديدةً في هذا الجانب، حيث يسعى الجانبان إلى مضاعفة التبادل التجاري ليصل إلى 10 مليارات دولار في غضون 5 سنوات.

استغلَّ الكيانُ الفرص المتاحة أمام التيه الخليجي والعربي فتغلغل أكثر وضاعف سرعة اندفاعة التطبيع وضغط للتوقيع على العديد من الاتفاقيات في مختلف المجالات، وهو الأمرُ الذي أشار له المستثمرُ الصهيونيُّ والمؤسّسُ المشارك لمجلس الأعمال الإماراتي الإسرائيلي دوريان باراك، بقوله في تصريحات لصحيفة لجيروزاليم بوست "إنّ الإمارات منصّةٌ فريدةٌ للوصول إلى العالم بأسره (..) الإسرائيليّون دائمًا يبحثون عن طرق للقيام بأعمالٍ تجاريّةٍ في جنوب آسيا وشرق أفريقيا والهند وبنغلاديش(..)، في حين أنها أسواق بها مليارا شخص ولا يمكن العمل معهم من تل أبيب، أما الإمارات فهي المكان الذي يتجمع فيه الجميع للقيام بأعمالٍ تجارية، وتم قبول إسرائيل أخيرًا في هذا النادي".

لقد جاء تركيزُ الكيان الصهيوني والولايات المتحدة على دول مجلس التعاون الخليجي، بناءً على دراسةٍ ديمغرافيّةٍ وماليّةٍ اقتصادية، كما أسلفنا القول لمنطقةٍ تعتبر واحدةً من أغنى المناطق في الشرق الأوسط والعالم.

 يشكّلُ الاقتصادُ الخليجي عاملَ جذبٍ للمستثمرين وللعمالة الوافدة، فهو يحتلُّ المرتبة الـ13 عالميًّا، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدوله الست 1.802 تريليون دولار في عام 2021، وفقًا لبيانات المركز الإحصائي الخليجي، وتبلغ حصة السعودية منه 46.25 بالمئة من الناتج المحلي الخليجي لتصل إلى أكثر من 833 مليار دولار، تليها الإمارات بنحو 558 مليار دولار وتمثل 31 بالمئة من الإجمالي، ثم قطر 180 مليار دولار وتشكل قرابة 10 بالمئة من الإجمالي. ويبلغ حجم التجارة البينية بين دول المجلس أكثر من تريليون دولار ، تتصدرها الإمارات بـ53%، ثم السعودية 26%. ربّما هذا يفسر التركيز الصهيوني على الإمارات.

أمّا الاحتياطياتُ الأجنبية، فتبلغ لدى لدول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة نحو 664.9 مليار دولار، عدا ما تملكه الصناديق السيادية من استثمارات الأجنبية تفوق ما هو موجودٌ في الاحتياطي الرسمي لدى البنوك المركزية، منها 81% للسعودية. وتنتج دول الخليج نحو 17.2 مليون برميل يومياً تمثل 22.8% من الإنتاج العالمي، وتبلغ حصة السعودية من الإجمالي الخليجي نحو 57%، حيث بلغ متوسط إنتاجها 9.81 مليون برميل يومياً ويصل سقفها الإنتاجي إلى أكثر من 12 مليون برميل يوميًّا.

من هنا يمكنُ فهم التوجه الصهيوني لدول الخليج العربية، فبالإضافة إلى أنها عملية كسر حاجز التطبيع واستغلال الدول الهشة التي يعيش مواطنوها أقلية في بلدانهم، فإن هذا التوجه يعني أيضًا سعيًا محمومًا للاقتراب نحو حدود إيران، التي يعتبرها الكيان الصهيوني عدوًّا رئيسيًّا والعقبة الكأداء في وجه التطبيع الكامل مع أغلب الدول العربية والإسلامية والداعم العلني لحركات المقاومة الفلسطينية والمعرقل الرئيسي لمخططاته، وهذا ما يفسر لهاث الكيان على تشكيل حلف صهيوني- خليجي ضد إيران، مستغلاً الخلافات العميقة بين ضفتي الخليج، ما يفسّر، أيضًا، الاتفاق الإبراهيمي الذي وقع في واشنطن باعتباره خطوةً على طريق تشكيل حالةٍ جديدةٍ في المنطقة ستسهم في تسخينها ووضعها على فوهة بركان، الأمر الذي سيقود إلى فوضى لن يفوز فيها أحد، سوى الكيان الصهيوني وحده، بينما سيعم الضرر دول مجلس التعاون الخليجي و إيران والدول المحيطة.

كل ذلك يتطلب وحدة الموقف الفلسطيني الداخلي.