Menu

لا قيمةَ للإنسان إن لم يدافع عن أرضه..

المناضلة والأكاديمية وداد البرغوثي "للهدف": الكلُّ الفلسطينيّ رجالًا ونساءً مُطالَبٌ ببناء البرنامج النضالي الوطني المشترك

فادي الشافعي

المناضلة وداد البرغوثي

نشر هذا الحوار في العدد 48 من مجلة الهدف الإلكترونية

وداد البرغوثي، امرأةٌ فلسطينيّةٌ عاديةٌ تعشقُ الأرض والوطن وتعشق الحياة. ولدت في قرية كوبر التي تبعد عن مدينة رام الله ١٥ كم. شعارها في الحياة: كن إنسانًا أو مت وأنت تحاول"، ومنذ ولادتها عام ١٩٥٨، ومحاولتها لم تقف لعلّها تنجح وهي على قيد الحياة.

استطاعت، وبمساعدة العائلة أن تنجز مراحلها التعليميّة، من المدرسة إلى الجامعة إبان الاتّحاد السوفييتي، ثمَّ روسيا التي حصلت منها على درجة الدكتوراة في الإعلام. عملت في الإعلام منذ ١٩٨٤ حتى ٢٠٠٠، وبعد ذلك تفرغت للعمل الأكاديمي في جامعة بيرزيت وحتّى الآن.

أنجزت ما يزيد على عشرين مؤلّفًا ما بين رواياتٍ ودواوين شعريّة وقصصٍ قصيرةٍ وأبحاثٍ وترجمةٍ من اللغة الروسيّة إلى العربيّة، نشر نصفها كُتبًا.

تعرفت إلى سجون الاحتلال مبكّرًا، إمّا زائرةً لأبٍ أو خطيبٍ ثمَّ زوجٍ ثمّ ابنٍ وحتّى تعرفت إلى الإقامة فيها، ولو لفتراتٍ قصيرةٍ مثل المسكوبيّة وهشارون. هذه التجارب الغنية كانت - ولم تزل - زادها في الكتابة الأدبية والصحفية... وتقول إنّها تشرفت بالكتابة في الهدف أكثر من مرّة.

هذه مقابلةٌ مع امرأةٍ عاديةٍ كما تقول عن نفسها، وهي كذلك لأنها نموذجٌ معياريٌّ للمرأة الفلسطينيّة، في كفاحها السياسيّ والاجتماعيّ، إنّها امرأةٌ فلسطينيّةٌ عاديّة.. أصبحت رمزًا لأنّها كذلك.

* لا تكادُ الهجمةُ الصهيونيّةُ ضدّ الشعب الفلسطيني تتوقّف إلا لتستمر بعنفٍ أكبرَ وإجرامٍ أكثرَ تغوّلًا، وبشكلٍ خاص، وإن لم يكن استثنائيًّا، شهدنا مؤخّرًا تصاعدًا في وتيرة هذه الجرائم التي يقوم فيها جناحا الاحتلال؛ الجيش والمستوطنين بأدوارٍ محددةٍ ومتناغمةٍ ومتكاملةٍ، باعتبارك فلسطينيّةً منخرطةً في الفعل الكفاحي، كيف تصفين وتحللين هذه الهجمة؟ وما قراءتك لطبيعة هذا الصراع ومستقبله؟

** بدايةً أشكركم في الهدف على هذه الاستضافة، علمًا أنّني لا أقدّم نفسي محلّلةً، لكنني – باعتباري واحدةً من هذا الشعب، ومن جيلٍ نشأ وترعرع وعانى من ويلات الاحتلال، ومن هجماته العدوانيّة - أرى أنّ كلّ لحظةٍ تمرُّ تتصاعد فيها فاشيّة المحتل، ولم تمرّ لحظةٌ دون هذا التصعيد الذي يؤكّدُ دائمًا الطبيعة الإحلاليّة لهذا الصراع التناحري، ويؤكّد أن الاحتلال الذي هو أسوأ احتلال عرفه التاريخ والمؤرخون يهدفُ إلى القضاء على شعبنا وقضيتنا، واعتقدوا أن أوسلوا ومفرزاتها ستكون الأداة التي ستسهم في تقويض النضال الفلسطيني، لكن هذه الوصفة ثبت فشلها بالمطلق، وتصاعدت المقاومة، حيث لا يتوقعون، لذلك فقد الاحتلال أدواته للسيطرة، وأصبح يصعّد من هجماته وجنونه، متلقّيًا الضوءَ الأخضرَ من الإمبرياليّة العالميّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، وما يواكب ذلك من صمت وتواطؤ المنظومة الدولية وصعود الأحزاب الأكثر تطرّفًا وعدوانيّةً في البرلمان، ومن ثمَّ في تشكيلة حكومة الكيان، وبزعامة نتنياهو المستعد أن يحرق الأخضر واليابس كي يفلت من العقاب والمحاكمة على فساده.

لكن هذا المحتل كلما زادت غطرسته؛ فتح على نفسه أبواب جهنم، فالمقاومة الفلسطينية تتصاعد وأزمة الكيان الداخليّة تتفاقم. فلم يكن في أيّ يومٍ من الأيّام أكثر هشاشة وتفكّكًا مما هو عليه اليوم، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، وهذا، وإن طال الزمن، يبشّرُ بالخير بالنسبة لقضيتنا ونضال شعبنا.

 

* من فائض القول: إن نضال الفلسطينيات يتبع – كما هو مفترض- مسارًا جدليًّا بين النضال الوطني ضدّ الاحتلال، والنضال السياسي المجتمعي لانتزاع المزيد من الحقوق على طريق المساواة التامة كـ"حضورهن في تركيبة الخارطة السياسيّة الفلسطينية، الحق في العمل، رفع سن الحضانة، تحقيق العدالة في الأجور، وإقرار قانون حماية الأسرة".. من تجربتك الخاصة، وحضورك العام: كيف ينعكس هذا الجدل تحدّيًا مركّبًا على النساء الفلسطينيات؟ وهنا أين تضعين موقع العلاقة بين الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي في الحالة الفلسطينية؟

** كون المرأة الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من شعبنا ونضاله، فدورها لا يمكن أن ينفصل عن دور الشعب وحركته الوطنية والاجتماعية، ولعلنا لا نحتاج للتأكيد على أن تحرّر المرأة مقياسٌ لتحرّر الأمّة، وهذه قضيّةٌ متداخلةٌ لا أرى أنّها قضيّة المرأة وحدها، بل هي قضية المجتمع بأسره. ما نحتاجه هو ألا ينفصل نضال المرأة الوطني عن نضالها الاجتماعي، قد تحتاجُ إلى تكتيكاتٍ ضمن استراتيجيّة النضال، وإتقان الانتقال من الوطني إلى الاجتماعي والعكس صحيح، حسب مقتضيات كل مرحلة، وهنا لا بدَّ من العلاقة السلسة والنسيج المتقن لهذه العلاقة بين مكونات المجتمع المختلفة. بمعنى أنّ إقرار القانون أي قانون، لمصلحة المرأة هو مصلحة للرجل والطفل والأسرة ككل، المعركة واحدة لكلا الجنسين، وإذا فهم الطرفان هذه المعادلة، فإنّ هذا يؤدي بالتأكيد إلى تكامل الأدوار لا إلى التناقض والتنافر، سواء كان ذلك في معركة التحرر الوطني أو التحرر الاجتماعي.

* في افتراض حديث عن نظرية نسوية في الحالة الفلسطينية، على الأغلب ارتبطت أو تولدت عن النظرية الغربية الاستعمارية، عبر أدواتها المسماة مؤسسات المجتمع المدني الممولة من الخارج، التي غزت المجتمع الفلسطيني مع بدء الشروع في نهج التسوية مدريد - أوسلو، حيث أُخضع ترتيب أولويات برامج العمل النسوي الفلسطيني لتوجهات الممول الأوروبي، برأيك أين القصور الذي أصاب الحركة الوطنية على هذا الصعيد؟ وكيف يمكن للمرأة الفلسطينية أنّ تبني برنامجًا نضاليًا وطنيًا، ينطلق من تقدير لاحتياجاتها وهي من ترتّب أولوياته؟

** كان للمرأة الفلسطينية برنامجها النضالي الذي يعبر عن تطلعاتها عبر انخراطها ضمن فصائل العمل الوطني ومؤسساته، وكانت جزءًا لا يتجزّأ من الحركة الوطنية، وهذا أكدته وأكده دورها تاريخيًّا حتى الانتفاضة الكبرى عام 1987، ومع ظهور الأصوات المنادية بقطف ثمار الانتفاضة وخفوت وهج العمل الوطني وصولا إلى أوسلو، كانت هناك تدفّقات للمال الأجنبيّ الغربيّ وللنظريّات الغربيّة باعتبار النظريّات نفسها سلعةً يتحدّد بها هذا المال، وأصبحت المؤسّسات النسوية، وليس النسوية وحدها، بل ومؤسّسات اجتماعيّة وسياسيّة كثيرة "عمال، طفولة، حقوق إنسان... إلخ سوقًا مفتوحًا لكلّ ذلك.

من وجهة نظري، هذا المال المتدفّق كان المطلوب منه والدور المناط به هو قطع رأس الانتفاضة التي أصبحت مرعبةً للمحتلّ، ولكلّ المتساوقين معه، وهي أي الانتفاضة في الوقت نفسه قطعت الطريق على خطة التنمية الأردنيّة، كان هذا الموضوع مؤرّقًا جدًّا، وفي ذلك الوقت أي في مطلع تسعينات القرن الماضي، كتبت قصيدة تعبّر عن ذلك نشرتها في جريدة القدس ، تحذّر من هذا التمويل المشبوه منها هذا المقطع:

ادعموا الصومال إن شئتم ففيها

بالملايين تعدون الجياع

ادعموهم.. أطعموهم.. أنقذوهم من ضياع

وكأني بجواب من وراء الأفق يأتي

ليس في الصومال ما يدعى انتفاضة

فبماذا سنقايض جوعهم؟

عودًا على السؤال: كيف للمرأة أن تبني برنامجًا نضاليًّا؟ المرأة ليست وحدها في الميدان، السؤال الأهم هو الكل الفلسطيني رجالًا ونساء، مطالب ببناء البرنامج النضالي الوطني المشترك الذي من خلاله يمارس كل أشكال النضال، أن نتحرر جميعًا من حالة الانفلاش التي ورثنا إياها أوسلو، أوسلو هو نكبتنا الثانية، من خلال أوسلو بنينا " دولة الوهم" التي وقفت بين فصائل العمل الوطني وبين العمل الوطني نفسه، المؤمنون بأوسلو تجرعوا الوهم بجرعات كبيرة حتى تخدروا، والذين لم يؤمنوا بأوسلو "تشرنقوا" إما حول أنفسهم أو قريبًا من سلطات أوسلو. المطلوب من الكل الوطني أن يتصدى للاحتلال ولكل ملحقاته بما فيها السلطة التي تحولت إلى خادم مطيع للاحتلال ومشروعه.

علينا ألا ننسى أنّنا ما زلنا نعيش تحت الاحتلال، وكنس الاحتلال، هو أول أولوياتنا الوطنية والحزبية والاجتماعية، وما سوى ذلك هو محاولات لحرف البوصلة عن اتجاهها الطبيعي. البرامج المعدة في الغرب، التي تتلقّفها المؤسّسات النسويّة، وغير النسويّة كونها برامج ومشاريع مستقطبة للتمويل تنطوي على كثيرٍ من الخبث الذي يهدف لحرف النضال عن سياقه الطبيعي من أجل أن تنسينا أن هناك احتلالًا.

* أنجزتِ نحو 20 كتابًا ومخطوطة، تنوعت بين الشعر والأبحاث والترجمات.. ما هي المسؤولية التي تقع على عاتق المرأة الفلسطينية المثقفة تجاه المجتمع الفلسطيني عمومًا والنساء الأخريات على وجه الخصوص، وما هي الرسالة التي تحاولين إيصالها إلى القارئ عبر الكتابة؟

المثقّفُ هو ابن مجتمعه وابن بيئته ووطنه، وثقافته ينبغي أن تفيد هذا المجتمع وهذا الوطن بالدرجة الأولى، عليه أن يجسر الهوة بينه وبين أهله وناسه، وأن تقربه ثقافته منهم لا أن تبعده عنهم كما يحدث لدى بعض المثقفين الذين يبتعدون عن مجتمعاتهم بحجة أن مجتمعاتهم لا تفهمهم. مطلوب من المثقف أن يفهم مجتمعه وليس العكس. أما رسائلي التي أحاول إيصالها من خلال أعمالي ومن خلال حياتي وممارساتي اليومية، فأولاها ألا تعايش مع الاحتلال ولا أدواته وأفكاره، وأن الوطن لأهله وأهله فقط – وحدهم لا شريك لهم فيه- اعتدلت موازين القوى أو مالت، وهذه الفكرة تتطلب أناسا منفتحين على العالم وعلى الثقافات انفتاحا يحافظ على ثقافتهم وكينونتهم وهويتهم الوطنية والقومية والاجتماعية.

* جاءت روايتك «البيوت»، كأقرب ما يكون إلى سيرة روائية لتجربتك وتجربة أسرتك خلال فترة الاعتقال والإبعاد من قبل العدو الصهيوني، فهل لك أن تضعي القرَّاء في أبرز ملامح هذه التجربة؟

** تجربتي التي صغتها في هذه الرواية كان الهدف منها هو تسليط الضوء على الحاضنة الاجتماعية للنضال الوطني باعتبار هذه الحاضنة مكملًا رئيسيًّا، وتقوم بدورٍ تكامليٍّ مع هذه النضال. هذه الحاضنة وجدتها وأثرت فيَّ حين أُفرج عني من السجن بعد مدة اعتقال قصيرة في عزل سجن هشارون، وكان الإفراج مشروطًا بالحبس المنزلي في بيت غير بيتي ومنطقة غير منطقتي. وفوجئت أنني في بيت أناسٍ لم أكن أعرفهم أو يعرفونني من قبل وكان الأمر ثقيلًا جدًّا على نفسي قبل التجربة، لكن اللحظات الأولى لاستقبالي في ذلك البيت كانت كافية لتمسح عني كل ضيق، لما وجدته في هذه الأسرة الطيبة المضيافة من حبٍّ واحتضانٍ وكرمِ أخلاق، ليس من الأسرة الصغيرة فحسب، بل من العائلة الكبيرة الممتدة، وهذا السلوك ليس معي وحدي، بل معي ومع عائلتي وزواري من أصدقاء وأقارب وزملاء.

أقمت في المنزل أكثر من أسبوعين، كل يوم يمر تتعزز روابط الألفة والمحبة بيننا، كان هذا في وقتٍ كنّا نبحثُ عن شقة لنستأجرها تفي بالمواصفات التي فرضتها المحكمة، وكان أصحاب العقارات يخافون من تأجير الشقق حين يعرفون الغرض، فإما يرفضون مباشرة بحجة أو دونها، أو يطرحون شروطًا تعجيزية. لكن صديقًا لابن عمي منحنا شقةً يملكها في كفر عقب دون مقابلٍ مكثنا فيها شهرين.

من ناحيةٍ ثانيةٍ فقد وجدنا هذا الالتفاف الكبير حولنا من الأهل والأقارب والأصدقاء الذين كانوا عونًا لنا في محنتنا. لأجل كل هؤلاء الذين شكلوا حاضنةً كتبت هذه الرواية، وكنت أسابق الزمن والمرض وفقدان الذاكرة أو أي شيء يمكن أن يعيق إنجازها، فكتبتها خلال شهرٍ واحدٍ فقط.

* بعد اعتقال ابنك قسام، أحد أبطال عملية "عين بوبين"، وهدم منزلك قلتِ "كل البيوت التي تُهدم لا تساوي فردة حذاء ابني أو فردة حذاء أي مناضل فلسطيني"، كيف برأيك غدا المكان/المأوى/الأرض في السياق الفلسطيني عنوانًا للنضال والتحدي؟

** صحيحٌ أنّ إنساننا الفلسطيني يبقى رأسمالنا الأساس والأوّل، فما بالكم حين يكون هذا الإنسان ابنًا ومناضلًا. فقيمته دون شكٍّ تكون أعلى وأكبر. ومع ذلك فالمناضل يناضل من أجل الأرض إذن الأرض تستحق هذا الثمن. لن ندخل في جدلية من الأغلى الأرض أم الإنسان، فلا قيمة للأرض بدون صاحبها وحاميها، ولا قيمة للإنسان إن لم يدافع عن أرضه. فالقيمة لكليهما ليست قيمة مادية محضة، بل هي قيمة معنوية، إنسانية رمزية لا تنفصل عراها.

الشاعر السوفييتي رسول حمزاتوف قال جملة: وطني يبدأ من موقد بيتي. بمعنى أن البيت هو المكان الأكثر دفئا في الوطن وربما في كل الكرة الأرضية والموقد هو المكان الأكثر دفئا في البيت. بدون الدفء يشعر الإنسان بالبرد، والبيت بالنسبة للشعب هو الوطن، يعني أن البيت هو الوطن الصغير الذي هو جزءٌ لا يتجزّأ من الوطن الكبير، فلا يمكن للإنسان أن يكون آمنًا دون بيتٍ ولا يمكن للبيت أن يكون آمنًا إلا إذا كان محميًّا ضمن وطنٍ آمنٍ وحرّ. وهذه ليست مجرد نظرة أو نظرية، لكنها الحقيقة التي يدركها الفلسطيني أكثر من كل شعوب الأرض قاطبة.

عبارة سمعتها من زميل دراسة عراقي وأحب أن أرددها: من يخرج من الجغرافيا يخرج من التاريخ، وهنا يقصد الخارجين من الجغرافيا بمحض إرادتهم، فالبقاء في الجغرافيا والنضال من أجل العودة للجغرافيا شرط للبقاء في التاريخ. إذن؛ فالأرض، البيت، الملاذ، المأوى يظل عنوانا للتحدي والبقاء، وهو عنوان النضال الوطني.

* كانت تجربة قسام ورفاقه "سامر ووليد ويزن..." في التحقيق قاسية جدًا، حيث بدأت قبل اعتقاله من خلال إطلاق الكلاب البوليسية عليه في منزل العائلة، ومن ثم التعرض إلى شتى أنواع التعذيب المادي والمعنوي.. كأم وصاحبة تجربة اعتقال.. كيف واجهتِ هذه التجربة على قساوتها؟

** لن أتحدث عن الأمر برومانسية، ولن أقول: أنني لم أتأثر أو أنني أقوى من ذلك، أدرك تماما ويدرك ولداي وزوجي وكما أدرك آباؤنا من قبلنا أن الوطن يستحق من كل أبنائه وبناته أن يقدموا أقصى ما يمكن تقديمه، وأننا سنتحمل من أجله هذا العذاب حتى لو كان نهش الكلاب للحمنا. فلا يمكن أن نترك الكلاب التي نهشت لحمنا أن تنهش لحم الوطن هو وطننا نحن لا وطنهم. لحمنا مر على أنيابهم المفترسة. إيماننا العميق بعدالة قضيتنا وقداستها وبحقنا التاريخي في أرضنا لا يدع لنا مجالا لأن نضعف، ويجب أن نبقى أقوياء. ليس من حقنا أن نضعف، وخياراتنا محدودة جدا إما أن نواجه أو نواجه، هو ديّن يجب أن نسدده لمن سبقونا ولمن سيلحقون بنا. نضال شعبنا سلسلة متصلة من الحلقات، وكل فرد هو حلقة في السلسلة إذا انقطعت إحدى الحلقات قد تنقطع السلسلة ويجب ألا تنقطع. 

* "أعيدوا جامعة بيرزيت نبراسًا للحرية والنقاء.. أعيدوا جامعة بيرزيت قائدة للعمل الوطني.. أعيدوا جامعة بيرزيت جامعة للفقراء.. أعيدوا جامعة بيرزيت جامعة الكل..."، هذا ما سبق وكتبتِه؛ كأستاذة في جامعة بيرزيت وأكاديمية متخصصة في الإعلام، هل فعلًا الخوف على رسالة ودور الجامعة الوطني قائم؟ وكيف تقرأين محاولات السلطة الفلسطينية السيطرة على الجامعات الأهلية، خاصة تلك التي كان لها دور وطني ومجتمعي مشهود؟

** حقيقة الخوف موجود، واليد على القلب، الجامعة بهذا الإرث الحضاري والنضالي الكبير تتراجع يوما عن يوم، تتراجع عن دورها النضالي التاريخي، الجامعة تتجه وبخطى حثيثة نحو الالتحاق بالسوق، مرافقها تتجه نحو الخصخصة بعدما كانت جامعة الكل، نظرة إدارتها لحقوق العاملين فيها نظرة لامبالية، لا تختلف عن نظرة أي رب عمل، أصابع السلطة تتغلغل بشكل أو بآخر في ثنيا الجامعة دون أن تظهر إداراتها أي اعتراض أو ضيق، بدءا من صمتها على سلطة تأكل حصة الجامعات من موازنة التعليم وانتهاء بسعيها لكسر نقابة العاملين

مرورا بصمتها وارتجافها أمام الاعتقالات السياسية التي تمارسها أجهزة بلا أدنى رادع من أخلاق أو ضمير ضد الوطنيين من أبناء الجامعة وكأن ممارسات الاحتلال من اعتقالات وإعدامات وتضييقات وحواجز وهدم بيوت وممارسات وحشية لا أول لها ولا آخر. السلطة تسعى للاستحواذ على الجامعات ووضعها تحت عباءتها كي لا تخلق أجيال حرة تنتقد وتعارض مكونات السلطة بكل ما آلت إليه من تنازل وتخاذل وإسفاف بحق الوطن والمواطن.

* ثمة جيل جديد من الشابات الفلسطينيات اللواتي يكبرن اليوم أيضًا في ظل الاحتلال كما فعلت أنت، وربما تضيع الخرائط وتختلط الطرق، فالعنف الاحتلالي الاقتصادي والسياسي المحلي والمجتمعي يطالهن أيضًا، ما رسالتك إلى هؤلاء الشابات؟ وكيف ترين مكانتهن في مستقبل فلسطين؟

** تمر السنوات تلو السنوات ونرى أن الجيل الذي يأتي يزداد تمسكا عن الجيل الذي قبله، وهذا ليس من قبيل التفاؤل، بل من باب القراءة المنطقية للواقع، ففي بدايات الاحتلال والنكبة أنطلت على أجدادنا خدعة العودة بعد أسبوع وها نحن على عتبة العام الخامس والسبعين للنكبة و"لم ينته الأسبوع" الموعود، خيارات البحث عن بدائل الوطن انتهت كون الفلسطيني لم يجد بديلا لا في بلاد العرب ولا في بلاد الغرب، وأجهزت نتائج ما سموه "الثورات العربية" على ما تبقى من بريق سراب الهجرة، أما دول التطبيع العربي فقد كشفت عن أنيابها وخيانتها، وكذلك السلطة الفلسطينية، أكملت تقريبا ثلاثين عاما من التهافت والهرولة والانحدار نحو حضيض التطبيع والخيانة دون أن تحظى سوى بوصمة العار، وها هي أزمة الاحتلال وصراعاته الداخلية المتفاقمة أكثر حدة من أي وقت مضى.

وما يجري على الساحة الدولية من اصطفافات عالمية، وهذا التمحور ضد روسيا و إيران والصين والقوى الحليفة أو الأقرب لشعبنا، جعل الأجيال الشابة الفلسطينية ذكورا وإناثا ترى الخريطة بأوضح صورها وتجلياتها. تصعيد العدو لهجماته المستمرة خلق حالة مقاومة مستمرة على مستوى الجماعات ومستوى الأفراد. لدي الأمل كبير والتفاؤل بأن القادم أفضل وهذا يشعرني بنوع من الطمأنينة، المهم ألا يُضيّع شعبنا وقواه السياسية الفرصة.