Menu

رواياتٌ يهوديّةٌ مضادّة

الأرضُ في دائرةِ الصّراع: ماذا قالوا؟

د. وسام الفقعاوي

نشر في العدد (48) من مجلة الهدف الرقمية

"إنّ علّمَنة التوراة تمّت في موازاة تأميم الشتات. وجرى تحويل الأسطورة المُؤسِّسة حول نفي الشعب اليهوديّ على يدي الرومان إلى ذريعةٍ صلبةٍ للحقوق التاريخيّة في فلسطين، التي تحوّلت في الخطاب الصهيوني إلى أرض إسرائيل" (شلومو ساند: كيف لم أعد يهوديًّا؟).

أرضُ فلسطين: ماذا قال الغزاة؟

في الأدبيّات والدراسات الصهيونيّة بما فيها الكتابات الأدبيّة - إن لم تكن تلك في طليعتها - حيث عدَّها غسّان كنفاني في دراسته الرائدة "في الأدب الصهيوني" أنّها أسهمت بدورٍ كبيرٍ في استيلاد الحركة الصهيونيّة السياسيّة، من خلال "الحنين" إلى أرض الميعاد، وإعادة "البعث" فيها، وإنهاء "الدياسبورا/الشتات" بالعودة للموطن الأصلي الذي منحه "الرب" لشعبه المختار؛ بموازاة تصوير الأيديولوجيا الصهيونيّة أنّ البلاد (أي فلسطين)؛ قاحلةٌ وتغطّيها المستنقعات والصحراء، ومن يقيم بها؛ هم من عشائر البدو الرُحّل المُتخلّفين.

تساءلت وأجابت غولدا مائير في مذكراتها التي اختارت لها اسمًا ذا دلالةٍ تاريخيّة "بيت أبي" الصادر عام 1972: وهل ازدهرت الصحراء في إسرائيل ونحن في المنفى؟ وهل غطّت الأشجار جبال يهودا؟ لا.. إنّها صخور؛ صحراء؛ ملاريا؛ تراخوما. هكذا كانت البلادُ قبل أن نعود، وهي ذاتها التي تساءلت يومًا ما: من هم الفلسطينيون؟ ليجيب عليها الوزير الصهيوني بتسلئيل سموتريتش الجاهل في التاريخ مثلها، حتى ذلك التاريخ الذي يَدّعون أنّه تاريخٌ توراتيّ؛ زاعمًا: "إنه لا يوجد شعبٌ فلسطينيٌّ، وإنّ هذا ليس إلا اختراعًا عمره أقل من مائة عام".

وكان كتب المندوب السامي الصهيوني هربرت صموئيل عام 1925، أي قبل صدور مذكرات غولدا بما يزيد عن خمسين عامًا، وتصريحات "سموتريتش" في حدود قرن من الزمان، وكأنه يقدّم إجاباتٍ متقدّمةً تاريخيًّا على أسئلتها وتصريحاته المتأخّرة: "إنّ المستوطنين في كلّ أنحاء البلاد؛ يعملون في الأرض بتلهّفٍ وإيمان. إنّ المستنقعات والقفار تتحوّل إلى حدائق غنّاء. بلاد مُتخلفة تتحوّل إلى دولةٍ متطوّرة، وهؤلاء الناس الذين يقومون بهذه الأعمال جديرون بأن يُحوّلُوا العدو إلى صديق"[1].

وأما رئيس الفدراتسيا الصهيونيّة ليهود رومانيا، بعد أن قام عام 1926 بجولةٍ في سهل مرج بن عامر، كَتَبَ: "بين الحين والآخر تشاهد أشجار الصبار والنخيل تبرز الطابع الشرقي التقليدي إلى جانب أشجار الكينا، التي زرعها المستوطنون الجدد لتخفيف المستنقعات، وهي تبرز الطابع الجديد والمميّز"[2].

عند اندلاع حرب 1948 كان يوجد في فلسطين 293 مستوطنةً زراعيّةً يهوديّة: 117 موشاف و149 كيبوتس و29 مستوطنةً زراعيّةً أخرى. وبين عامي 1948 – 1949 تمت إقامة نحو170 مستوطنةً أخرى، وبحلول سنة 1950 كان عدد المستوطنات التي أُنشئت خلال السنوات الثلاث تلك يساوي عدد المستوطنات التي أُنشئت خلال الست والستين سنة السابقة (1882 – 1949)؛ فالنشاطُ الاستيطانيّ الزراعيّ كان جوهر المشروع الصهيوني، الذي قام على فكرة أن "تخليص الأرض"؛ يتطلّب إسكانها بتجمّعاتٍ من "اليهود الذين يُخرجون الخبز من الأرض".

لقد كان هناك عددٌ من العوامل المهمّة في برنامج الاستيطان الصهيوني، أوّلها: تَشبُّع طلائع المستوطنين القادمين بالرواية الصهيونيّة حول أرض الميعاد – مع ملاحظة أن معظم قادة الحركة الصهيونيّة الأوائل، إمّا ملحدون أو علمانيون، وجزء منهم قادم من مواقع اليسار -. ثانيها: المورد البشري، الذي تَنظَّم قدومه الممنهج من خلال موجات الهجرة المتتالية، من أغلب دول أوروبا قبل سنة 1948. وثالثها: مورد الأرض، التي لم تكن متوفّرة؛ فمجموع ما استحوذ عليه اليهود الصهاينة لم يتجاوز 6%، قبل أن يستطيعون بالتطهير العرقي والمجازر والتهجير القسري الاستحواذ على معظمها.

في أوائل يونيو/حزيران 1948؛ اتّخذ تدمير القرى والمدن شكلَ مهمّةٍ سياسيّةٍ ممنهجة؛ تهدف إلى منع الفلسطينيين من العودة إلى أراضيهم وبيوتهم، حيث كان حسب قادة الحركة الصهيونية الذين أوكلوا المهمة إلى الصندوق القومي اليهودي والوكالة اليهودية، أن تدمير هذه القرى والمدن؛ مفتاح منع العودة إليها، فإلى جانب فلاحة الأرض المُهجّر أهلها، وإقامة المستوطنات اليهوديّة؛ كان من المفروض أن يضمن ذلك تحويل "الشتات العجيب" إلى "ترانسفير ارتجاعي"، أي بأثرٍ رجعي.

لقد حاولت الحركة الصهيونية، ومنذ بواكير بدايتها في القرن التاسع عشر على الأقل؛ محاولة نفي الوجود الفلسطيني من خلال نفي حقه في الأرض، التي غدت "أرض الميعاد" لشعب الله المختار، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ صوّرت الأرض بأنّها قاحلةٌ ومتصحّرةٌ ومستنقعاتٌ متناثرة، وفي مرحلةٍ أخرى بأن "سكانها" هم من البدو العرب الرُحّل، الذين لا مكان لهم أو مأوى، ومتخلّفين أيضًا. فهذه الثلاثية؛ تتطلب أن تستند إلى أيديولوجيا يهوديّة ترمي إلى "استعادة الأرض" لأصحابها المُبشّرين بها من ربّهم "يهوه"، ومن ثمَّ "الاستعادة" حولّتها إلى أرضٍ مخضرّةٍ ومزدهرة، ومن ثَمَّ فإنّ "شعبها" الذي استعادها هو نموذجٌ لِخُلاصة الحضارة الغربيّة في الشرق المتخلّف!

اختراعُ الشعب اليهودي: مَن أين جاءوا؟

بالتزامن مع ظهور مفهوم القوميّة في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر؛ أخذت تلك الأيديولوجيا والهُويّة الفوقيّة الجمعيّة التي احتضنت وصهرت جميع الثقافات في العصر الحديث؛ تستخدمان مصطلح "شعب" في تناول الوجود الاجتماعي القائم في حيّزٍ جغرافيٍّ محدّد، وله ملامحُ وسماتٌ وخصائصُ تشير إلى قواعدَ وسلوكيّاتٍ ثقافيّةٍ دنيويّةٍ مشتركة/متجانسة (لهجة/لجهات لغوية متقاربة، نشاط اقتصادي موحد، مأكولات وملابس وعادات، ألحان موسيقية شعبية متوارثة...)، أي شبكة العلاقات التي تربط الشكل الذي يوجد عليه هذا الشعب، والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، عبر إقليمهم (الجغرافيا) الذي يقطنونه وينتمون إليه ويتمتعون بجنسيته، وبذلك يقترب مفهوم الشعب من مفهوم الأمة؛ غير أن الذي يميز مفهوم الأمة هو أنّها تَصَوُّرٌ يتضمن فكرة الاجتماع السياسي أو الدولة، أي في إطار جدلية الدولة/الأمة.

يعدُّ شلومو ساند، في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، صاحب الثلاثيّة التي اكتملت بكتابيه الآخرين: "اختراع أرض إسرائيل" و "كيف لم أعدْ يهوديًّا؟"، بأن كِتاب: "تاريخ اليهود في العصور القديمة وحتى أيامنا" للمؤلّف هاينريخ غريتس المولود في بولندا، وتُرجم إلى العبرية في مرحلةٍ مبكرةٍ نسبيًّا، منذ بدأت أجزاؤه الأولى بالصدور في خمسينات القرن التاسع عشر، وكان له حضورٌ مكثّفٌ وواضحٌ في أغلب كُتب التاريخ العامة التي تبحثُ في تاريخ اليهود، التي نادرًا ما تخلو من ذكر أو إشارة لِكتاب "غريتس" وصاحبه؛ "يشكل أول مُؤلَّف بُذل فيه جهدٌ بانفعال وتناغم لاختراع الشعب اليهودي، بينما أضحى مصطلح شعب، يتضمن جزئيًّا المُعطى الصريح للأمة العصريّة.

وعلى الرغم من أن غريتس لم يكن صهيونيًّا تمامًا على الإطلاق، إلا أنّه كان بالذات، وبلا منازع؛ الشخص الذي صاغ النماذج القوميّة لكتابة تاريخ اليهود. لقد نجح غريتس ببراعةٍ فائقة ... في حبك الرواية الوحدويّة، التي قلَّصت بدورها إشكاليّة التعدديّة، وأنتجت تاريخًا متعاقبًا ومتسلسلًا؛ حافظ دائمًا على وحدته على الرغم مما اعتراه من تشعّب"[3].

وبهذا حسب "ساند" أيضًا، كفت اليهوديّة من وجهة نظر الكثيرين عن كونها حضارةً دينيّةً متنوّعةً وغنيّة؛ نجحت في البقاء في ظلّ حضاراتٍ أعظم منها، لكنّها تحوّلت إلى شعبٍ عرقيٍّ عريقٍ اقتُلع من وطنه في أرض كنعان، ووصل بإرادته إلى أرض وارسو وكييف وبرلين ولندن وغيرها!

وهكذا؛ فإنّ الميثة (الأساطير) المسيحيّة الشائعة عن اليهوديّ الخاطئ، والمُرتحل التي نُسجت لتتحوّل إلى ركيزةٍ صلبةٍ لليهوديّة الحاخاميّة في القرون الأولى للميلاد؛ وَجَدَت مؤرّخًا شَرَعَ بترجمتها إلى روايةٍ يهوديّةٍ ما قبل قوميّة. وهنا من أجل تصميم نموذجٍ جديدٍ للزمن؛ كان لا بدَّ من هدم النموذج القديم، من أجل الشروع في بناء أمةٍ على أسس رفض الكتابات التي نفت ذلك تمامًا.

لكن واجهت "دولة إسرائيل" الناشئة والقائمة على تجميع أبناء الجاليات اليهوديّة من سائر أنحاء أوروبا والعالم، في سنواتها الأولى "المشكلة الملحّة المتمثّلة في صنع شعبٍ وأمّةٍ جديدة"[4]، بعد أن بدأت في صنع عملية الصهر الثقافي من بوّابة تعليم ما عرف بالتاريخ "العضويّ للشعب اليهوديّ"، من خلال تدريس التناخ وحتى الهالاخاة في مستويات التعليم الرسمي كافة، لكن مع ظهور الوضعية العلمية، لم يعد ذلك "التاريخ" قادرًا على الصمود، خاصةً بعد انتشار علم الوراثة، الذي أثبت كما علم الآثار أنّ ما سمّي "بالشعب اليهودي"، وما يجمعه من خصائصَ ومشتركاتٍ مميّزةٍ وموحّدةٍ لا يصمدُ أمام العلم والتاريخ معًا؛ فكان لا بدَّ من التأسيس لذلك بفكرة نقاء العرق اليهودي، بمعنى أن التأسيس لفكرة الشعب تنطلق أساسًا من قاعدةٍ عرقيّة/إثنيّة، وهنا يقول ساند: "في دولةٍ تُعرّف نفسها دولةً يهوديّة، وفي الوقت الذي لا توجد فيه أية علاماتٍ فارقةٍ تميّز الوجود اليهودي العلماني على الصعيد العالمي، فإنّ الهُويّة الجماعيّة ما انفكت تحتاج إلى تصوّرٍ ضبابيٍّ واعد؛ حول تاريخ أصل بيولوجيٍّ قديمٍ ومشترك. فخلف كلّ فعلٍ رسميٍّ في سياسة الهُويّات في إسرائيل ما زالت تقبعُ حتى الآن، ماردًا طويلًا أسود؛ فكرة الشعب العرقي الخالد"[5]

لكن بقيت وستبقى المعضلة التي واجهت الصهاينة وستواجههم دومًا؛ هي أن يثبتوا بأنهم متحدّرون من العبرانيين القدامى، وهو زعمٌ لا يصمد أمام حقائق التاريخ والعلم وبشكلٍ قاطعٍ يحسمُ شلومو ساند المسألة بقوله: "فاليهوديّة، مثل المسيحيّة والإسلام، كانت على الدوام حضارةً دينيّةً مهمّةً وليست ثقافة - شعبيّة قوميّة. إنّ الذي وحّد اليهود على مرّ التاريخ هو مكوّناتٌ عقائديّةٌ قويّةٌ وممارسة طقوس غارقة في القدم. ولكن مثلما نعلم جميعًا لا موطن للإيمان، وخلافًا لذلك، فإنّ الشعوب ينبغي لها وطن. لذلك اضطرّت الصهيونيّة إلى تأميم الديانة اليهوديّة، وتحويل الجماعات اليهوديّة إلى سيرة شعب إثني"[6].

غنيٌّ عن القول هنا، إنّ الصهيونيّة العلمانيّة، منذ تأسيس "إسرائيل"، يواجهها سؤالٌ أساسي، لم تستطع الإجابة عنه حتى اليوم، ولا حتّى مؤيّدوها الذين لم يألوا جهدًا في محاولة الإجابة عن سؤال: من هو اليهودي؟

فكل ركام الأبحاث التي أنتجوها، كانت تضعهم أمام السؤال من جديد، حتى اختلاق التعريف لجهة الأم اليهوديّة، لم يضع حلًّا للمعضلة، ولن يضعها أبدًا!

اختلاقُ إسرائيل القديمة: كيف نُحرّر التاريخ الفلسطيني؟

إنّ استملاك الماضي هو جزءٌ من سياسة الحاضر، لذلك فإنّ أحد العوامل المهمّة في البحث عمّا يسمّى "تاريخ إسرائيل القديم"، وإن كان غير مصرّحٍ به؛ هو أنّ كتابة التاريخ عملٌ سياسي، حيث أن المواقف والآراء السياسيّة تحدّد برنامج البحث، وتؤثّر بشكلٍ قويٍّ في نتائج الأبحاث، وهذا البرنامج بدوره؛ يؤدّي إلى كتابة "نصوصٍ تاريخيّةٍ منحازة"، وهذا أكثر ما ينطبق على ما سمّي بالدراسات التوراتيّة التي ركّزت؛ بل إنّها اختلقت كيانًا هو "إسرائيل القديمة"، في تجاهلٍ تامٍّ للتاريخ الفلسطينيّ بشكله المتواصل والمتكامل، حيثُ يؤكّدُ كيث وايتلام بأنّ اتّجاهات البحث عند الأوربيّين قبل سنة 1948، وفيما بعد ذلك؛ اهتمّت بالبحث عن جذور الدولة القوميّة في التاريخ التوراتيّ، ومنذ إنشاء دولة إسرائيل الحديثة؛ أُعيد فرض ذلك في خطاب الدراسات التوراتيّة عند الإسرائيليين التي اهتمت وشغلت نفسها بالبحث عن جذورها في تاريخ إسرائيل القديم، كما يوضح ذلك بجلاء مشروع المساداة[7]. وهنا يؤكّد شلومو ساند، أنّ التحويل الفعلي الذي جرى لـ"أرض إسرائيل" اللاهوتية؛ وبروزها مصطلحًا جيو – سياسيًّا واضحًا؛ كان في بداية القرن العشرين فقط، بعد أن مكثت لأعوامٍ في المُطهر البروتستانتي. وقد أخذت الصهيونيّة الاستيطانيّة هذا الاسم من التقليد الرباني، من بين جملة أمورٍ أخرى، من أجل محو بلستينا (فلسطين) التي كانت مقبولة، وبالطبع في أوروبا كلّها، بل في وسط جميع القادة الصهاينة؛ أبناء الجيل الأول، ووسمته باسمٍ خاص للحيّز في لغة المستوطنين الجدد؟[8].

في ضوء ذلك ستكون المهمة الكبيرة، هي تحرير التاريخ الفلسطيني، بشكلٍ كاملٍ من كلّ ما سمّي بالدراسات التوراتيّة، بما في ذلك محاولات البعض "لطباعة" التوراة نفسها في أماكنَ عربيّةٍ أخرى، مثل القول إن: التوارة عسيرية أو يمنية، في محاولة لتأكيد عدم وجودها (تاريخها) في فلسطين، وأنه مرتبطٌ بمكان (تاريخ) آخر؛ لأنّ ذلك من حيث يعون هؤلاء أم لا؛ ينطلق من قاعدة تصديق الرواية التوراتيّة، بما ينفي اختلاقها من الأساس؛ لدواعي سياسيّة – استعماريّة إمبرياليّة بحتة، أسهمت به ما سمّي بالدراسات التوراتيّة، من خلال الإسهام في خلق تصوّرٍ عن الماضي؛ أنكر أي مطالباتٍ أخرى به، حيث نجحت "إسرائيل" أو الإمبراطوريّة المتخيّلة والمُختلقة في ذلك، وهذا ما نجد تأكيدًا له عند "وايتلام" عندما يذهبُ إلى أن "الخطاب المهيمن للدراسات التوراتية؛ متورّطٌ في عملية تجريد الفلسطينيين من ماضيهم وأرضهم، بتكراره المستمرّ عددًا من الادّعاءات التي تربط الماضي بالحاضر"[9] التي منها امتلاك الأرض ملكيّةً مطلقةً باختلاقٍ تاريخيٍّ مُطلق.

لكن كلّ هذه الادّعاءات لم تصمد أمام كلّ عمليّات البحث الآثاري (الآركيولوجي) التي بدأت بالتنقيب في أرض فلسطين منذ أواخر القرن الثامن عشر. وعليه؛ فالمطلوبُ كما يدعو "وايتلام" نفسه: تحرير التاريخ الفلسطيني خصوصًا، والعربيّ عمومًا، من ثقل إثبات صحّة "تاريخ" خلقته حركة الاستعمار الإمبريالي لتحقيق أهدافٍ سياسيّة؛ ما يزالُ مستمرًّا بقوّة دفعها من جهة، وقصور خوض معركة التحرير المطلوبة من جهةٍ أخرى. 

التاريخ والدين اليهودي: ثِقلُ مَنْ على مَن؟

حسب الدارج فيما سمّي بالدراسات التوراتيّة؛ فعادة ما يُقسَم التاريخ اليهودي إلى أربع فتراتٍ كبرى، الأولى منه تعرف بالفترة التوراتيّة التي كُتبت خلالها معظم التوراة اليهوديّة (وهي العهد القديم في التراث المسيحي)، واستمرّت هذه الفترة – رغم عدم وضوح بدايتها - حتّى نحو القرن الخامس قبل الميلاد، وفي هذه الفترة الزمنيّة لم توجد اليهوديّة على الأقلّ بصفاتها الكبيرة. فيما بدأت المرحلة الثانية المسمّاة عادةً بفترة "الهيكل الثاني" في القرن الخامس قبل الميلاد، واستمرّت حتّى دماره على يد الرومان 70 بعد الميلاد، وهذه الفترة كانت التكوينيّة لليهوديّة بصفاتها اللاحقة، حيث - حسب زعم هذه الدراسات - في هذه الفترة ظهر مصطلح "اليهود"؛ دالًّا على أولئك الناس الذين اتّبعوا الدين اليهودي، والاسم "يهودا" دالًّا على الأرض التي عاش فيها اليهود. وقرب نهاية هذه الفترة بعدما غزا اليهود معظم فلسطين؛ تبنى الرومان مصطلح "يهودا" في وصف فلسطين. ومن ثَمَّ يُؤَرَخ للفترة الثالثة عام 70 بعد الميلاد، أي ما يسمى بدمار الهيكل الثاني، بينما يؤرخها آخرون عام 135 بعد الميلاد، حينما انتهى آخر أكبر تمرّدٍ يهوديٍّ ضدّ الإمبراطوريّة الرومانيّة. فيما يعدون أن الفترة الرابعة والحديثة من "التاريخ اليهودي" هي التي نعيشها، وبدأت مع "العودة" إلى فلسطين وإقامة دولة إسرائيل/يهودا.

في سياق الرد على الانتقادات التي وجّهت إلى كتابه الأوّل "اختراع الشعب اليهودي"، التي ادّعت في جانب منها، بأنه فشلٌ في فصل العلاقة بين "أرض الآباء" والتجربة اليهوديّة، كما ذهب المؤرّخ البريطاني المتصهين سايمون شاما، وفي جانبٍ آخر؛ ادّعت أنّ في نيته تقويض "الحق التاريخي لليهود في وطنهم القديم: أرض إسرائيل"؛ يقول شلومو ساند مؤلف الكتاب، إنّه فوجئ كثيرًا بهذا النقد؛ إذ لم يفكر بالمطلق أنّ الكِتاب يُقوِّض هذا الحق؛ لعدم وجود اعتقادٍ لديه على الإطلاق بأنّ لليهود حقًّا تاريخيًّا في فلسطين. وهذا بدوره ما جعله يعكف عدة أعوام على دراسة التاريخ؛ بهدف استكمال الحلقة التي بدأها على طريق نفي ميثة (أسطورة) الشعب اليهودي، من خلال كتاب يفكك فيه ميثة (أسطورة) اختراع "أرض إسرائيل" حيّزًا إقليميًّا للشعب اليهودي، من خلال الكشف عن تدحرج هذا الاختراع في الهستوريوغرافيا (التصور التاريخي) الصهيونية والممارسات الاستيطانية الصهيونية منذ بدء شحن المشروع الصهيوني الحديث (1897) بغايات استيطان فلسطين، ومن ثَمَّ تفنيد الأسطورة القائلة إنّ "أرض إسرائيل" كانت دائمًا مُلكًا "للشعب اليهودي"؛ بوعد من الله/الرب[10].

يؤكّد "ساند" أنّه بعد عمليّةِ تدقيقٍ وبحثٍ وتنقيبٍ في التناخ، وفي الأدبيّات اليهوديّة القديمة؛ تبيّن له بعدم وجود "أرض إسرائيل" فيها، مؤكّدًا أنّ كلمة "وطن" تظهر تسع عشرة مرّةً في جميع أسفار التناخ ونصفها في سفر التكوين، لكن المصطلح يتعلّق بمسقط الرأس أو المكان الذي يدلّ على أصل عائلة، لا بإقليم جيو – سياسي، مثلما كانت لدى اليونان أو الرومان. ليس هذا فحسب، بل أكّد أيضًا إلى أنّ "الديانة اليهوديّة – نسبة إلى يهوه"، لم تنمُ في أرض كنعان، وأن نشوء التوحيد حدث خارج "أرض الميعاد" ليصل إلى قوله الفصل، بعدم اعتقاده أنّه في أي وقتٍ مضى وُجد شعب يهودي نُفي. إن فلسطين التي تسمى بهذا الاسم حتى في الديانة اليهوديّة ذاتها، التي لم تكن أرضًا يهوديّةً يومًا؛ لم تكن في ذهن أتباع هذه الديانة حتى مطلع القرن التاسع عشر مكانًا لدولةٍ علمانيّة، بل كانت تعدُّ بالنسبة لأجيالٍ متعاقبةٍ من اليهود بصفتها مكانًا مقدّسًا[11]، إلى أن جعلت الصهيونيّة؛ اليهوديّة علمانيّة وقوميّة. "ومن أجل أن يحقّق المفكّرون الصهاينة مشروعهم؛ طالبوا بالأرض التوراتيّة واستحضروها، أو بالأحرى اخترعوها مهدًا لحركتهم القوميّة. وبحسب رؤيتهم؛ أصبحت فلسطين بلدًا يحتلّه غرباء ويجب استرداده. وصفة الغرباء هنا تعني كلّ من لم يكن يهوديًّا وعاش في فلسطين منذ الحقبة الرومانيّة"[12]. لذلك؛ فإنّ حلم الأيديولوجيّة اليهوديّة التي تتبنّاها "دولة إسرائيل"، هي أرضٌ مستعادةٌ بالكامل لا يملك فيها أو يعمل فيها أي أحدٍ من غير اليهود، وذلك يعود بحسب "إسرائيل شاحاك" إلى أنّ "إسرائيل" تنشر بين مواطنيها اليهود أيديولوجيّةً قصريّةً استبعاديّةً عن استعادة الأرض، وهدفها الرسمي هو التقليل من عددٍ غير اليهود (الأغيار – الغرباء)، وهو ليس الفلسطيني فحسب، بل كل من هو غير يهودي، وبناءً على ذلك، فإنّ الأرض التي استُعيدت حتى الآن، هي التي انتقلت من ملكيّةٍ غير اليهود إلى الملكيّة اليهوديّة[13]، حيث تغدو الأرض غير المستعادة، بحسب هذه الأيديولوجيّة الاستبعاديّة أرضًا محتلّة؛ يجب استعادتها، واستعادة كامل الأرض لا تتم إلا بالطرد أو الترحيل أو التطهير العرقي للسكان الأصلانيين، حسب تعريف إيلان بابه، وهنا بالضبط يكون ثِقل التاريخ والدين اليهودي واقعًا على أصحابه أكثر من غيرهم، حيث يؤكّد "شاحاك" ذلك بقوله: "إنّ الخطر الرئيسي الذي تشكّله إسرائيل - دولةً يهوديّةً - لشعبها ذاته ولليهود الآخرين ولجيرانها، هو سعيها بدوافعَ أيديولوجيّةٍ للتوسّع الإقليميّ وسلسلة الحروب الحتمية الناتجة عن هذا الهدف، وكلما أصبحت إسرائيلُ يهوديةً أكثر، أو كما يقولون بالعبرية: عادت أكثر يهوديّة - وهي العملية الجارية في إسرائيل منذ 1967 على الأقل - كلما أصبحت سياساتها الفعلية موجّهةً باعتباراتٍ أيديولوجيّةٍ يهوديّةٍ وأصبحت سياسات أقلّ عقلانيّة"[14].

طبعًا يوضح "شاحاك" أنّه لا يقصد من استخدام مصطلح "عقلاني" الإشارة إلى تقييمٍ أخلاقيٍّ للسياسات الإسرائيليّة أو احتياجاتها الأمنيّة والدفاعيّة المزعومة، بل إلى السياسات الإمبرياليّة الإسرائيليّة القائمة على مصالحها المُفترضة؛ فالتحليلُ الدقيقُ للاستراتيجيّات الإسرائيليّة الكبرى ومبادئ سياستها الفعليّة ومحدداتها يُظهر أنّ الأيديولوجيّة اليهوديّة هي أكثر من أي عاملٍ آخر، المحدد الرئيس لها.

المشهد المقدّس... يكتمل بالتطهير العرقي، وطمس الأرض!

عن سابق إصرارٍ وترصّدٍ تمَّ تدميرُ المشهد العربيّ الفلسطيني، على أيدي الغزاة الجدد؛ رافعي لواء "الكتاب المقدس"، الذي لا يمكن أن يتكرّس إلا بمشهد التدمير المقدّس للأرض وقتل أصحابها الأصلانيين قسرًا وطردهم بأوامر من الرب (يهوه)؛ رب الشعب المختار وأرض الميعاد، لذلك يجب أن يتغيّر كلُّ شيء: الخرائط والآثار وأسماء المدن والبلدات والقرى والخِرب والجبال والسهول والهضاب والجداول والأشجار والطرق... وبالحرب الدائمة على "الغوييم/الأغيار"؛ فهكذا يكتمل مشهد "أرض إسرائيل" أو المشهد المقدّس؛ فيومًا صرخ بن غوريون بجنوده "الحرب ستعطينا الأرض"، ورسم وجنوده (جنود الرب) الخطط الكفيلة بذلك، حيث "لم تختلف عمليات التطهير في النصف الثاني من أيار/مايو 1948 عما كانت عليه في نيسان/أبريل والنصف الأول من أيار/مايو. بكلماتٍ أخرى: لم يتأثّر الطرد الجماعيّ بانتهاء الانتداب، إنّما استمرَّ بلا توقّف. حدث تطهيرٌ عرقيٌّ في اليوم السابق لـ 15 أيار/مايو 1948، وحدثت عملياتٌ تطهيرٍ عرقيٍّ مماثلةٌ في اليوم التالي له. وكان لدى إسرائيل قوات كافية للتعامل مع الجيوش العربية، وللاستمرار في عملية تطهير البلد في الوقت نفسه"[15]. هنا تسقط كذبة أنّ الفلسطينيين تركوا مدنهم وقراهم وبلداتهم (أرضهم) وهربوا طوعًا؛ فبحسب إيلان بابه، فإنها لم تكن سوى تلفيقٍ محض، كما جرى إلى جانبها تلفيق أسماء الأماكن العربيّة الفلسطينيّة؛ بأسماء "عبريّة" من خلال تشكيل لجنةٍ خاصّةٍ بذلك، أُطلق عليها اسم "لجنة التسميات"؛ بهدف رسم خارطةٍ عبريّةٍ بديلةٍ للخارطة العربية للمكان، التي سارت عملية تثبيت ركائزها جنبًا إلى جنب، مع تدمير جميع المؤشّرات الدالّة على أنّ القرى العربيّة المُهجورة كانت مأهولة[16].  

يسرد "بابه" واقعة تغيير اسم قرية صطاف الفلسطينية؛ الموجودة في واحدٍ من أجمل الأماكن في أعالي جبال القدس ، التي طُرد سكّانها ودمرت أغلبيتها عام 1948، وبعد قرار تحويلها من قبل الصندوق القومي اليهودي إلى موقعٍ سياحي، بحثت "لجنة التسميات الإسرائيليّة" عن ترابط المكان والتوراة، إلا إنّها فشلت في العثور على صلةٍ له بالمصادر اليهوديّة؛ فحاولت ربط كروم العنب المحيطة بالقرية، بالكروم المذكورة في المزامير التوراتيّة ونشيد الأنشاد؛ فابتدعت اسمًا من مبتكر خيالها (بكوراه – ثمار أوّل الصيف)، لكنّها تخلّت عنه بعد فترةٍ وجيزة؛ لأنّ الاسم الأصلي (صطاف) هو الذي استمرّ[17].

وأختمُ بما كتبه الشاعر محمود درويش في قصيدته "سقوط القمر":

من أين جاؤوا؟
وكرم اللوز سيّجه
أهلي وأهلك
بالأشواك والكبدِ!...

 

 

 


[1]. لمن ترسم الحدود، مجموعة من القصص العبرية الإسرائيلية، ترجمة: سليمان ناطور، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس، 1996، ص 8

[2]. المرجع نفسه: ص 8

[3]. شلومو ساند: اختراع الشعب اليهودي، ترجمة: سعيد عيّاش، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، رام الله، ط.2، 2013، ص 107

[4]. المرجع نفسه: ص 350

[5]. المرجع نفسه: ص 358

[6]. المرجع نفسه: ص 10

[7]. كيث وايتلام: اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني، ترجمة: سحر الهنيدي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت ، 1999، ص 51

(مساداة أو مسعادة كلمة آرامية تعني القلعة، وحسب الأساطير والخرافات اليهودية هي آخر قلعة سقطت في أيدي الرومان أثناء التمرد اليهودي ضد الإمبراطورية الرومانية، وحسب ادعائهم، فإنها تقع على أعلى قمة صخرية عند البحر الميت).

[8]. شلومو ساند: اختراع أرض إسرائيل، ترجمة: أنطوان شلحت وأسعد زعبي، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، رام الله، 2014، ص 47.

[9]. كيث وايتلام: اختلاق إسرائيل القديمة، مرجع سابق، ص 271

[10]. شلومو ساند: اختراع أرض إسرائيل، مرجع سابق، ص 12 – 13 

[11]. المرجع نفسه: ص 14

[12]. إيلان بابه: التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة: أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط.1، 2007، ص 19

[13]. إسرائيل شاحاك: التاريخ اليهودي والدين اليهودي ثقل ثلاثة آلاف عام، ترجمة: رزق أبو الكاس، مؤسسة ينابيع للإعلام، 2001، ص 11

[14]. المرجع نفسه: ص 12 – 13

[15]. إيلان بابه: التطهير العرقي في فلسطين، مرجع سابق، ص 142-143

[16]. ميرون بنفنيستي: المشهد المقدس: طمس تاريخ الأرض المقدسة منذ عام 1948، ترجمة: سامي مسلم، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، رام الله، ط.1، 2001، ص 69

[17]. إيلان بابه: التطهير العرقي في فلسطين، مرجع سابق، ص 261 - 262