Menu

نشر في العدد 49 من مجلة الهدف الإلكترونية

الفنّان، الفدائي، الاستثناء مارك رودين "جهاد منصور"

وليد عبد الرحيم

جهاد منصور.

روايتانِ سائدتانِ غير متفقتين تمامًا سوى من حيث العمومي، لا الخاص حول بداياتٍ انخراط المناضل الأممي "جهاد منصور" في انتمائه الأممي وعمله المباشر مع الجبهة الشعبيّة، الأولى من قسمين، الأوّل – وهو روايةُ أحد القادة الذين واكبوا ورافقوا الرجل وعرفوه عن قربٍ تقول إن البداية كانت منذ عام 1968، والثانية تفيد بأنه في بداية حزيران 1972 التقى ب غسان كنفاني ، وكان قد أصبح حينها ملاحقًا في أوروبا منذ عام 1968 دون أن تعرف مخابرات الغرب شكلًا له أو تقتفي أثره.

إثر عمليّة اللدّ أرسل الفرع الخارجي الذي يقوده وديع حداد طلبًا لوديع ورفاقه بضمّ مارك رودين مباشرةً لينخرط في عملٍ مستقلٍّ بعيدًا عن أفراد الفرع الخارجي ليبقى غير معروف، وذا شكل مبهم وبلا صورة معلنة. تشير الروايات إلى فترة ما بين 1970 و1971 حيث انتسب مارك رودين رسميًّا لمجموعة وديع حداد، وبقي في أتون العمل السري حتى عام 1975 وظهوره العلني في بيروت، حيث قيل إنّ الرجل الذي رسخ مقولة "وراء العدو في كل مكان" قد أدرك بأن شكوكًا قويةً باتت تحوم حول "مارك" في إيطاليا وسويسرا تحديدًا، وهو ما دفع بالطلب من الفدائي السويسري الانتقال إلى العمل العلني في بيروت، وقيل من قبل معاصرين لتلك الفترة بأنّ غسان كنفاني هو من أطلق الاسم الحركي عام 1971 "جهاد منصور" على مارك رودين، وأن المخابرات الإيطالية ظلت بعدها سنواتٍ تبحث عن فلسطينيٍّ منتمٍ لمجموعات وديع حداد يدعى الياس أو "جهاد منصور"!...

الرواية الثانية تفيد بأن معرفته بوديع حداد تمّت بعد قدومه إلى بيروت، وليس في إيطاليا أو سويسرا، وبأنه لم يلتق بغسان كنفاني قط، فغسان استشهد عام 1972 في حين وصل مارك رودين بيروت في نهايات عام 1975 أثناء اندلاع الحرب الأهلية، وهي روايةٌ ضعيفةٌ وتعتمد المعلومات العامة بدليل أن "جهاد منصور" نعى غسان كنفاني بعبارة رفيقي غسان لحظة استشهاده وعلى الأرجح فقد شارك في تشييعه.

بوسعنا أن نكون أميَلَ للرواية الأولى لسببين، أولهما أنه من غير المنطقي أن يستقطب وديع المعروف بشخصيته الأمنية الدقيقة في اختيار معاونيه وخرطهم في بوتقة العمل الخارجي، وثانيهما أن اتّهامات في سويسرا وإيطاليا والدنمارك فيما بعد طالت "جهاد" بالتعامل مع "إرهابيي الجبهة الشعبيّة" تشير زمنيًّا إلى ما قبل بداية السبعينات.

برع الفنان الفدائي بصناعة الجوازات لتسهيل تحرك المناضلين مستفيدًا من خبرته في الرسم، فكان أهم صانع جوازات سفر في الثورة الفلسطينيّة، كان يعمل بهدوءٍ وإخلاصٍ ودونما ادّعاء، ساعد في ذلك تهذيبه الشخصي العالي وعدم تأفّفه من ضغط العمل وخطورته كما يقرّ عارفوه، وكان الموساد قد أدرك بأنّ شخصًا ما يصنع جوازات السفر مرجّحًا أن يكون الشخص هو غسان كنفاني كونه فنانًا تشكيليًّا بدوره إلا أن الاستمرار على نفس الوتيرة في إنجاز الأعمال عقب استشهاد غسان خيّب تقديرات الموساد الذي لم يعلم من الفنان الذي كان يقوم بالعمل بهذه الدقة، وربّما لم يعلم حتى اليوم بذلك.

يرجح المطلعون بأن من سماه باسمه الحركي" جهاد منصور" هو غسان ذاته بحضور وديع حداد، وهو الاسم الذي عرف به طيلة حياته حتى أنه طغى على اسمه الحقيقي على الأقل في صفوف الفلسطينيين.

مجموعة "بليكنغ":

بناءً على قناعاتٍ إيديولوجيّةٍ ماركسيّةٍ ويساريّةٍ ثوريّةٍ تنامت بشكلٍ تلقائيٍّ وطبيعيٍّ في أوروبا مجموعات ثورية عالمية قرّرت رفد الثورات التحررية ودعمها في مختلف أنحاء العالم، وبمختلف الأشكال المتاحة، وقد وجدت ضالّتها فيما وجدت بالثورة الفلسطينيّة عقب منتصف الستينات وصعود الكفاح المسلّح وتبلوره على يد منظمة التحرير وفصائلها.

الفكرة الأساسية لدى ثوريي العالم كانت دعم حركات التحرّر في مواجهة الإمبرياليّة - وبالطبع من ربيبتها الصهيونيّة - من خلال فكرة وإيديولوجيّا الانعتاق وتحرّر البشرية من الاستغلال والاستعمار، وهو ما امتدّ من أمريكا اللاتينية وإفريقيا حتى فلسطين ومرابض الفدائيين في دول جوار فلسطين، كان هؤلاء الأفراد الأمميين مجرد ثوار حالمين بتغيير العالم أمام عالمٍ رسميٍّ يبحث في تحسين شروط الواقع الاستعماري واستغلال البشرية وسطوة الإمبريالية، لهذا وجدت هذه الشخصيات التي تتمتع بثقافةٍ وقناعاتٍ عالية الوتيرة ضالتها في الجبهة الشعبية، حيث الفكر اليساري الناضج وضوحًا، والعمليّات الشجاعة والثقافة الرفيعة التي يتمتّع بها أفرادها وقادتها، كما والجذرية الراديكاليّة الثورية، هذا الرفد اليساري العالمي انسحب بدوره على القوة الأخرى في الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، حيث سرعان ما انتشرت حركة فتح بدورها عدةً وعددًا، وهو ما شهدته تجربة الثوار في شرق الأردن، وفي الوقت ذاته سعت الإمبرياليّة العالميّة ليكون الأردن مربضًا للعملاء من خلال القوى والأنظمة المناهضة للعروبة والتحرّر والثورة، ومن ثَمَّ خلق بقعة مساندة لوجستية للكيان الإرهابي الصهيوني.

أمام الواقع الذي بات واضحًا آنذاك لثوريي العالم الذين استشعروا أهمية فلسطين وثورتها وفحواها، هبَّت الحمية الثورية لدى هؤلاء وقرروا في غير مكان المساهمة في النضال مع الجبهة الشعبية لا سيّما بعد أن استبدلت عنوان "حركة القوميين العرب" بـ" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "، ومن هذا المنطلق برزت رغبة أقوى من قبل مجموعات اليساريين الأوروبيين لرفد الشعبية بالإمكانات المتاحة لا سيما عقب العمليات الفدائية الشجاعة التي خاضتها الجبهة، ونشرت بذلك إعلاميًّا تفاصيل القضية ووقائعها عالميًّا.

... تشكّلت في الدنمارك مجموعاتٌ تطوعيّةٌ من قبل أوروبيين من بلدانٍ عدة، رأت بأن تحصيل الدعم المالي لرفد الثورة الفلسطينية من خزائن لصوص الإمبرياليّة عملٌ مشروعٌ أخلاقيًّا، وبحسب ثقافة "روبن هود" الشخصية الراسخة في الذاكرة والثقافة الأوروبيّة نموذجًا مساندًا للمظلومين، قرّرت مجموعةٌ من الشبان الثوريين الاستيلاء على ما أمكن من أموالٍ لدعم حركات التحرر العالمية، ومن ضمنها الجبهة الشعبية، هكذا ولدت مجموعة "بليكنغ" نسبة لاسم شارع في الدنمارك، فبدأت باقتحام مراكز مالية وبنوك وتحويل الأموال المُستولى عليها إلى مناطق العالم التي تثور ضدّ الإمبرياليّة، أحد المساهمين في ذلك كان السويسري الفنان والمثّقف الشاب مارك رودين أو إلياس أو قُلْ: "جهاد منصور".

الأرجح أنّ وديع حداد خشي على مارك رودين من الانكشاف والاعتقال في أوروبا، لهذا التقاه غسان كنفاني في مكانٍ ما "تضاربت الأنباء حول مكان اللقاء وتوقيته - الذي نتج عنه وصول وترتيب أمور مارك في بيروت، وشعر غسان بأنّ الفنان الثائر بحاجةٍ لاسمٍ حركيٍّ على عادة المقاومة الفدائية، فأصدر له وثائق باسم إلياس جهاد منصور ثم اكتفى بنفسه باسم جهاد منصور، الفنان الذي عرفه الفلسطينيون واحدًا من أمهر التشكيليين، وكان الاعتقاد السائد بأنه فلسطيني الأصل من عائلة منصور الموجودة في عدة مدن وقرى فلسطينية.

أنجز جهاد منصور بريشته أكثر من مئتي لوحة وملصق ثوري، وكثيرًا ما رأى أبناء ذلك الجيل ملصقات عمليّات فدائية وصور شهداء موقعة باسم "جهاد منصور" الذي أضحى ذا اسم معروف في صفوف الشعب الفلسطيني ورسوماته تنتشر بكثرةٍ على حيطان المخيمات، لا سيما بعد استشهاد رفيقه الفنان والأديب غسان كنفاني غيلةً، ولم ينقطع "جهاد" حتى لحظات حياته الأخيرة عن المساهمات المتكررة في العمليات الفدائية حتى بعد غروب ظاهرة عمليات وديع حداد، وكان سهل الحركة كونه أوروبي المولد سويسري الجنسية.

كان جهاد منصور بارعًا في صكّ جوازات السفر المزورة حتى قيل إنّ الأوروبيين لم يكتشفوا قط أية شخصيةٍ صنع لها جوازًا أوروبيًّا، وهو يدرب كل فدائي يمنحه الجواز والوثائق على طبيعة وتاريخ البلد الذي سيتوجه إليه، ما صعق جهود الموساد ومخابرات الدول الأوروبية.

سوريا وتركيا والاعتقال:

عقب الخروج من بيروت أمَّ جهاد دمشق وسكن في مخيم اليرموك، نادرًا ما صدق بسطاء الفلسطينيين بأن الرجل سويسري وليس فلسطينيًّا، وكان الهمس يجري بأن جهاد من قرية لوبية أو مدينة طبريا، خاصّة أنه كان يتحرك بسهولةٍ وبغير حذر، فيتمشى في شارع اليرموك ويشتري الزهور من محل أزهار الحسن الذي اشتهر بصنع أكاليل الشهداء لمختلف شهداء الفصائل، وضع بنفسه إكليلًا من الزهور دفع ثمنه بنفسه على ضريح خليل الوزير في مقبرة شهداء مخيم اليرموك الشهيرة، وكان يستحسن رفقة الشهيد أبي علي مصطفى ويزور الحكيم جورج حبش في فتراتٍ متقاربةٍ في مكتبه بدمشق، وعندما اعتقل الحكيم في فرنسا طالب جهاد قيادة الشعبية بالقيام بعملية كبرى لخطف رئيس أوروبي أو شخصية كبرى عالمية لمبادلتها بالحكيم، إلا أن تسوية سياسية وخشية أوروبية أدّت لإطلاق جورج حبش من فرنسا.

في بداية التسعينات غادر جهاد نحو تركيا، فانكشف واعتقل هناك لشهور طويلة ثم تمَّ تسليمه للدنمارك التي لم تكن قد توصلت للمناضل الغامض بعد، فرفاقه الستة المعتقلون هناك "مجموعة بليكنغ" لم يعترفوا على أي رفيق لهم، وخاضوا بصلابةٍ أسطوريةٍ صمودهم خلال التحقيق، وهو ما دفع المحقق ذاته ليكتب في مذكراته: توصلت إلى نتيجةٍ نالت إعجابي بهم، فلم يتخذ هؤلاء لهم أي شيء من المال الذي سلبوه، بل حولوه بالكامل لقوى اليسار التي يدعمونها، كما رفضوا الاعتراف على أي زميل لهم".

مكث جهاد ثماني سنوات ونيف في سجون الدنمارك، سأله المحقّق موضّحًا بأن تخفيف الحكم ممكن مع تصريح الندم إلا أن جهادًا خاطبه بكل ثقة: "لا لست نادمًا، شعبي الفلسطيني وثورتنا على حق، وإن عاد الزمان لفعلت نفس ما قمت به...".

ختامها:

آخرُ عمليةٍ نفّذتها مجموعة بليكنغ كانت في مكتب البريد في كوبنهاغن، في تشرين الثاني- نوفمبر 1988، استولت خلالها على 14 مليون كرون، وقد قُتل خلال العملية ضابط شرطة دانماركي ببندقية صيد خلال المواجهة، وفي نيسان- أبريل 1989 اعتقلت الاستخبارات الدنماركية بمساعدة الموساد والمخابرات الأمريكية بعد بحث امتد لأكثر من ثلاثين عامًا أربعة من أعضاء المجموعة داخل شقة في شارع "بليكينغ"، حيث ضبطت أسلحةً مختلفةً ووثائق عن عمليات سابقة..

حوكمت المجموعة المكونة من سبعة أفراد في العام 1989 بتهمة قتل الضابط الدنماركي والسطو على البنوك لإرسال الأموال إلى حركات التحرر في بلدان العالم الثالث ومنها الجبهة الشعبية.

في بدايات 2014 صدر كتاب أعده النمساوي "غابرييل كون" حول المناضلين من مجموعة "بليكينغ" حمل الكتاب عنوان: "تحويل المال إلى ثورة" يتضمن حوارين أجراهما المؤلف مع اثنين من مجموعة "بليكينغ"، قبل انكشافها أواخر الثمانينات.

عاش جهاد منصور حياته فدائيًّا فلسطينيًّا فنانًا حالمًا بالحرية وانعتاق الإنسانية، وظل متمسّكًا بكل ما آمن به منذ شبابه، وحتى اللحظة التي مرض وغادر كان يُرى في مدن سويسرا وأوروبا حاملًا علم فلسطين الطاهر وهاتفًا "فلسطين حرة" و"إسرائيل كيان إرهاب" ورحل يوم 8/4/2023 في سويسرا... وما زال الحلم مستمرًّا...