Menu

هل بدأت فعلًا الصحوة الأوربيّة؟!

محمد صوان

نشر هذا المقال في العدد 49 من مجلة الهدف الإلكترونية

لم يمكث الرئيس ماكرون العائد من بكين، بعد زيارة دولة دامت ثلاثة أيام في النصف الأول من نيسان 2023، أكثر من 24 ساعة في باريس، حتى انتقل إلى أمستردام بزيارة دولة أيضًا دامت يومين ألقى خلالها كلمةً حول "مستقبل أوروبا وعرض رؤيته" للسيادة والأمن الأوروبيين على الصعيدين الاقتصادي والصناعي وطرح الرئيس الفرنسي في النمسا "اعتماد خطة استثمارات في الصناعة الخضراء لأوروبا" ردًّا على خطّةٍ مماثلةٍ أطلقها الرئيس الأمريكي بايدن وأكد ماكرون:"لا نريد الاعتماد على الآخرين في القضايا الحرجة" وحدد مواضيع عدة منها:"الطاقة  والذكاء الاصطناعي  والشبكات الاجتماعية  والمجال الدفاعي".

يحاول ماكرون الاحتماء بأوروبا كي يبدّد ردود الفعل السلبيّة حول زيارته إلى الصين التي باتت موضع جدل.. لذلك لجأ إلى إثارة مسألة "الاستقلالية الاستراتيجية" فدعا الأوروبيين إلى "عدم الذيلية" للولايات المتحدة أو الصين بل أن يجسّدوا "قطبًا ثالثًا"!

ردود فعل متباينة:

تباينت ردود الفعل حول رفع ماكرون لنبرة الخطاب الأوروبي، فوصفها البعض بمحاولة "لتبرير الصفقة التي أنجزها في بكين" حين قدّم تنازلاتٍ سياسيّةً مقابل عقودٍ تجاريّةٍ، حيث كان التناقض صارخًا في بكين، ويمكن تلخيص الزيارة بأنها فاشلةٌ فيما يخصّ القضايا الدولية، وناجحة على المستوى الثنائي، من هنا ربط بعض المراقبين التنازلات التي قدّمها ماكرون بتطورات الوضع الداخلي الفرنسي في الآونة الأخيرة، وعدّ هؤلاء أن ماكرون خسر شعبيته الداخليّة وبدأ يتورّط أكثر فأكثر في مشاكل خارجية.

لقد وضع ماكرون أوكرانيا على رأس جدول الأعمال في الصين، وبالنسبة لمنتقديه يمكن اعتبار أوكرانيا موضوعًا مهمًّا لكن لا ينبغي أن تكون في مقدّمة جدول الأعمال لأنّه من غير الواقعي البحث عن حلٍّ لأوكرانيا في الصين، فهناك قناعةٌ بأنّ الرئيس الصيني شيبينغ لا يهتمّ بحلٍّ سياسيٍّ للصراع كما أنّه ليس مهتمًّا بدعم موسكو عسكريًّا كذلك!

يقول المدافعون عن زيارة ماكرون إلى بكين أنّ الرئيس الفرنسي حثّ نظيره الصيني على عدم تزويد موسكو بأسلحةٍ صينيّة - حسب ما أفاد دبلوماسي فرنسي – غير أن البيان الختامي للزيارة كان مخيّبًا لآمال الشركاء الغربيين؛ لأنّ الإشارة الوحيدة اليتيمة لأوكرانيا في البيان الصيني – الفرنسي المكوّن من 51 نقطة هي: "يدعم الطرفان جميع الجهود المبذولة لاستعادة السلام في أوكرانيا!" دون أي إجراءاتٍ عمليّةٍ ملموسة.

الثابت في الولايات المتّحدة وأوروبا هو أنّ الصين تدعم روسيا سياسيًّا ويصب هذا الدعم في مصلحة بكين حاليًّا إضافةً إلى أن بكين لم تجرّب أي مسعًى للوساطة ثمن موقف الحكومة الصينية المكوّن من 12 نقطة لا يقدم في الواقع أي اقتراحاتٍ ملموسةٍ لنجاح الحل السياسي، بالإضافة إلى موقف ماكرون الهش من الحرب الروسيّة – الأوكرانية هناك ثلاث قضايا مهمّة توقّف أمامها منتقدو الزيارة:

الأولى: العلاقات المتوتّرة بين الاتّحاد الأوروبي والصين فعلى الرغم من أنّ ماكرون اصطحب معه رئيسة المفوضيّة الأوربيّة أورسولا دير لاين فإنّهما لم يكونا على نفس الموقف، ولم يظهر ماكرون الحرص المطلوب في "ملفّي أوكرانيا والتباينات الاقتصاديّة" الأمر الذي دفع رئيسة المفوضيّة للإعلان خلال المؤتمر الصحفي المشترك بين المسؤولين الثلاثة عن أنّ الرئيس الصيني أبدى استعدادًا للاتصال بنظيره الأوكراني.

بالنسبة لبعض المراقبين، فإنّ ماكرون أدّى دور المحامي السيئ بينما أورسولا دير لاين أدى دور المحامي الجيد في بكين، مما أضعف "السردية الأوروبية للجبهة الموحدة".

الثانية: تتلخّص في تجنّب ماكرون موضوعًا خطيرًا يثير قلق أوروبا وفرنسا هو "العجز التجاري مع الصين" وهو ما تحدثت عنه صراحةً رئيسة المفوضيّة الأوربيّة، وأكدت عدم المساواة في الوصول إلى السوق الصينية؛ بسبب الحمائية وقالت:"لا توجد معاملة بالمثل في التجارة والاستثمار المتبادلين".

الثالثة: تتصل بموقف الحكومة الفرنسيّة المائع من الوضع في مضيق تايوان وكان لافتًا إعلان الإليزيه أن "الموضوع لم يتم تناوله إلا بمبادرة من بكين"الأمر الذي أثار دهشة الحلفاء الغربيين الذين يعدّون المضيق طريقًا تجاريًّا حيويًّا يتأثّر به الجميع بشكلٍ مباشر، ومن ضمنهم فرنسا حتى صحيفة لوفيغارو الفرنسية، عدّت موقف ماكرون خاطئًا؛ لأنه على حدّ وصفها "ليس في وسع الديمقراطيات الغربية تجاهل قضيّة استقلال تايوان عن الصين".

أراد ماكرون الإبقاء على خطٍّ إيجابيٍّ مع الصين غير أنّ الحياد لا يتوافق مع دولة مثل فرنسا التي تعدّ نفسها قوّةً رائدةً في أوروبا، وعضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي، وذات حضور مهمّ في المحيطين؛ الهادئ والهندي، وهنا لا يجوز لها أن تكون مترددةً في مواجهة القضية الأمنية في هذه المنطقة ألا وهي الاستقرار في مضيق تايوان.

في باريس يسود مناخ عام بأنّه لم يعد لدى الرئيس ما يفعله داخليًّا فهو لا يملك أكثريةً برلمانيّةً للحكم، وقد خلق عبر فرض "قانون التقاعد" أزمةً كبيرةً تنذر باضطراباتٍ واحتجاجاتٍ شعبيّةٍ متواصلة، خصوصًا أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تزداد تفاقمًا وسوءًا.

يعود سبب ربط تنازلات ماكرون في الصين بالأوضاع الداخلية بوجود أكثر من "50 فاعلية" من رجال الأعمال في الوفد الفرنسي المشارك بالمفاوضات حيث وقّعت باريس عددًا كبيرًا من الصفقات ومشاريع البناء الكبرى من ضمنها "محطات الطاقة النوويّة  محطّة تحلية المياه بيع المزيد من الطائرات ومستحضرات التجميل" ورأى مراقبون أن إحدى فوائد تلك الصفقات قد يكون تهدئة وامتصاص الغضب في الداخل حيث يفترض أن تخلق المزيد من فرص العمل.

أوروبا تعيد صياغة نفسها:

إنّ فكرة "الاستقلال الاستراتيجيّ" التي جاءت في حوار ماكرون مع نظيره الصيني شيبينغ ليست جديدة، فقد سبق له أن اقترحها عام 2017، وقوبلت في البداية بتحفّظٍ كبيرٍ في أوروبا، ولا سيما أنّ بعض دولها – آنذاك – كانت تفتقد للاهتمام بقضايا الدفاع لكن أزمة كوفيد 19 والحرب الروسيّة – الأوكرانيّة غيّرتا الكثير من قواعد اللعبة، وكشفتا طبيعة التهديدات التي تواجه القارة الأوربية، فكان لزامًا على دول القارة أن تعيد النظر في الاستمرار بالاعتماد على "قوّتها الناعمة"  فقط وعلى "قيمها الحميدة" التي لم تعد كافيةً لها إذا أرادت أن توجد في عالمٍ يسير على إيقاع التوترات المتزايدة بين واشنطن وبكين.

هل كان يجب انتظار أزمة كوفيد 19 وما شهدته من صراعٍ على اللقاحات بين الدول الغربية نفسها من جهة، وبينها وبين الصين من جهةٍ أخرى؟! هل كان يجب انتظار الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة التي أنهكت اقتصاد أوروبا كثيرًا؟! ليصحوا الأوربيون على هشاشة بنيانهم الداخلي ربما بدأت تظهر بوادر هذه الصحوة،  وكان التطوّر الأكثر تعبيرًا عنها ما حدث في ألمانيا التي قرّرت تغيير عقيدتها الدفاعية لتعتمد مستقبلًا على قوّتها الذاتيّة في الدفاع عن نفسها وعن قارتها العجوز، فأوروبا تصحو عندما تُمَس مصالحها الاقتصادية أو عندما يتعلق الأمر بأمنها القومي ومع التوترات الشديدة التي يعرفها العالم على المستوى الأمني والتداعيات الكارثية للحرب الروسية – الأوكرانية على الاقتصاد العالمي أصبحت مسألة إعادة البناء الأوروبي تثار بقوة، ويعتقد أوروبيون كثر أن الوقت قد حان لإعادة صياغة دورهم في العالم، وهو شرط أساسي لإيقاظ قارتهم.

لعلّ ما توفّر لأوروبا لإنجاز "ثورتها الكونيّة" نهاية القرن الرابع عشر يصعب اليوم تكراره كون ثورتها السابقة تحقّقت بفعل سياسة دولها الكولونياليّة وحروبها "الصليبيّة" وسيطرتها على مقدّرات شعوبٍ أخرى، واستغلال مواردهم الطبيعية هذه هي المقومات التي صنعت من أوروبا قوّة اقتصاديّة وعسكريّة عالميّة لكن التاريخ لا يعيد نفسه فما كان متاحًا ومقبولًا بالأمس لم يعد كذلك في عالم اليوم!

تحتاج أوروبا اليوم لثلاثة عناصر أساسية لاستنهاض نفسها قوّة "عالميّة ثالثة" وهي:"السيادة الاستقلال المرونة" السيادة في اتخاذ قراراتها خصوصًا ما يتصل بالدفاع عن نفسها والاستقلال عن أكبر قوتين في العالم – الولايات المتحدة الأمريكية والصين – لمواجهة خطر هيمنتها على العالم والمرونة في التعامل مع باقي دول العالم وشعوبه لإثبات حضورها قوّةً عالميّةً ثالثةً في عالمٍ متعدّد الأقطاب.. وكما فعلت بالماضي القريب عندما تخلّصت من إرثها الكولونيالي القائم على السيطرة والاستغلال الاقتصادي للقارات والشعوب في أرجاء العالم، عليها اليوم التخلي عن أفكارها العنصريّة القوميّة الفاشيّة القائمة على كراهية اللاجئين الأجانب والتوقف عن التفكير بوصفها مركز العالم عندها ربّما تصبح قوّةً عالميّةً ثالثةً ناعمة.