Menu

75 عامًا على النكبة.. فلسطين بشعبها ومقاومتها ستنتصر حتمًا

سمير دياب

نشر هذا المقال في العدد 50 من مجلة الهدف الإلكترونية

الخامس عشر من أيار عام 1948، يوم النكبة، ومفصل التحوّل التاريخي المصيري في مجرى الصراع الفلسطيني والعربي ضدّ المشروع الاستعماريّ الإمبرياليّ – الصهيونيّ وأهدافه العدوانيّة. فجوهر القضيّة الفلسطينيّة هو نفسه جوهر القضيّة العربيّة بشمولها، أي قضيّة التحرّر الوطني الثوريّة للشعب العربي برّمته. لذا، فإنّ استراتيجيّة النضال العربي في سبيل استعادة الشعب الفلسطينيّ أرضَه ووطنَه وحقَّه في العودة وإقامة دولته الوطنيّة المستقلّة وعاصمتها القدس ، لا يمكن أن تكون استراتيجيّةً صحيحةً موصلةً إلى الهدف دون الربط بين القضية الفلسطينية وحركة التحرر الوطني العربية. كون القضية الفلسطينية تشكل جزءًا عضويًّا من القضية العربية الشاملة، ملتحمةً بها التحامًا كليًّا. وكون النكبة بأهدافها الاستعماريّة وطابعها الصهيوني العنصري الإجرامي التهجيري تستهدف تطهيرًا كليًّا للشعب الفلسطيني وإلغاء تاريخه وهويته الوطنية، كما تستهدف تطويق المدّ التحرري العربي، والقضاء عليه. لذلك، فإنّ مفاعيل النكبة، استمرّت من خلال العدوان الثلاثي 1956، حرب حزيران/ يونيو 1967، واجتياح لبنان عام 1982، وعدوان تموز عام 2006، وكل الاعتداءات الصهيونيّة على الضفة والقطاع ولبنان وسوريا.. هي حروبٌ متمّمةٌ لأهداف المشروع الإمبريالي – الصهيوني العدواني أوصلت إلى شرذمة المواجهة العربية، وإذعان البعض لعقد اتفاقيات "سلام" مع العدو الصهيوني - كامب ديفيد، 17 أيار، أوسلو، وادي عربة والإبراهيمية برعايةٍ إمبرياليّةٍ أميركيّة، وما استتبع ذلك من فتح سوق المكاتب والعلاقات التجاريّة والدبلوماسيّة مع المحتل الصهيوني، ثم تحولها إلى ملعبٍ لسباق التطبيع والترسيم البحري والاعتراف بالكيان الصهيوني.

هذا الواقع، لا يمكن أن يحجب الجانب المشرق في مجرى الصراع، فأن يقاوم شعب فلسطين المحتل الصهيوني على مدى 75 عامًا، دون تعبٍ أو تراجعٍ لهو شعبٌ أسطوريٌّ يليق بفلسطين. وأن يستمرّ هذا الشعب الصامد في تناقض مع سلطته المتًيمة بحبّ السلام مع عدوٍّ صهيونيٍّ توسعيٍّ لا يريد السلام بطبيعة تكوينه وعقيدته وممارساته والأهم وظيفته في فلسطين والمنطقة العربية لهو شعبٌ يستحقُّ فلسطين.

فالنكبة مستمرة، يقابلها صمود ومقاومة مستمرة، رغم إحكام الإمبريالية خطتها الاستعمارية الاستراتيجية التي نجحت لحد الآن في حماية كل الممارسات الفاشية للكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، وتغطيه جرائمه الفظيعة في المحافل الدولية، وتطويع القوانين الدولية لمصلحته، حيث تراه يمعن في توسعه الاستيطاني وارتكاب المجازر الوحشية بأبشع صورها وآخرها قبل أيام في قطاع غزة، لأنّه يدرك تمامًا أنّه مدعومٌ بقوّةٍ من الإمبرياليّة الأميركيّة، وكل الحلقات الدائرة في فلكها، ولأنّه يدرك أن الانقسام الوطني الفلسطيني أضعف من ردعه، ولأنّه يأمن جانب أنظمة التطبيع الخيانية، والباقي غافلة عن القضية الفلسطينية لأسبابٍ كثيرةٍ من ضمنها انشغالها بأزماتها وصراعاتها الداخلية الطائفية والمذهبية والقبلية والإثنية لأنظمةٍ مأزومةٍ تشكّل حملًا ثقيلًا على فلسطين بدل أن تشكّل الرافعة لقضيّتها.

لكن ما يدركه العدوّ الصهيوني - رغم كلّ ما يمرّ به من أزمات - ويخاف منه، لا يتأتّى من هذه هذه الأنظمة المتهالكة التي خبر طبيعتها وتركيبتها وحفظ مواقفها وشعاراتها الفضفاضة، ولا من سلطتين متنافستين ومنقسمتين، إنّما يخاف هذا المحتلّ الغاصب من قدرة استمرار صمود الشعب الفلسطيني وقوة إرادته وعزيمته، رغم الحصار والتقطيع والحرمان، والقادر على تجديد انتفاضاته الشعبيّة وتنامي دور مقاومتة وعمليّاتها البطوليّة. يعني، قلق هذا العدو وخوفه من إبقاء القضية الفلسطينية حيّةً وحيويّةً ومتوهّجةً وفرضها مجدّدًا على أولويات الجدول العالمي الغائب عن فلسطين.

75 عامًا على النكبة، تتطلّب بالضرورة البحث والعمل لوضع استراتيجيّة مشروع المواجهة، لسببين:

أوّلهما، لأنّ الكيان الصهيوني – يتصهين ويتوحشن أكثر بعدوانيّته، ما يشكّل أساسًا للقول: إنّ حاضر الصراع ينطوي على حروبٍ قائمةٍ ومؤجّلةٍ لحين إزالة هذا الكيان العنصري المصطنع، في وقتٍ يزداد هذا الكيان تطرّفًا وفاشية، ويزداد إنكاره لحقوق الشعب الفلسطيني، ويتفنّن في خطة قضم الأراضي الفلسطينيّة لتوسّعه الاستيطاني، ويسعى لتهويد القدس مقدّمةً لتهويد فلسطين، ويغلق الباب أمام حقّ عودة اللاجئين إلى ديارهم.

ثانيهما، يتمثّل في جدلية العلاقة بين الإمبرياليّة الأميركيّة والكيان الصهيوني، وهي علاقة تحالفٍ بنيويّة، تزداد ثنائيتها العدوانيّة في كلّ مرحلةٍ من مراحل الصراع ومتغيراتها.

لذا، من الطبيعي، وجوب أن تبقى الهُويّة الوطنيّة التحرّريّة حاضرةً في الوعي الفلسطيني، وهي المستندة إلى خبرة عقودٍ من الكفاح، كون الصراع مع هذا المحتل الصهيوني مصيريًّا، وسيبقى. وما هدف العدو الصهيوني الأساس من وراء إبرام "اتفاق أوسلو" إيجاد حل للقضية، إنما إدارة الصراع، وفق ديناميّةٍ تفكيكيّةٍ وتطهيريّةٍ للشعب الفلسطيني وتصفيّة قضيته، وشطب حقوقه الوطنية المشروعة، وما مسيرة أكثر من ثلاثة عقود من المفاوضات إلا مضيعة للوقت، واستنزاف لقدرات الشعب الفلسطيني، بدليل نتائجها الكارثية على القضية. أما ما يقال عن "حل الدولتين" فذلك، مجرد سراب، في وقتٍ يلجأ المحتلّ الصهيوني إلى بناء المستوطنات وتقطيع المناطق والأشجار وبناء جدار الفصل العنصري وهدم منازل الفلسطينيين وتشريدهم.

أمّا فرضية تراجع الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في ظلّ المتغيّرات الدوليّة بالنسبة للإدارة الأميركيّة ارتباطًا بتعديل أولويات معركتها الاستراتيجية اليوم في مواجهة الصين ووروسيا، فإن صحة ذلك، لا يقلل من أهداف المشروع الإمبريالي الاستعماري، ولا من استراتيجية دعمه المطلق للكيان الصهيوني وحمايته، ولا يخفف من حروب الإمبريالية وتدخلاتها وحصاراتها وعقوباتها في المنطقة، وما مشروع "الشرق الأوسط الجديد" سوى حلقةٍ من حلقات هذا المشروع للسيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها وتفتيتها إلى كياناتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ وعرقيّةٍ وإثنيّة... ما يعني وظيفة الكيان الصهيوني كانت وما تزال تشكل "القاعدة الحيوية" للاستعمار الإمبريالي ونظام عالمه الجديد.  

أما عن أن الكيان الصهيوني يواجه بعد 75 عامًا مأزقًا بنيويًّا استراتيجيًّا بفعل فائض الأطماع والأهداف، فأمرٌ صحيحٌ لا شكّ فيه، لكن تعميق هذا المأزق يتطلب تغييرًا جذريًّا في استراتيجية المواجهة وفي إدارة الصراع، تبدأ من خلال التخلّي نهائيًّا عن خيار المفاوضات والاتفاقات والتطبيع، بتأكيد خيار المقاومة الشاملة، في إطار مشروعٍ فلسطينيٍّ وعربيٍّ مقاوم، والـتأكيد على أن "القضية الفلسطينية – هي القضية العربية المركزية - تشكل بأبعادها الوطنية والطبقية، قضية تحرر وطني عربية، وفي المقدمة تحرير فلسطين وعودة اللاجئين وإقامة دولة وطنية مستقلة على كامل تراب فلسطين وعاصمتها القدس، وهي حقوقٌ تحرّريّةٌ إنسانيّةٌ غير قابلةٍ للتصرّف، ولا تسقط بتقادم الزمن، مهما طال أمد الاحتلال الصهيوني، ومهما تعامت الإمبريالية ومؤسساتها الدولية عن إلزام الكيان الصهيوني تنفيذ مقرّارات الأمم المتحدة، ولا سيما القرار 194 في حق العودة والتعويض. ومهما حاولت أنطمة الذل والعار العربية تغليف مراسم التطبيع بتريرات وفذلكات تتعلق بموازين القوى وغيرها.. لكن تبقى فلسفتها في تاريخ النضال الوطني والشعبي هي الخيانة. والخونة إلى مزبلة التاريخ.      

لكن هذا الأمر، يتطلب من جهة ثانية، ضرورة الخروج نهائيًّا من حالة الشللية والإنقسام في الجسم الفلسطيني؛ الأمرُ الذي يدعم جذوة النضال الوطني ويحصنها، ويعزز اللحمة الوطنية ويدفع المسيرة الكفاحية قدمًا عبر خيار الوحدة والمقاومة سبيلًا وحيدًا لإستعادة نبض الثورة، وبعث روح شهدائها، ويدعم أسراها، وهو الخيار الذي يعيد إشعال انتفاضةٍ شعبيّة، فصمود الشعب الفلسطيني ونضاله وتضحياته.. وفق هذه المعايير يتشكّل الجواب الثوري لحلّ القضيّة جذريًّا، وليس انتظاره من مؤتمرات وبيانات جامعة دول عربيّة المهزومة أصلًا، أو انتظاره عبر تبدّلٍ مفاجئٍ في ترجمة قرارات الأمم المتّحدة ذات الصلة بالقضيّة الفلسطينيّة في عصر هيمنة الإمبريالية الأميركية على قراراتها. فالعدو الصهيوني لم يرحم شعبنا الفلسطيني طيلة 75 عامًا، وليس بواردٍ ذلك وفق معادلة أوسلو والتنسيق الأمني والانقسام العمودي الحاد، ولن يتراجع المحتلّ الغاصب عن ارتكاب المجازر والقتل والاعتقال والتنكيل والطرد والتدمير لتهجير وتطهير ما تبقى من شعبنا الفلسطيني لتكريس دولته اليهوديّة العنصريّة في فلسطين.

إنّ الارتقاء في رفع القضية الفلسطينية يجب أن يكون على قدر ما يستحق هذا الشعب الصامد المقاوم: في وحدةٍ وطنيّةٍ فلسطينيّةٍ ضروريّة، وفي استعادة الدور لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي وضع خارطة طريقٍ لمقاومةٍ وطنيّةٍ شاملةٍ تقود إلى التحرير وحقّ العودة لشعبٍ فلسطينيٍّ يحفظ عن ظهر قلب تاريخه، ويحافظ بدمه عن هويته الفلسطينية العربية، ويتقن تعليم أجياله خارطة فلسطين وأسماء شوارعها وقراها ومدنها وقيمها وتراثها، ويسلم الراية ومفتاح الدار من جيل إلى آخر. شعب يقاوم بإرادته وعزيمته وكرامته وباللحم الحي، هذا الشعب يستحيل كسر إرادته أو القدرة على هزيمته. سيبقى هذا الشعب بصلابته يبهر العالم بصموده ونضاله ومقاومته حتى دحر المحتل الصهيوني من فلسطين.

أما الإطار النضالي للمعركة فهو الإطار الذي صاغته، تاريخيًّا وواقعيًّا، حركةُ التحرر الوطني العربية نفسُها في مدى مسيرتها كلّه.. وهي مسيرة شعوبٍ عربيّةٍ وأحزابها ومنظماتها الوطنية والتقدمية، التي شاركتْ جميعًا، بِنِسَبٍ متفاوتةٍ أيضًا، في إحراز كل نصرٍ حقّقته هذه النضالات.. وما دامت المسيرة لم تقف بعد، ولن تقف، فالإطار الكفاحي هذا نفسه لا يزال قائمًا ولا بديل عنه، أي المواجهة العربية الشاملة، وَفْقَ مشروعٍ ثوريٍّ لحركة التحرر الوطني العربية، وقد حدّدت لنا الشعوب العربية بصمودها ومقاومتها، وآخرها المقاومة في فلسطين (غزة) قبل أيام، مهمّات هذه الحركة، أهمها وأعمقها أثرًا للمنطق العملي الثوري، هي مهمّة بناء جبهةٍ مقاومةٍ وطنيّةٍ عربيّةٍ شاملة.

من هذا المنطلق، فإنّ قوى اليسار الثوريّة أمام تحدّياتٍ نظريّةٍ وعمليّةٍ جديدة، ومهمّاتها حاضرةٌ مع الجماهير في الميادين التي تشهدُ ملاحم بطوليّة في خوص الصراع الوطني والاجتماعي ضدّ الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة العربيّة، هذه الجماهير تحتاج بالضرورة إلى رافعةٍ ثوريّةٍ ومشروع لحركة تحرّرٍ وطنيٍّ عربيّة بقيادة وبرنامج ثوريين بخلاف ما هو متكون وقائم، ما يعني أن قوى اليسار عليها أن تكون على قدر مسؤولية مهمتها التاريخية الثورية من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني والعربي في التحرر الوطني الجذري الشامل، وفي المقدمة فلسطين.