ليس الغرضُ من هذه السطور بثَّ تصوّراتٍ مضلّلةٍ حول حقيقة عدوّنا وقدراته، فهذا يعدُّ جرمًا بحق شعبنا ونضاله، ولا أخطر أو أسوأ من بناء الأوهام في ظل المعركة، وفي هذا يتساوى التقليل من قدرة العدو أو التهويل فيها.
ما نتناوله هنا هو إصرار المنظومة الصهيونية المتأصّل فى الكذب بشأن واقع المعركة، الذي يعدُّ تزايده مؤشّرًا مهمًّا بشأن تراجع قدرة هذا العدو على انتزاع إنجازاتٍ حقيقيّةٍ في ساحات المواجهة، وعجزه عن التعامل مع حقيقة قدرتنا على مواجهته، وتمسّكنا بخوض هذه المواجهة.
كلما أردى المقاتلُ العربي جنودًا صهاينة، أو ذاق العدو هزيمةً على يد المقاومة، سارع في تشكيل لجنة تحقيقٍ مختصّةٍ للوقوف عند الأسباب، ودائمًا ما ذهبت لجان التحقيق لإرجاع الخسائر والهزائم لما تسميه "إخفاقًا" في جانبٍ من جوانب عمل المنظومة العسكرية والأمنية الصهيونية، محض إخفاقٍ تقني أو عملاني، لا يعترف فيه العدو بتغيير في موازين القوة، أو وقائع تطور قدرتنا على المقاومة والقتال، التي جاءت تراكمَ سنواتٍ طويلةٍ من العمل، أو عبقرية أحد أبطالنا وشجاعته، أو بضعة منهم أو ألوف مؤلفة من الشجعان الذين يقارعون هذا العدو، ومجتمع بأكمله يحملهم ويحتضنهم.
في تحقيق العدو بشأن عملية الشهيد المصري البطل محمد صلاح، جاء التقرير مرة أخرى ليتحدث عن "إخفاق"؛ منكرًا حقيقةً أساسيةً ومعطًى واضحًا، أن هذا الفدائي الشهيد كان استثنائيًّا في شجاعته وعقليته وقدرته على التخطيط، وأن من يحتل أرض غيره ويعادي ملايين من العرب، سيتلقى جنوده الرصاص ويعرفون طريقهم للتوابيت.
لا يريد العدو تقديم ولو اعترافًا ضئيلًا أو جزئيًّا بأن الفدائي الشهيد تفوق على جنوده، أو أن المقاومة في جنوب لبنان و غزة والضفة فعلت ذلك مرة تلو أخرى، أو الإقرار بما رأيناه موثقًا في تسجيلات مرئية من بطولات لشهداء أغاروا على العدو كالليوث الضارية، فأذاقوا جنوده طعم الموت.
قد تخدم سرديات "الإخفاق" وقصصه، أهدافًا دعائية لدى العدو، فهو لا يريد بالتأكيد تقديم اعتراف بأي قدرة للمقاتل والإنسان العربي، أو بدوافع هذا الإنسان المقاتل وفي مقدمتها جرائم الغزاة الصهاينة، والرفض العميق لوجودهم على الأرض العربية، وأيضًا يسعى العدو لرفض أي اعترافٍ بخللٍ في قدرة جيشه، فالإخفاق لحظي وطارئ، والدائم والثابت لدى العدو هو الوهم حول جيش لا يمكن هزيمته.
كلما ازدادت الحاجة للكذب كان ذلك تعبيرًا واضحًا عن تزايد العجز وتراجع القوة، نحن أيضًا في زمان سيئ وحين كنا أقل قدرة وحكمة؛ كنا ندمن كتابة بيانات الانتصار الكاذبة، وبيع الأوهام للجماهير، وقد دفعنا ثمن ذلك من دمنا ومعنويات شعوبنا وقدرتنا على التقدير والتخطيط والإعداد الجدي للمعركة، ولكننا تعلمنا دروسنا، ومعظمنا لم ينسَ هذه الدروس، بل إن قلة منا قد اتخذت من هذه الدروس منطلقًا لإعادة بناء الذات والقدرة على المقاومة والانتصار.
يجب أن نسعد بتمادي العدو في كذبه لتغطية عجز متزايد يتلمسه جنرالاته وقادته في كل يوم، وننفر ونغضب من أي مسعى لتخدير أنفسنا بكذب مماثل، أو تضخيم أو تقليل لأي من عوامل المعركة ومركباتها وعناصرها، وموقفنا وحقيقة قدراتنا وقدرات عدونا.
في حربنا مع هذا العدو، حرب الوجود، لا يسعى شعبنا لمفخرة مؤقتة قد يصطنعها بيان إعلامي أو تحريف لوقائع، ولكننا نسعى لنصر حقيقي تمثله الهزيمة الشاملة لهذا العدو، وقد تتخلل هذا الطريق هزائم هنا أو هناك أو عجز أو تراجع، ولكننا حتمًا سننتصر في معركة نصدق مع أنفسنا بشأنها، وخصوصًا بشأن ثمنها الدموي، وحقيقة عدونا المسلح حتى نخاع العظم ومئات الآلاف من جنوده القتلة المدربين، لن نكذب، فواجبنا أن نقتلهم ونهزمهم لا أن ندعي ذلك.
سنذكر دومًا حكاية الشهيد باسل الأعرج عن زجل شعبي يخلد هذه الحكمة في الإرث الشعبي لقريته الولجة "لا تحسبونا خواجات يا هو.. ولا بنبيع العطارة.. حنا حماة البيد يوم يصير عالبيد غارة"؛ فواجبنا أن نكون أهل قتال ونضال، صادقين وجادين في إرادة الانتصار وبحثنا عن كل عوامله، فهذه معركة وجودنا لا كذبة غزاة سيزيلها شعبنا مهما طال زمانها وتمادت كذبتها؛ فنحن حراس الحقيقة والتاريخ، وهم جبل من أكاذيب زائلة لا محالة مهما تسلح وتحصن.