Menu

ثروات الأمة محط أطماع للاستعمار..

مديرُ المركز الوطني للدراسات في لبنان عدنان برجي "للهدف": الصهيونيّةُ والاستعمارُ مشروعٌ واحد ومجابهته تكون بوحدة النضال

عدنان برجي

أجرى المقابلة د. وسام الفقعاوي

* ونحن نعيشُ رهن الذكرى السادسة والخمسين لهزيمة حزيران: ماذا يعني لك المشروع القومي العربي الذي عمل على تجسيده جمال عبد الناصر؟ وهل بالفعل تُرجم هذا المشروع بشكل عملي سياسيًّا وميدانيًّا بالمعنى القومي والعربي؟ وماذا تبقّى من إرثه (المشروع وعبد الناصر معًا) اليوم؟

** إنّها الذكرى 56 لنكسة/هزيمة حزيران والذكرى الخمسين لانتصار تشرين المجيد.

"إنّ قصة 5 يونيو سنة 1967، ليست قصة أيام ستة اندفع فيها القتال، ثم ساد وقف إطلاق النار بعده، إنّما القصة قبل ذلك بكثيرٍ وبعده بكثير؛ لأنّ وقائع التاريخ الكبرى لا تهبط على الموقع مثل قوّات المظلّات". هذا كلام لمحمد حسنين هيكل في مقدمة كتابه الانفجار، وهو ينصح أن تقع عيون المهتمين بمسيرة "السلام على بعض صفحاته، لعلّهم يرون شعاع ضوءٍ يكشف ويبيّن".

وفي تقديري أنّ انتصار تشرين أزال آثار هزيمة حزيران، والدليل أنّه منذ ذلك الانتصار المجيد بدأت مسيرة التراجع في الكيان الغاصب، وأكبر دليلٍ هو ما نشهده اليوم من تنامي روح المقاومة في داخل فلسطين وعلى امتداد الأمّة، على الرغم من تطبيع أكثر من نظامٍ عربيّ رسميّ مع هذا الكيان.

إنّ معركة الـ 67 كانت معركةً في حرب. وفي الحروب هناك معاركُ خاسرةٌ ومعاركُ رابحة. المهمّ ألا تُهزم الإرادة إذا انهزم السلاح، وهذا ما جرى تمامًا بعد النكسة/الهزيمة وجرى عكسه بعد انتصار تشرين، فقد انتصر السلاح في تشرين، وانهزمت إرادة النظام الرسمي باتفاقيات كامب ديفيد الاستسلاميّة.

 لقد تحمّل عبد الناصر المسؤوليّة بشجاعةٍ نادرةٍ وتنحّى عن المسؤوليّة، لكنّ جماهير الأمة في 9 و10 حزيران أعادته إلى موقعه؛ لأنّها أدركت بفطرتها أنّ المطلوب هزيمة الأمة، وليس هزيمة القائد فقط أو الاكتفاء باحتلالِ أراضٍ عربيّةٍ شاسعة، أو حتى الاكتفاء بخروج مصر من دائرة الصراع. وهذا ما أدركه عبد الناصر فكان بيان 30 مارس بمثابة استراتيجية للتحرير، وكانت حرب الاستنزاف المقدّمة الطبيعيّة لانتصار تشرين وللإعلان أمام العالم أن الإرادة الشعبيّة العربيّة لم تُهزم.

ماذا يعني لي المشروع القومي العربي؟ ببساطةٍ يعني السبيل لتخليص الأمّة من التجزئة والتخلّف وهما الهدفان الذي وضعهما الاستعمار قبل وجود الصهيونيّة، ثم تعاون الاستعمار والصهيونيّة على تجسيدهما بإحلال جسمٍ غريبٍ في فلسطين يفصل مشرق الأمّة عن مغربها ويؤبّد تخلفها؛ لنهب مواردها وثرواتها البشرية والمادية.

إنّ المشروع القومي العربي، لم يبدأ مع جمال عبد الناصر، ولن ينتهي برحيله. فالعروبة والإسلام وهما ركنا المشروع فكريًّا، كانا قبل ثورة يوليو، وستبقيان بعد الانقلاب على الثورة. كذلك مناهضة المستعمرين والغزاة هي في صلب التكوين الفكري الجهادي عند أحرار العرب والعالم. كما أن السعي إلى التطوير والتقدّم وامتلاك أسباب القوّة هي من الأمور الفطريّة عند البشر، وهذا ما يسعى إليه المشروع القومي العربي. فهو مشروعٌ تحرّري وليس مشروعًا للعدوان على الآخرين.

إنّ الأمة العربيّة بما تملك من موقعٍ استراتيجي، ومن موارد بشريّة وماديّة ومن ثروات كانت دائمًا وستبقى إلى أبد الدهر محط أطماع القوى الاستعمارية، لذلك فإما أن تتوحد لتقوى وتجابه، وإما أن تتفكك لتكون عرضةً لمزيدٍ من الأطماع الاستعمارية.

بعد رحيل القائد جمال عبد الناصر جُرّبت مشاريع مغايرة للمشروع القومي العربي، فهل استطاع أي منها الصمود أمام تهديد أو ترغيب القوى الاستعمارية؟

في المشروع القومي لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف. فهل استطاعت المفاوضات ومسارات التطبيع وتوقيع الاتفاقيات مع العدو تحرير شبرٍ واحد، أو مجرد وضع حد للاستيطان؟

تجربة لبنان بتحرير أرضه دون قيد أو شرط كانت نتيجة نضال المقاومة وتضحياتها التي أثبتت صحة المشروع القومي العربي وسلامته.

هل طبق المشروع ميدانيًّا وعمليًّا؟ الجواب قطعًا لا. فحتى في وجود قائد المشروع كان العدوان الثلاثي ومحاربة الوحدة بن سوريا ومصر وإسقاطها، وكان مشروع ايزنهاور وحلف بغداد والحلف الإسلامي، وتقسيم اليمن والتحالف الصهيوني مع قوى التطرف والانعزال. بمعنى أنهم لم يتركوا للرجل فرصة التقاط أنفاسه، ومع ذلك كان سدًّا أمام الهجمة التي نشهدها حاليًّا، من بعثٍ لقوى التطرّف والانفصال، التي للأسف تحقق نجاحات في أكثر من موقع. لكن على الرغم من كل ذلك تحررت بلدان عربية من نير الاستعمار وبلدان إفريقية، كما ارتفعت راية عدم الانحياز وكسر احتكار السلاح، ونهضت الصناعة بمصر وكذلك الزراعة، ونهض التعليم، وكانت معدلات التنمية تزيد على 5% دائمًا. وعلى الرغم من هزيمة حزيران وحرب الاستنزاف والإعداد لحرب تشرين، فإنّ مصر لم تكن مديونة، وكانت العدالة الاجتماعيّة بمستوى جيّد وحالة المواطن المصري الاجتماعيّة أفضل من حالته الآن.

* ما تزال القضيّة الفلسطينيّة بكونها أساسًا القضيّةَ العربيّةَ الأكثر تأثّرًا بنتائج الهزيمة، فهل بحكم المقاومات الصاعدة نستطيع القول: إنّه بالفعل بدأت ملامح التغيير في طبيعة الصراع لصالح القضيّة الفلسطينيّة؟ أم إنّنا اليوم نحيا هزيمةً جديدةً تتمثّل في أمورٍ عدّة، أهمها التطبيع مع الاحتلال الصهيوني؟ وهل نحن مقبلون على مرحلةٍ جديدةٍ في الصراع العربي الصهيوني؟ وإن كان كذلك فما شكل هذا الصراع ومستواه؟

** لا أوافق على الرأي القائل: إنّ القضية الفلسطينية هي الأكثر تأثّرًا بنتائج هزيمة حزيران؛ لأنّ بعد الهزيمة تلك قويت شوكة المقاومة، وكانت معركة الكرامة عنوان صمود وتحدٍّ وكانت مواجهات الفدائيين عنوان رفض للهزيمة، وأنّ الإرادة لم تهزم. ثمّ إن انتصار حرب تشرين أوصل المقاومة إلى منبر الأمم المتحدة، وإلى اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثّلًا شرعيًّا ووحيدًا لفلسطين.

ما أثّر سلبًا في القضيّة الفلسطينيّة هو مسار اتفاقيات أوسلو وما تلاها من انقساماتٍ فلسطينيّة - فلسطينيّة، فهناك أنظمةٌ طبعت مع العدو بحجة أن قيادة منظمة التحرير وقّعت اتفاقيات "سلام" مع العدو، فلِمَ نكون ملكيّين أكثر من الملك؟

ما يبشّر بالخير أنّ الشباب المقاوم في فلسطين تجاوز كل تلك الاتفاقيات، وها هو يقدم نموذجًا رائعًا في المقاومة الباسلة، سواء من ضمن غزة التي صمدت في وجه الحصار الإسرائيلي مدة عقدين من الزمن، أو من ضمن أراضي الـ 48 والضفة الغربية التي ينتفض شبابها ويقدّمون الدماء الذكية رخيصةً في سبيل فلسطين، كذلك الرفض الشعبي العارم للتطبيع مع العدو. إنّ التطبيع إنّما يتم بين أنظمةٍ عربيّةٍ وحكومة الكيان الغاصب، لكنّه ليس تطبيعًا مع الشعب ومصيره الفشل المحتوم.

نعم نحن مقبلون على مرحلةٍ جديدةٍ في الصراع العربي الصهيوني، عنوانها هزيمة العدو الصهيوني وانتصار إرادة الإنسان الفلسطيني والعربي. لقد انعكست الآية ولم يعد الجيش الصهيوني جيشًا لا يقهر، فها هم جنوده يخافون الخدمة العسكريّة، وعند كل مواجهةٍ يتأكّد العالم من انتصار المقاومة على الرغم من الفارق الهائل في قوى التسليح ونوعيّته.

إنّ العالم يشهد تغييراتٍ جذريّةً وهائلة؛ وفي تقديري: إنّ أكبر حليف للصهاينة، أي الأميركيين، في حالة تراجعٍ استراتيجي واضح، وإذا كان حلم التوسّع الصهيوني قد تراجع الآن، فإنّ تقهقر الصهيونيّة هو عنوان المرحلة المقبلة.

إنّ اتجاهات الصراع العالمي هي لصالح الفلسطينيين والعرب، على الرغم من اتفاقيات التطبيع وحالة الضياع العربي الرسمي، والمؤشرات على ذلك كثيرة وعديدة. إن توقيع الاتفاق الإيراني السعودي في بكين مؤشّرٌ ذو دلالاتٍ كبيرة جدًّا؛ فالصراع على الشرق الأوسط هو صراع على الغلبة في العالم، ومن يخرج من المنطقة يخرج من الصراع العالمي.

* في ظل الأزمة الراهنة في الكيان الصهيوني، كيف يمكن استثمار هذه الأزمة لصالح القضيّة العربيّة الفلسطينيّة والصراع ببعده الأشمل قوميًّا؟

** يعاني الكيان الصهيوني أزمةً حادة، فهو عليه أن يؤدي دور الشرطي المؤدِّب للعرب من خلال ترسانته التسليحيّة الهائلة، ومن خلال اختراقاته الأمنية الخطيرة التي تظهر في مواقع النزاعات العربيّة – العربيّة، أو في البلدان التي تشهد اقتتالًا داخليًّا. لكن صمود المقاومة ونجاحها في امتلاك أسلحة تستطيع نقل المعركة إلى قلب الكيان الصهيوني؛ أفقد العدو الكثير من ميزاته التي استخدمها لنقل المهاجرين إليه. إنّ المنتقل من الجيل الجديد إلى الكيان لا يهمّه كثيرًا البعد الأيديولوجي للصهيونيّة، بل إنّه يرى في الكيان جنّة نعيم وأمان له. لكن حين تنطلق المقاومة من الداخل كما نشهد هذه الأيام، فإنّ الشعور بالأمن يتلاشى، وكذلك حين يتأكد من إمكانية وصول الصواريخ إلى مضجعه، فلن يكون مستعدًّا للتضحية بحياته. لذلك تشير المؤشّرات إلى تنامي الهجرة المعاكسة، كما تشير إلى الهروب من الخدمة العسكريّة. ناهيك عن الصراع المتزايد بين أجنحة الحكام والأحزاب الحاكمة، التي تترجم بالانتخابات المتكرّرة وبالانقسامات العمودية داخل الكيان.

الاستثمار الحقيقي في الأزمة الصهيونيّة، هو بمزيدٍ من المقاومة للاحتلال، وبإنهاء الانقسام الفلسطيني، والخروج على اتفاقيات أوسلو، ووادي عربة، وكامب دافيد، ومختلف اتفاقيات التطبيع. كذلك لا بدَّ من اعتماد سياسةٍ عربيّةٍ لإنهاء الصراعات العربيّة - العربيّة ومنع التدخّلات الخارجيّة فيها، فكلّ قضيّة عربيّة يجب أن تحلّ ضمن الإطار العربي، كما كان يحصل زمن جمال عبد الناصر. أيضًا لا بدّ من وضع سياسة تقاربٍ مع الدول الإقليميّة المحيطة، وقد لمسنا مدى الارتياح العربي في إعلان الاتفاق السعودي الإيراني. إنّ عدو الأمة هو الكيان الغاصب وليس أي بلدٍ إقليمي مجاور. أيضًا لا بدّ من الوقوف صفًّا واحدًا في مواجهة التطرّف والتعصّب المذهبي والطائفي الذي تغذّيه مؤسّسات عالميّة تحت ذرائع مختلفة، وهي تنفذ في الحقيقة المخططات الاستعمارية الدائمة لتفتيت المجتمع العربي. أيضًا لا بدّ من استثمار وسائل التواصل الاجتماعي لفضح الممارسات العنصرية للكيان الغاصب، سيّما أنّ هناك تحولات في الرأي العام العالمي لصالح القضيّة الفلسطينية، وهناك القوى الصاعدة عالميًّا، كالصين، مثلًا، وهي لا ترى في الكيان الصهيوني ما يراه الأميركي والغرب.

* يحاول الكيان الصهيوني الترويج بقوميّة دولته المزعومة من خلال ربطه القوميّة بالدين: هل بالفعل استطاع تظهير هذه الرواية، وكيف يمكن الردّ عليها؟

** الترويج لقوميّة الكيان الغاصب إنّما يهدفُ إلى تحقيق غاياتٍ عدّة، أوّلها: محاولة إظهار اليهوديّة والصهيونية حالةً واحدةً لقطع الطريق على اليهود المتحرّرين من الصهيونيّة، وثانيها: زرع العصبيّة الدينيّة في نفوس "الإسرائيليين"، وثالثها: محاولة اقتلاع سكان فلسطين العرب من مسيحيين ومسلمين، وضرب المقدّسات الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى.

ومن أجل تحقيق غاياته، فإنه يقوم بتشريعاتٍ قانونيّة في الداخل، ويقوم بتغذية العصبيات الطائفيّة والمذهبيّة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وهو يمتلك مخطّطًا تقسيميًّا للدول العربيّة أعلنه الصحافي "الإسرائيلي" أوديد بينون منذ عام 1982، وهو يلتقي مع مخطّط برنارد لويس التقسيمي، وكثيرًا مما شهدته المنطقةُ من أحداث، وما تشهده، إنما يحدث لتحقيق الانقسام الطائفي والمذهبي والعرقي في الدول العربية، والقضاء على فكرة الوحدة ضمن التنوّع.

لم يستطع العدو تحقيق إنجازاته الطموحة في قوميّة الدولة – الكيان لكنّه مستمرّ بالعمل من أجل ذلك، وما محاولات تهويد القدس المتواصلة سوى دليلٍ على ذلك.

الردّ يكون أوّلًا بعدم الوقوع في فخّ العصبيّات المذهبيّة والطائفيّة والإثنيّة والعرقيّة، وبمواجهة التقسيم في أي دولةٍ عربيّةٍ يسعى الأميركي والصهيوني إلى تحقيقه من خلال تغذية النزاعات والتطرّف وإشعال نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، وآخرها ما يجري في السودان ، ودعم الشعب الفلسطيني في نضاله لتحرير أرضه، وعلى الأخصّ دعم المقدسيّين وأبناء الأرض المحتلّة في انتفاضتهم المتواصلة والمباركة.

* ما بعد الانتفاضات العربيّة وما خلفته من نتائج وصول حروب وانقسامات داخلية وانغلاق قطر ي وأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية تراجعت مفاهيم القومية والوحدة العربية... هل يصح القول: إن مشروع القوميّة لم يتمكن من ترسيخ هويته التاريخية باعتبار الشعوب العربية شعبًا واحدًا وجودًا ومصيرًا؟ وهل صح ذلك في ضوء التجربة الطويلة والغنية؟ كيف يمكن ترسيخها في ضوء التحديات التي تعصف بالوطن العربي؟ وأين تقع مسؤولية أطر العمل الشعبي العربي، أحزابًا ونقابات واتحادات ومؤسسات مجتمعية؟ وهل يمكن النهوض في الوضع الراهن بالمشروع القومي العربي؟ وكيف يتحقق ذلك؟

** أيًا كان الوصف لما جرى في الدول العربيّة تحت مسمى الانتفاضات، فقد تم استغلاله وحرفه عن مساره في مواقع كثيرة وعديدة بما يخدم مخططات التقسيم والتفتيت والتجزئة. لكن لم تتحقق هذه الغايات الدنيئة، بل إنّ الشعب العربي دفع أثمانًا غاليةً من دمائه واقتصاده وتطوره، واليوم إذ نشهد تراجعًا في قدرة الأعداء على فرض إرادتهم، فإن مهامًّا ثقيلةً تُلقى على عاتق العروبيّين التوحديّين لتقديم مشروع النهوض القومي العربي، وقد بادر المؤتمر القومي العربي إلى وضع تصوّرٍ لهذا المشروع، الذي يحتاج في تقديري إلى تطويرٍ مستمرّ.

أمّا أنّ العروبة قد تراجعت عند أبناء الشعب العربي، فذلك ليس دقيقًا؛ بدليل ما ظهر أثناء "المونديال" في قطر من التفافٍ للشعب العربي حول فرقه الرياضية بغض النظر عن انتماءات هذه الفرق الوطنية.

كيف السبيل لتحقيق المشروع القومي؟ هو بالسعي إلى خطواتٍ تكامليّةٍ اقتصاديّةٍ تحقق مصالح جميع الدول، فالوحدةُ لن تكون قهرية، ولا قسرية ولا انصهاريّة ولا تذويبيّة، إنّما هي تكاملٌ للوطنيّات. كذلك من الضروري جدًّا وقف التدخّل السياسي من جانب دولةٍ في شؤون دولةٍ أخرى، وعلى الشباب العربي كلّ في وطنه أن يعمل ديمقراطيًّا لتطوير نظامه السياسي.

في تقديري، إنّ التطورات العالمية وانتقال ثقل التأثير من الغرب إلى الشرق، وحاجة البلدان العربية إلى التنمية وحفظ أمنها القومي، إنّما يساعد في العمل على تنفيذ المشروع القومي العربي برؤاه الجديدة في الأسلوب، وليس إنهاء هذا المشروع، سيّما أن المشاريع الأخرى التي حكمت في المنطقة من مشاريعَ إقليميّةٍ وقُطريّةٍ وأمميّةٍ وإسلاميّةٍ لم يكتب لها النجاح، وفشلت جميعها في تحقيق الأمن القومي بأبعاده المتعدّدة لأي دولةٍ عربيّة.

مهمّات الأطر القوميّة، تبدأ بفهم الشباب العربي، الذي لن يكرّر تجربة الأحزاب العربيّة السابقة والقائمة، لسبب رئيسي هو أنّ لكل زمانٍ أساليبه الناجعة. إنّ زمن الحزب الحديدي في التنظيم ومركزية القرار، واحتكار القيادة، لم تعد تنفع مع الأجيال الجديدة في ظل ثورة التواصل الاجتماعي وتأثيراتها العميقة في المجتمعات.

* المشروع القومي العربي في جوهره مشروعٌ تنويريٌّ تقدّمي، كيف يمكن ترسيخ مفاهيم المواطنة والحريّة والديمقراطيّة والعلمانيّة في ضوء العمل على استنهاض المشروع القومي العربي؟ وما التحدّيات التي تواجه هذه المفاهيم في المرحلة الراهنة؟

** كل مفهومٍ من المفاهيم التي وردت في السؤال تحتاج إلى تحديد المقصود منها لإزالة الالتباسات التي رافقتها خلال عقود. فباستثناء مفهوم المواطنة إلى حدٍّ ما، ليس هناك اتفاق بين المثقفين على مفاهيم الحرية والديقراطيّة والعلمانيّة. فالحريّةُ كما أفهمها، وكما قدّمها القائد جمال عبد الناصر، لها جناحان: الديمقراطيّة الاجتماعيّة والديمقراطية السياسيّة، وهي ليست مجرّد أوراق اقتراع في صناديق الانتخابات، ولدي - كما لدى غيري حسب ما أعتقد - ملاحظاتٌ جوهريّةٌ على الديمقراطيّة الأميركيّة والديمقراطيّة الغربيّة، حيث هي بحقيقتها وبجوهرها خضوع الغالبية الشعبيّة لخياراتٍ ضيّقةٍ بين الأحمر والأزرق في أميركا، أو بين العمال والمحافظين في بريطانيا، وفي جميع الأحوال يتحكّم بالإعلام، وبالنخب أرباب الصناعات العسكرية وأصحاب وسائل الإعلام الموجّه بذكاء، لكن باتجاهاتٍ محدّدة. كذلك فإنّ العلمانيّة صُوّرتْ على أنها تتناقضٌ مع الدين، فهل هي كذلك؟ أم إنّ المقصود بها الأخذ بالأساليب العلميّة في إدارة الدولة. لا بدَّ من الاتفاق على مضمون العلمانيّة، فليس سهلًا ولا منطقيًّا ولا ممكنًا اعتماد مفهومٍ ترفضه الغالبيّة لمجرد السماع باسمه.

علينا في الوطن العربي وقف استيراد المفاهيم، والعمل على بلورة مفاهيمنا الخاصة التي تتناسبُ وواقعَ مجتمعاتنا، ولدينا تَجارِبُ عديدةٌ لا بدَّ من درسها وغربلتها؛ لنضع المضامين لكلّ مفهومٍ من هذه المفاهيم، وهناك اجتهاداتٌ قدّمها مفكّرون قوميّون عربٌ، يمكن الاستفادة منها عند أهل الربط والحزم.

* ما ردّك على الأصوات الداعية إلى سلخ القضيّة الفلسطينيّة من القضيّة القوميّة العربيّة الأشمل في لوحة الصراع مع المشروع الصهيوني وأطرافه الاستعماريّة؟

** إنّها دعوةٌ مشبوهة، وهي دعوةٌ قُطريّةٌ فاشلة. إنّ زرع الكيان الغاصب في فلسطين لم يستهدف الشعب الفلسطيني فقط - وإن كان هذا الشعب الجبار قد دفع الثمن الأغلى وما يزال – بل إنّه مشروعٌ محدّد الأهداف منذ عام 1840، حين أقرّ مجلس وزراء بريطانيا مشروع زرع كيانٍ غريبٍ في فلسطين ليفصل المشرق العربي عن مغربه، وليبقي على تجزئة المنطقة وتخلّفها.

إذن؛ فإنّ كلّ عربي معنيٌّ بفلسطين، ولن يكون هناك تقدّم وتطوير لأيّ بلدٍ عربي دون تحرير فلسطين، كذلك لن يستطيع الفلسطينيون وحدَهم، ومهما كانت تضحياتهم، النجاحَ بالتحرير دون باقي العرب، وتَجرِبةُ أوسلو الفاشلة خيرُ دليل.

إنّ تركيبة الجغرافيا العربيّة، وتركيبتها السكانيّة، وتاريخها الحضاري، يثبت أن فلسطين جزءٌ من كلٍّ ولا يمكنُ شفاء الجزء في جسمٍ عليل، أو الادّعاء بصحة الجسم بوجود عضوٍ عليلٍ منه.

إنّ من واجب القيادات الفلسطينيّة والعربيّة العمل على تعزيز الانتماء العربي لفلسطين، وتعزيز فلسطينيّة كلّ إنسانٍ عربي.

إنّ مشروع الصهيونيّة والاستعمار هو مشروعٌ واحد، ومجابهته تكون بوحدة نضال كل المقاومين العرب والفلسطينيين لهذا المشروع.