هناك علاقة متلازمة بين الاقتحام الإسرائيلي الأخير لمخيم جنين وقوانين السبب والنتيجة؛ لذا فإن فهم السبب الذي أدى إلى إنشاء المخيم يعد أمرًا مهما لفهم حرب إسرائيل على المخيم هذا الشهر، بعد تدميره في عام 2002. يمكن تلخيص هذه العلاقة في جملة مقتضبه: مخيم جنين عمره من عمر الكيان الصهيوني.
في عام 1948، تأسست الدولة الصهيونية على أنقاض أكثر من 535 قرية وبلدة فلسطينية والتطهير العرقي لنحو 800,000 فلسطيني من منازلهم، برز مخيم جنين كمأوى لبعض المهجرين الذين تم تهجيرهم من بلداتهم وقراهم.
استقطبت هذه المخيمات ما يقرب من ثلث جميع اللاجئين الفلسطينيين لعام 1948، واصبحت هذه المخيمات مأوى لأكثر المحرومون من المهجرين، وعند الكتابة حول هذا الموضوع، لا أقدم تحليلاً، بل أستند إلى تجربه شخصية، حيث أنني نشأت في أحد هذه المخيمات، وقدمت العديد من الدراسات حول هذا الموضوع، بما في ذلك كتبًا عن حياة وتشكيل هذه المخيمات، في كتابي الأول "أطفال الكارثة"، في النص أدناه، شرحت كيف تم إنشاء هذه المخيمات:
"تخطى تطور المخيم كل المراحل التاريخية لتطور البلدات الصغيرة، حيث جاء أبناء المجتمع الجديد من جميع الخلفيات والمناطق: ملاك أراضي، فلاحين، وسكان المدن، والبدو، والوجهاء، ورؤساء العائلات (المخاتير)، والمحترفون، والأغنياء والفقراء، جميعهم وجدوا أنفسهم يعيشون ويشتركون في حياة جماعية جديدة، حيث كان البدوي يعيش بجوار المتمدن، وكان صاحب الأرض يعيش بجوار الفلاح، وتنافس المخاتير على السلطة والوجاهة، وتحولت الأحياء المحلية على الفور إلى نسخه مصغرة للقرى القديمة، حيث قسم المخيم بشكل غير رسمي استنادًا إلى البلدات الأصلية في فلسطين، واختفت الطبقات والفارق الاجتماعي بين ليلة وضحاها في كارثة التشرد والنكبة".
لقد قمت بزيارة مخيمات في لبنان وسوريا والضفة الغربية/ القدس وقطاع غزة، في كل مرة أدخل فيها أي من المخيمات، أشعر أنني في بيئتي الاجتماعية؛ أزقة ضيقة، وأسقف مصنوعه من ألواح الإسبستوس أو الصفائح المعدنية، صور الشهداء في كل مكان، الشعارات الثورية أو أسماء القرى الفلسطينية تزين الجدران، ووجوه كبار السن المجعدة بألم النكبة، وأطفال بلا أحذية يلعبون بمسدسات مصنوعة من العيدان، رائحة خليط الزعتر المحمص على الخبز أو المناقيش، ورائحة القهوة الطازجة تفوح من نافذة مفتوحة. التشابه بين المخيمات مذهل للغاية، كما لو كانت مصممة من قبل نفس المهندس الشرير، وعندما أفكر في ذلك الآن، أدرك التشابه مع المجتمعات المضطهدة الأخرى. إنها تحمل نفس بالسمات التي يمكن أن نجدها عند زيارة قبيله للهنود الحمر في جزء نائي من ولاية داكوتا الشمالية أو نيو مكسيكو، والتشابه العميق الذي يلاحظه المرء عندما يمشي عبر أطلال مزارع العبودية للأميركيين من أصل أفريقي في ولاية مسيسيبي أو لويزيانا، أو معسكر اعتقال يهودي في بولندا أو ألمانيا. إن المباني غير الإنسانية في جميع هذه المواقع تبدو أنها نتاج مخطط خبيث يهدف إلى تجريد البشر من إنسانيتهم.
عند إعداد مخططها، أنشأت المنظمات الإرهابية الصهيونية "لجنة التهجير" للإشراف على تنفيذ المخطط الشيطاني، سواء كان ذلك عن طريق القصد أو غير القصد، فقد أسندت هذه اللجنة أسماءً عبرية لعمليات عسكرية تشير الى برمجة مخطط للتطهير العرقي، مثل ميتاتيه (مكنسه)، وتيهور (التطهير)، ونيكوي (التنظيف).
وفي عام 1948، بعد تنفيذ مخطط لجنة التجير، كشفت وثيقة من أرشيف وزارة الخارجية الإسرائيلية عن رؤيتها لمصير الفلسطينيين المُهجّرين، وجاء فيها:
"سيتمكن الأكثر تكيفًا والأقوى من البقاء والتعايش عن طريق عملية الاختيار الطبيعي، والبقية يموت منها من يموت، أما البقية، فستتحول إلى فضلات بشرية منبوذة اجتماعيًا تنضم إلى طبقة المعدومين في الدول العربية".
مخيم جنين يقف اليوم كمثال على كيفية تحدّي الفلسطيني لإفشال مخططات الحركة الصهيونية.
قبل أن يقع المخيم تحت الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967، علمت عن مجموعة من كبار السن يجتمعون كل صباح تحت شجرة كبيرة على قمة تلة قريبة من المخيم، كانوا يتذكرون ممتلكاتهم المفقودة في فلسطين ويراقبون الوادي إلى الغرب، حيث مزارعهم ومنازلهم التي لا يمكنهم الوصول إليها بسبب الاحتلال، كانوا يشاهدون فصول الحصاد، ويرون غرباء يقومون بزراعة أراضيهم ودخول منازلهم القديمة.
بعد احتلال جنين، قام بعض المسنين بالتسلل خلسه إلى القرب من بمزارعهم، يستنشقون عبير زهور البرتقال من اشجارهم التي زرعوها، أو يتفقدون موسم الزيتون في بساتينهم القديمة، حتى أن بعضهم عمل كمزارع في ارضه فقط لدخول مزارعهم، هذا وعملت بعض النساء كخادمات نظافة، تخدم الاحتلال، فقط للفرصة من أجل دخول منازلهن القديمة. ورغم العذاب، لم يعترف الصهاينة بمسؤوليتهم تجاه تهجير الفلسطينيين، ففي 12 أبريل 1958، وصف آبا إيبان، الممثل الدائم لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، الجنوب أفريقي الأصل، وضع اللاجئين بأنه "معاناة مؤقتة"، وذلك في مقابلة مع الصحفي الأميركي مايك والاس، ثم واصل اتهام العرب، قائلاً: إن لديهم "القدرة الكاملة لحل" هذه المشكلة.
يجدر بالذكر أن آبا إيبان استخدم مصطلح "مؤقتة" بعد عشر سنوات من تهجير الفلسطينيين من منازلهم، ويمكن للمرء أن يتخيل ردود الفعل إذا تجرأ مسؤول حكومي ألماني بوصف معاناة اليهود خلال المحرقة بأنها "معاناة مؤقتة"، ومن ثم يلقي اللوم على حكومات أوروبية لعدم بذل ما يكفي لـ"حلها".
حتى لو قبلنا ادعاء آبا إيبان بأن الحكومات العربية فشلت في حل "المعاناة المؤقتة" في المخيمات، فإن الكيان الصهيوني احتل الضفة الغربية وقطاع غزة، و27 مخيم للاجئين بعد تسع سنوات من هذه المقابلة، وكونها قوه الاحتلال الجديدة، كان لدى الكيان الصهيوني العديد من الفرص للتخفيف من "المعاناة المؤقتة" في المخيمات الفلسطينية، ولو أعدنا صياغة تصريح آبا إيبان بطريقة أخرى، فإن لدى إسرائيل بعد الاحتلال القدرة على إظهار للعالم، بما في ذلك الحكومات العربية، ما يجب فعله لإنهاء "المعاناة المؤقتة".
ومع ذلك، وبعد مرور خمسة عقود بعد أن أصبحت إسرائيل السلطة الوحيدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، لننظر ماذا فعل الكيان الصهيوني من أجل تخفيف المعاناة ولتحسين الحياة في المخيمات؟
أصبح أبناء المخيمات مصدرًا جديدًا لليد العاملة الرخيصة التي تُستغل من قِبل الشركات الصهيونية، بالإضافة إلى تدمير قراهم وحرمانهم من حق العودة إلى منازلهم، سعت إسرائيل لدي الإدارات الأمريكية المختلفة لأكثر من 40 عامًا لرفع سقف المعاناة في المخيمات من خلال إلغاء تمويل وتفكيك وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التي تقدم الخدمات الاجتماعية لسكان المخيمات من خلال بتوفير فرص عمل، ومدارس لتعليم لأطفال، وخدمات الرعاية الصحية، والمعونات، والصرف الصحي، وغيرها من الخدمات الانسانية.
نجح الكيان الصهيوني في عام 2018 عندما قام دونالد ترامب بقطع الدعم الأمريكي للأونروا، اتنافلاس الوكالة كان آخر المحاولات الصهيونية لتحقيق أحلام وزارة الخارجية الإسرائيلية في عام 1948 وذلك بتحويل الفلسطينيين المُهجّرين إلى جماعة "منبوذة اجتماعيًا".
ففي غياب الأونروا، لما حصل الآلاف من الأطفال فرصة للحصول على التطعيم ضد الأمراض المعدية مثل الكوليرا والتهاب الكبد والإنفلونزا (بما في ذلك كوفيد-19) والسل وشلل الأطفال، والعديد من الأمراض الأخرى. ويجب التنويه هنا أن المخيمات، وهي من بين أكثر المناطق كثافة سكانية في كوكبنا، تعاني شح المياه وغباب شبكات الصرف الصحي، مما يجعلها مكانًا مثاليًا لتفشي الأمراض المعدية. يُظهر مخيم جنين، بتعداد سكاني يبلغ حوالي 15,000 نسمة يعيشون في مساحة نصف كم مربع، تقريبًا نفس الكثافة السكانية للمخيم الذي ولدت وعشت به.
في ظل العجز المالي تجبر الأونروا على ايقاف أو خفض تقديم الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة، وفي غياب هذه البرامج لن يتمكن الآلاف من أطفال المخمات للالتحاق بالمدارس. وفي غياب التعليم، أنا شخصيًا، لما كنت قادرًا على أن أصبح مهندسًا أو كاتبًا، الأهم من ذلك، لما أتيحت لي الفرصة للكتابة حول الحياة في أحد هذه المخيمات. ولكن ربما كان هذا هو بالضبط ما كانت إسرائيل ترغب فيه طوال هذا الوقت - أن ترى الفلسطينيين يعيشون على هوامش الحياة.
لأكثر من سبعين عامًا، ألقت إسرائيل باللوم على الضحية، وسخَّرت سلاحَها الإعلامي في الغرب لاستغلال "معاداة السامية" لتخويف وإسكات أولئك الذين يجرؤون على انتقاد إسرائيل، واستمرت في إطالة معاناة اللاجئين بالضغط على الإدارات الأمريكية لتحقيق أحلامها بتحويل الفلسطينيين "إلى عاله بشرية" ودفن قضيتهم في غياهب النسيان الأبدي.
إن تصميم أهالي مخيم جنين وجميع المخيمات الفلسطينية، ظل شاهدًا على فشل البرنامج الصهيوني منذ عام 1948، فإصرارهم وعزيمتهم الثابتة للعودة إلى ديارهم أثبت للعالم أن الفلسطيني لن ينسى رغم مرور أكثر من سبعة عقود على النكبة.