Menu

قراءةٌ تحليليّة

الأمن الغذائي وعدم المساواة في الحالة العربيّة

م. تيسير محيسن

نشر في العدد 51 من مجلة الهدف الإلكترونية

أصدرت اللّجنةُ الاقتصاديّةُ والاجتماعيّة لغربي آسيا (الإسكوا) في آذار/مارس الماضي، تقريرًا بعنوان "عدم المساواة في المنطقة العربيّة غياب الأمن الغذائي يشعل الفوارق"، جاء في التمهيد له على لسان السيدة رولا دشتي، الأمينة التنفيذية للإسكوا "انعـدامُ الأمن الغذائـي وجهٌ وحشـيٌّ لعدم المسـاواة، وما إن يلـوح خطـره حتـى يفـرّق الأمم ويفتّـت المجتمعات".

يتضمّن التقرير - بالإضافة إلى العديد من الأطر والأشكال والجداول - أربعة محاور: الأوّل بعنوان "أزمة متكاملة تشعل عدم المساواة"، الثاني "عدم المساواة والأمن الغذائي"، الثالث "الأمن الغذائي وعدم المساواة: تحليل المخاطر والاتجاهات"، أما الأخير فقد جاء بعنوان "حلول في السياسات العامة".

يهدّد انعدام الأمن الغذائي، في المنطقة العربيّة، 181 مليون شخص، أي ما يقرب من 35% من السكان. ومعظم الذين يواجهون هذه المشكلة يعيشون تحت ظلّ الفقر. ليست الأزمة في عدد الذين يهدّدهم شبح الجوع فحسب، بل أيضًا قسوته؛ إذ يواجه 54 مليون شخص مستوياتٍ شديدةً منه.

تتعدّد أوجه انعدام الأمن الغذائي عربيًّا، وتشمل العوامل المسبّبة الفيضانات والجفاف المرتبط بالتغيّرات المناخيّة، والأزمات الاقتصاديّة، والصراعات، والاحتلال، وهي تؤثّرُ في الفقراء أكثر بكثيرٍ مما تفعل في الأغنياء.

يعالج الفصل الأول التطوّرات الخارجيّة والأزمات التي ضربت المنطقة، وكان لها تأثيرٌ سلبيٌّ أعاق أي تقدّمٍ تحرزه السياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة المعتمّدة للحدّ من الأوجه القائمة لعدم المساواة. من ذلك، تداعيات الحرب في أوكرانيا، وأزمة المعيشة العالميّة. وأيضًا، تزايد الدين، وأسعار الصرف وشروط التجارة. كما يتناول الفصل أبرز أوجه عدم المساواة في الحالة العربيّة، وهي: فقر الدخل، عدم المساواة في الثروة، عدم المساواة في الدخل، عدم المساواة بين الجنسين.

يبدأ الفصل الثاني بتعريف الأمن الغذائي كالآتي "عندما تتوفّر لجميع الناس الإمكانات الماديّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، للحصول على أغذيةٍ كافيةٍ وسليمةٍ ومغذّيةٍ تلبّي احتياجاتهم التغذويّة وتناسب أذواقهم الغذائيّة للتمتّع بحياةٍ موفورةِ النشاط والصحّة". يؤكّد معدّو التقرير أنّ الأمن الغذائـي ليس مسـألةَ جوعٍ فحسـب، بل هـو عاملُ تحديـدٍ للسـيادة والاستقرار. يحلّل التقرير، من منظور عدم المساواة، الركائز الأربع للأمن الغذائي، وهي: التوفّر والحصول والاستفادة والاستقرار. في معرض الحديث عن توفّر الغذاء عربيًّا، يتناول التقرير مشاكل شحّ المياه، انخفاض الإنتاجيّة الزراعيّة، تقلّص مساحة الأراضي الزراعيّة الخصبة. يختم الفصل باستعراض تأثيـر ثلاثة أنـواعٍ مختلفةٍ مـن الصدمات علـى الأمن الغذائي وعدم المسـاواة فـي المنطقـة العربيّة، وهـي الصدمات المناخيّـة، والصدمات الاقتصاديّة، والصدمات السياسـيّة.

ويسلّط الفصل الثالث، تحت بند دراسات حالة البلدان، الضوء على أوجه عدم المساواة في الفقر والأمن الغذائي في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. مشيرًا إلى أنّ معدلات الفقر في قطاع غزة تزيد بأربعة أضعافٍ على ما هي عليه في الضفة الغربيّة، ويعيش في القطاع 90% من الفلسطينيين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وتبيّن من مسحٍ أجراه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة عام 2022 أن معدل انتشار انعدام الأمن الغذائي بلغ في القطاع 42.4% مقارنةً بمعدل 90.68% في الضفة الغربيّة. وقد خفضت 19% من الأسر في قطاع غزة من استهلاكها للتعامل مع نقص الغذاء، وذلك مقارنةً بنحو 4.4% من الأسر في الضفة الغربيّة.

يقدّم التقرير، في الفصل الرابع، توصياتٍ في السياسات العامة لمعالجة قضايا الأمن الغذائي من منظورٍ يراعي عدم المساواة، من ذلك تحسين منعة النظم الزراعيّة ونظم الحماية الاجتماعيّة، وزيادة قدرتها على استيعاب الصدمات التي تطال أشدّ فئات المجتمع هشاشة. وتساعد أنظمة الإنذار المبكّر ووحدات إدارة الكوارث وتدابير التخفيف من آثار تغيّر المناخ والتكيّف معه على الحماية من الآثار المتنامية لتغيّر المناخ.

هذا ويقترح معدّو التقرير أنّ الحلّ يكمن في التضامن وإعادة التوزيع، وأنّ "نطاق المشكلة أوسع من أن تحلّه دولةٌ واحدةٌ بمفردها، فلا بدّ من تآزرٍ بين قادة المنطقة لزيادة توفّر الغذاء، وضمان الحصول عليه، وتحسين الاستفادة منه، وتحقيق استقراره". فيما يلي نقدّم قراءةً نقديّةً لما جاء في التقرير، وذلك من خلال مجموعةٍ من الملاحظات:

(1) منذ عام 2008 والعالم لم يفتأ يواجه الأزمة تلو الأزمة؛ نهاية العولمة، أزمة الليبراليّة الجديدة متمثّلة في السوق والديموقراطيّة، التطرّف والعنصريّة والحروب، انتشار الأوبئة على نطاقاتٍ واسعة، تداعيات تغير المناخ؛ الأمر الذي كان له أبلغ الأثر على أمن العالم واستقراره، الاقتصاد العالمي، وخصوصًا اقتصاديات البلدان الفقيرة والنامية والأشخاص الضعفاء والمهمشين، وأيضًا انتهاك الحقوق على نطاقٍ واسع، زيادة معدلات الجوع والفقر والبطالة والهجرة، وما أسفر أيضًا عن أزمةٍ طاحنةٍ في الغذاء والطاقة.

(2) بالرغم من امتلاك العرب ثرواتٍ هائلةٍ ومتنوّعة؛ بما في ذلك الغذاء الذي يكفي لإطعامهم جميعًا؛ إلا أنّهم يعانون من انعـدام الأمن الغذائـي؛ وذلك بسبب عـدم المسـاواة تحديدًا. لديهم أوسـع فجـوة لعدم المسـاواة فـي الدخل عالميًّا، قـدر هائـل مـن عدم المسـاواة في الحصـول على الطعام المغذي والصحـي، وفـي القدرة علـى تحمـل تكاليف هـذا الغـذاء.

(3) قد لا يكون نقص الغذاء أو سلامته أو استمراره أو كيفيّة الوصول إليه هو ما يعاني منه العرب حقًّا، وإنّما في كونه يستخدم بوصفه أداةً للتحكّم والسيطرة الداخليّة والخارجيّة. الأزمة التي يشهدها النظام الغذائي العربي تتمثّل في: نزع الملكيّة (ترك الزراعة وإضعاف الصلة بالأرض، الهجرة)، تغيّر الأنماط (تأثير ارتفاع درجة الحرارة، معدّل سقوط المطر ووتائره، انقطاع سلاسل التوريد)، التسليع (تحول الغذاء من "حق" إلى "سلعة").

الفجوة الغذائيّة العربيّة واسعة:

وفقًا لأحدث البيانات؛ الاكتفاء الذاتي العربي من السلع الغذائية الرئيسة لا يتعدّى 36.8% في الحبوب، و32.8% في الزيوت النباتيّة، و31.4% في السكر، و38.4% في البقوليّات، و73.7% في اللحوم الحمراء، و65.5% في لحوم الدواجن. وقد بلغت الفجوة الغذائيّة العربيّة عام 2020 نحو35.3 مليار دولار، تتصدّرها الحبوب التي تمثّل 47.8% من إجمالي تلك الفجوة.


(4) بينما يعدّ مفهوم الأمن الغذائي أقرب لمفاهيم السوق (الوصول والاستخدام، العرض والطلب..)، تحمل كلمة سيادة حين تضاف لتعبير "الغذاء" مضامين سياسيّة (بما تنطوي عليه من علاقات قوة). التعريف الشائع والمتداول والمعتمّد في التقرير، لم يعد ذي قيمةٍ تحليليّةٍ أو فائدةٍ عمليّةٍ في سياقاتٍ مشابهةٍ للسياق العربي، مع تغييب القدرة على الوصول للموارد والسيطرة عليها. انعدام الأمن الغذائي لا ينتج عن البطالة وانخفاض الدخل فقط، وإنّما كذلك نتيجة انعدام المساواة الهيكلية في أنظمة الغذاء والزراعة الناجمة أساسًا عن سياسات الليبراليّة الجديدة.

(5) حركات السيادة على الغذاء جاءت ردًّا على المفاهيم النيوليبراليّة. وهي، تعني باختصارٍ شديدٍ حقّ الشعوب، حق الفلاحين، حق الضحايا في الوصول إلى الموارد والسيطرة عليها. وهي جاءت للتغلّب على الضعف في مضمون الأمن الغذائي مفهومًا، وعُدّت -أقصد السيادة- أساسًا لا غنى عنه له (أي للأمن الغذائي). غالبًا لا يكون الجوع بسبب نقص الغذاء، وإنّما بسبب التهميش السياسي والحرمان الاقتصادي. إذا كان الأمن الغذائي يعني القدرة على الوصول إلى أسواق الغذاء، فإنّ السيادة الغذائيّة تعني القدرة على الوصول إلى موارد إنتاج الغذاء (حيث تتّسم العمليّة بالصراع بين القوى).

(6) إنّ معالجة توافر الغذاء والحصول عليه واستخدامه وجودته التغذوية أمر بالغ الأهمية، لكن الأمر يجب ألا يتوقف عند التدخّلات السريعة وقصيرة المدى "المقاربات القطاعيّة"، ذلك أن المقاربات طويلة المدى، على أساس الجغرافيا وطبيعة المكان، تستهدف، جذريًّا، الظروف البنيويّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة الأساسيّة؛ ما يتطلب التزامات سياسيّة قويّة ونهجًا متعدّد الأبعاد. إن الأهميّة المتزايدة للنُهوج الإقليميّة هي استجابة للاعتراف المتزايد بتنوع الأمن الغذائي والتغذوي وتحديات الفقر.

المقاربات الإقليمية جيدة من حيث استهداف القضايا الهيكلية والناشئة في الأمن الغذائي والتغذية. لا يختلف الأمن الغذائي باختلاف المنطقة فحسب، بل تختلف طبيعة المشكلات وحجمها أيضًا باختلاف نوع المنطقة. يمكن أن تساعد هذه المقاربات في تنويع مصادر الدخل والتخفيف من المخاطر المحتملة (تقلبات الأسعار، وتغير المناخ، والمخاطر البيئية)، وتعزيز التنمية وتعزيز سبل العيش، وهذا يشمل، من بين أمورٍ أخرى، تعزيز المؤسّسات المحليّة ووضعها في طليعة المعركة ضدّ مشاكل انعدام الأمن الغذائي.

هناك اعترافٌ متزايدٌ بأن السياسات القطاعيّة وحدها ليست كافيةً لتحديد مسارٍ مستدامٍ للخروج من الفقر وانعدام الأمن الغذائي. يمكن أن تكون السياسات القطاعيّة والقائمة على المكان، التي تدمج القطاع الزراعي مع أسواق المنبع والمصب، وكذلك مع الأنشطة غير الزراعية أكثر فعالية في تحسين سبل المعيشة الريفية والأمن الغذائي والتغذية. تكمن أهمية المقاربة الإقليمية في معالجة قضايا الأمن الغذائي من حيث تعدد القطاعات، الانطلاق من القاعدة إلى القمة، الاستناد إلى خصوصية المكان، تعزيز أنظمة الحوكمة متعددة المستويات ما يقوي التنسيق الأفقي والرأسي، ربط السياسات الاجتماعية بسياسات النمو الاقتصادي.

لمجابهة تحديات الأمن الغذائي العربي، في ظل عالمٍ شديدِ التعقيد، من قبيل النمو السكاني، وشحّ المياه، وتغيّر المناخ، ونقص التنوّع الزراعي، والأهم كما جاء في التقرير الفقر وعدم المساواة، النزاعات والاضطرابات السياسيّة، على العرب أوّلًا إيجاد مقاربة مشتركة فيما بينهم، وعلى اتّباع بعض ما جئنا عليه وخصوصًا المقاربات الإقليميّة لتحسين القدرة على الوصول إلى الغذاء الكافي والمغذي. تحتاج الدول العربية إلى اتخاذ إجراءاتٍ مثل تعزيز الاستثمار في الزراعة والتكنولوجيا الزراعية، وتحسين إدارة الموارد المائية، وتعزيز التنوع الزراعي، وتعزيز الاستدامة البيئية، وتعزيز الحوكمة الريفيّة، وتعزيز التعاون الإقليمي في مجال الأمن الغذائي.