إسرائيل تتآكل، ولكن لا أحد من الأنظمة العربية، ومن ضمنه النظام الفلسطيني لديه رؤية لتعميق هذا التآكل ولا امتلاك قرار سياسي أو أمني يمكن أن يستثمر هذا التآكل، وربما ليس هناك من يدرك طبيعة هذا التآكل، كونها أنظمة لم تزل مخبوعة من هزيمة ٦٧، أو مصدقة أن هذا الكيان لا يقهر، أو لديها حسابات الخسارة والتدخل الأمريكي والدولي لصالح الكيان الصهيوني. ثمة غياب للرؤية الاستراتيجية والتكتيكية، وهذا الغياب مضى عليه خمسة وسبعين عامًا... هي سنوات تقادم الكيان التي أعطته "شرعية التقادم" التي لطالما يبحث عنها في موسوعة كذب التوراة والتعاليم الصهيونية ومؤسسات البحث في الآثار وتطبيقاتها بالجغرافيا الفلسطينية، ولم يستطع أن يجد هذه الشرعية "شرعية الزمان والمكان" وطوع كل إعلام الغرب الإمبريالي في إنكار التاريخ والجغرافيا الفلسطينية منذ الكنعانيون واليبوسيون وغيرهم، كي يجد لنفسه فراغًا يملأه شرعية تاريخية لإسرائيل المتخيلة، ولا زال يبحث عن هذه الشرعية التاريخية "العقدة السياسية" ولم يجدها إلا شرعية استعمارية من أمريكا والغرب الإمبريالي... بيد أن هذ الشرعية لم تزل ناقصة من وجهة نظره، فعمل المستحيل على أن يأخذ الشرعية من الأنظمة العربية ومن فلسطينيين هم أصحاب الحق، تاهوا في بحر الأوهام، فأخذت اليوم الشرعية من أنظمة التطبيع، وأخذ الشرعية من سنوات التقصير والعجز والتقصير العربي على مدار سنوات النكبة، ولا زال التقصير العربي والحوًل السياسي والبلادة السياسية يفعل فعله في إنقاذ الكيان من أزماته التي تصفها نخبه الفكرية والسياسية بالخطر الوجودي... بل أكثر من ذلك تعطيه الأنظمة العربية إكسير الحياة من حيث تعي أو لا تعي، فتطيل من عمره، وتضيع الفرص التاريخية لإغراق هذا الكيان في أزماته البنيوية... ومن الطبيعي أن يقول قائل: إنني أبالغ في تصوير الواقع الإسرائيلي وتوصيفه بعبارات التآكل والخطر الوجودي ارتباطا بمشهد ميزان القوة بين الكيان والعرب "ميزان متصور"...!
فالضعف العربي ناتج عن ضعف المواجهة وليس ناتج عن ضعف الامكانيات، فالرجوع إلى ميزان القوة الأمني والعسكري بين الكيان والعرب هو لصالح العرب وليس لصالح الكيان، وميزان القوة المعنوية بين مجتمع الكيان والمجتمع العربي هو لصالح العرب، بيد أن هذا الميل في ميزان القوة لصالح العرب لا يساوي شيء مع فقدان الإرادة السياسية لدى الأنظمة الحاكمة، فالكيان كان دائما يملك إرادة الهجوم وإرادة المواجهة مع العرب، رغم ضآلة عتاده من جنود وآليات، في حين كانت الأنظمة العربية تخشى المواجهة لألف حساب وارتباط بعدم يقينيتها بالانتصار، رغم أن حرب تشرين التحريرية أثبتت جدارة الجندي العربي في الحرب، كما أثبتت أن القرار السياسي هو الفيصل في المعركة، فقرار السادات السياسي أوقف الاندفاعة للجيش المصري إلى عمق سيناء وخطوط المتلا والجدي...
وعليه ما الذي تثبته هذه الصورة من الأحداث والواقع الذي وصلنا إليه الآن..؟
لا زلنا أمام مستوى وعي بنيوي أقل من مستوى الوعي الكياني في رؤيته لطبيعة الصراع... إنها معركة الوعي إما أن نثبت لأنفسنا أولًا وللعالم أن لنا حق ونستحق هذا الحق، ونملك جدارة الصراع لأخذ هذا الحق... وإما نعطي الكيان مزيدًا من الوقت لتصميم نفسه وتطوير قدراته المادية والمعنوية والسياسية والاقتصادية... هو يسابقنا ونحن لا نلعب في الميدان.