بإلغاء حجّة المعقوليّة؛ أطلق ائتلافُ اليمين في إسرائيل صافرةَ الانطلاقِ نحوَ ثورته القضائيّة؛ مجموعةٌ من الوزراء الهُواة يأخذون إسرائيل إلى حيث يريدُ كلُّ خصومها؛ جميع مؤسّسات الدولة وأذرعها تدخلُ في حالةٍ من الاضطراب، فقد توقّف المراقبون عن إحصاء تفاصيل المتمرّدين؛ معظم المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة يبلغُ المتطوعون فيها عن وقفهم للتطوّع بدءًا من الجيش والاستخبارات وفرق الاختراق الإلكتروني وجيوش السايبر والمخابرات وسلاح البحريّة والخدمات الطبيّة العسكريّة، في كلّ تلك الأذرع تشهدُ خلخلةً في سابقةٍ هي الأولى منذ إنشائها.
لحقت المؤسّسات المدنيّة والأطباء والممرضين اضراباتٌ عامةٌ تشبه حالةً من الفوضى، لم تقنع قادة الائتلاف بوقف انقلابهم على القضاء، بل تغيّرت الاستراتيجيّة من الثورة بالجملة إلى العمل بالتجزئة، بدأتها الكنيست بإلغاء حجّة المعقوليّة، التي تعني بالنص الواضح إلغاء الرقابة على قرارات الحكومة.
ردًّا على خبر وقف تطوّع الطيّارين الذين يشكّلون السلاح القوي في إسرائيل وذراعها الضارب، يردُّ نتنياهو ببرود "الدولة تستطيع الاستمرار دون بعض الطيّارين، ولكنّها لا تستطيع الاستمرار دون حكومة"، هذا مؤشّرٌ مهمٌّ لمعرفة مسار إسرائيل القادم، تؤكّده استطلاعات الرأي التي ينهزم فيها الائتلاف لو جرت الانتخابات، ما يعني أنّه لا خيار أمام نتنياهو وشركائه إلا التمسّك بهذه الحكومة ومنع سقوطها بأيّ وسيلةٍ، وباتت الثورة القضائيّة العامل الأوّل في تماسكها بعد النجاح في تمرير الموازنة.
الائتلافُ يسيرُ للأمام غيرَ مبالٍ بكلّ الاحتجاجات ولا بالدولة التي يتآكل فيها كلّ شيءٍ، ويشهدُ مجتمعها تصدّعًا يتحوّل إلى صراعٍ يأخذ طابعًا تصعيديًّا من كلا الطرفين كلّما تقدّمت مسيرة الثورة القضائيّة ازداد التصعيد؛ الحكومة تصرّ والمعارضة تحشد والمتطوعون يستنكفون والشلل يتصاعد والأموال تنسحب من البنوك والشركات تغادر والإضرابات تتسع، وحتى كتابة هذا المقال لم تنضم نقابة العمال الهستدروت، ويبدو أنّها على الطريق؛ ما يعني شللًا كاملًا.
وما بين خيار السلطة الوحيد بالسير قدمًا رغم كلّ شيءٍ وبين خيار المعارضة بالتصعيد قدمًا، تبدو إسرائيلُ كأنّها تدخلُ عنق زجاجةٍ كان واضحًا منذ البداية أنّ خيارات الخروج منه بأمانٍ تبدو ضئيلةً في حوارٍ كان يأملُ منه الرئيس هرتسوغ أن يفضي إلى اتفاقٍ مراهنٍ على احتجاجاتٍ قد تؤثّر على ممثلي الحكومة، لكن الهُوّة ودوغمائيّة الأيديولوجيا وتكتّل المصالح لليمين، يرى أنّه يحمل رسالة الدين، كل هذا كان يقف حائلًا أمام أي تنازلٍ من قبل اليمين؛ ما أدّى لتصعيد الموقف.
توقّف المسارُ في نيسان الماضي بعد موقف يوأف غالانت، وزير الدفاع، الذي نقل رسالة الجيش الحازمة، وأعلن نتنياهو تجميد التصويت، ولكن قوّة الدفع لدى الائتلاف ومصالحه كانت أقوى من قوّة الكبح لدى الشارع والمعارضة ما جعل نتنياهو يقوم بمناورةٍ ماكرةٍ بتمرير المشروع بالتقسيط، لكن المعارضة التي تتسلّح بشارعٍ قويٍّ ومؤسّساتٍ فاعلةٍ وإرثٍ علمانيٍّ ودعم الجيش والولايات المتّحدة، تشعرُ أنّ لديها من القوّة ما يضمنُ لها النجاح أو على الأقل استنزاف الائتلاف لحين إجراء الانتخابات تكون قد جعلت كل قطاعات الشعب تقف ضده وتعاقبه وتسحقه، لكنّ الأهمّ أن هذا الصراع، وذلك الصدع يدور بين كتلتين تتنافران ثقافيًّا وإيدلوجيًّا؛ واحدةٌ تدفع لإقامة دولة الشريعة والسيطرة على "الأغيار" والأرض، أي العرب، والأخرى تمثّل إرث الدولة العلماني الذي ضمن لها السيطرة والعلاقات الدوليّة والمناعة الأمنيّة والرفاء لمواطنيها والاقتصاد المزدهر والعلم والتكنولوجيا.
صحيح أنّ عنوان الثورة تغييرٌ في نظام القضاء، لكنّ الأمر أبعد من ذلك بكثير، فهو يجهّزُ لتغييرٍ شاملٍ وانقلابٍ على التاريخ الذي أقيمت على أساسه الدولة، والشعب الإسرائيلي ليس محصّنًا من الانقسامات، وأينما دخلت الأيديولوجيا بين الشعوب كانت عاملَ تفريقٍ كما أكّدت تجارب التاريخ في كثيرٍ من المجتمعات، فحين كانت تحكمُ إسرائيل القوّة العلمانيّة، كانت تتمكّنُ من احتواء التيّارات اليهوديّة المختلفة من أرثوذوكسيّةٍ ومحافظة، لكن حين يصعدُ للحكم تيّارٌ دينيٌّ في دولةٍ أقيمت بالأصل على أساسٍ دينيٍّ لا بدّ أن يكون الصدع بهذا العمق الذي نشهده، فما هو حاصلٌ حتّى اللحظة لم يعبّر عن جوهر الأزمة وتجلّياتها الحقيقيّة بعد.
البرنامجُ السياسيُّ لحركة شاس يحمل نصًّا يقول: إنّ هدف الحركة هو إقامة "دولة التاج"، أي الدولة الدينيّة، أما سموتريتش، فيستمدُّ برنامجه السياسي الذي كان قد أعلنه منذ خمس سنوات مستوحيًا برنامج يهوشع بن نون في السيطرة على الفلسطينيين والضفة الغربيّة، أما الحزب الإشكنازي الديني يهدوت هتوراة المشكل من تحالف حزبين دينيين، فقد خاض معركةً قبل أسابيع عشيّةَ إقرار الموازنة لتحصل على ربع مليار شيكل لمدارس التوراة، لتخريج أجيال من التوراتيين؛ أي إنّ الصدع لا يعود لقضايا قانونيّة بقدر ما يفسّر انشقاقًا عميقًا بين كتلتين، ويزداد هذا الانشقاق مع الزمن، من خلال متابعة حجم الولادات للسنوات القادمة بين الكتلتين؛ ما يعكس ازديادًا مضطردًا لدى الكتلة الدينيّة وانحسارًا للكتلة العلمانيّة مؤسّسة الدولة، التي تمثّل حتى اللحظة الدولة العميقة وقيمها، التي يتم استهدافها وتحويلها إلى أقليّةٍ منبوذةٍ أمام تطرّف الأيديولوجيا واستعلائها واحتقارها للآخر.
حتّى لو سقط هذا الائتلاف وتمكّنت إسرائيل من ترقيع حكومةٍ تشبه حكومة يائير لابيد، فإنّ هذا لن يكون أكثر من حقنة مسكنٍ مؤقّتة؛ لأنّ توربينات التطوّر الديمغرافي والشحن الأيديولوجي ومستشفيات الولادة كلّها تجر إسرائيل نحو الجذور ونحو الأيديولوجيا التوراتيّة، ربّما ما حدث ويحدث هو تبكير للأزمة، لكن في إسرائيل أزمة عميقة لن تخرج منها لتعود إسرائيل القويّة التي يعرفها العالم، سواءً لناحية التماسك الداخلي وقوّة الردع، أو لجهة تعاطي العالم معها... كلّ ذلك سيكون شيئًا من الماضي، وهذا مسارٌ طبيعيٌّ لدولةٍ تأسّست بثنائيّةٍ غريبةٍ تنتصرُ إحداها على الأخرى، وقد انتصرت الأيديولوجيا على العلمنة، ذلك مسارٌ طبيعيٌّ لم تكن علّة المعقوليّة التي يتمّ إلغاؤها سوى مقدّمات لما هو آت.