Menu

في عالمٍ شديدِ التعقيد، سريعِ التغيّر: مجموعة "بريكس" واحتدام الصّراع على الهيمنة والنفوذ (1-2)

م. تيسير محيسن

مع نهايةِ الحربِ الباردة، باتت المواجهةُ الأيديولوجيّةُ قضيّةً من الماضي إلى حدٍّ كبير؛ لم يعد العالمُ ثنائي القطبيّة، وحلّ اقتصاد السوق محلّ الاشتراكيّة، وأصبحت الديموقراطيّة اتجاهًا عالميًّا، أو هكذا خُيّل للبعض، فوكوياما على سبيل المثال مع نظريته نهاية التاريخ، أو هنتنغتون مع صراع الحضارات. في الواقع، راح العالم تحت تأثير ديناميتين: محاولة أمريكيّة لإقامة نظامٍ عالميٍّ أحاديٍّ القطبيّة من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ بروز ظاهرة صعود "الاقتصادات الناشئة"، التي توقّعت لها مؤسّسة "جولدمان ساكس" أن تكون في حلول عام 2050 القوّة المقرّرة في العالم.

 

النشأة والتحوّل:

في الواقع، جاء صعود مجموعة بريكس BRICS (اختصار للحروف الأولى من أسماء دول: البرازيل، روسيا، الهند، جنوب إفريقيا، الصين)، تعبيرًا عن أزمة النيوليبراليّة، ونتاجًا لها، في أسوأ تجلّياتها (أزمة 2008/2009) وفي أبرز ركائزها: الديموقراطيّة والسوق! فهل تشكّل بديلًا أم استمرارًا بنكهةٍ جديدة؟ يقارن البعض نهاية "العالم الثاني" عام 1989، مع نهاية "العالم الثالث" عام 2009 مع الإعلان الرسمي عن ولادة مجموعة بريكس!

تعدُّ "الدولة" وحدة النظام الدولي وتشكيلاته؛ من منظّمات واتّحادات (الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي...)، ومن مجموعات (G20، G7..)، تغطي هذه الكيانات مجمل ساحات الفعل والعلاقة الدوليين، وتعنى بقضايا مختلفة. بريكس واحدة من أكثر هذه المجموعات تأثيرًا وإثارةً للجدل، علمًا أنّها ليست حركةً موحّدةً تتبنّى نظامًا اقتصاديًّا أو سياسيًّا مشتركًا، تنتمي ثلاثة من أعضائها إلى ما يعرف بالدول الديموقراطية (الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا)، بينما تحظى كل من الصين وروسيا بمقعدٍ دائمٍ في مجلس الأمن.

في مطلع الألفية جاءت تنبؤات جولدمان ساكس[1] تقول: إنّ اقتصاديات دول البريك (البرازيل، روسيا، الهند، الصين BRIC) يمكن أن تصبحَ قوّةً رئيسةً في الاقتصاد العالمي في حلول 2050، وإنّ العالم سوف يشهدُ نشأة كيانٍ يضمُّ هذه الدول مصداقًا لمقولة الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو "لا أحد يستطيع مقاومة فكرة حان وقتها". في الواقع، أحدثت هذه الدول تغييراتٍ هيكليّةً نهايةَ القرن العشرين وأحرزت نجاحات، بررت صعودها كما بررت التنبؤات. أوقفت البرازيل التضخّم، وأدخلت الهند إصلاحاتٍ شاملة، كما خرجت الصين سالمةً من الأزمة الاقتصاديّة الآسيويّة، ووضعت روسيا استراتيجيّةً لإعادة بناء وضعها الاقتصادي واستعادته بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي.

هذا وحقّقتْ هذه الدول إنجازاتٍ اقتصاديّةً معتبرةً في المدّة 2001-2008: انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وبدأت عمليات التحديث على النمط الصيني، وشهدت البرازيل ازدهارًا اقتصاديًّا غير مسبوق (تضاعف 4 مرات)، وباتت كلتاهما، الصين والبرازيل من بين الدول الدائنة عالميًّا. باتت الصين ثاني أكبر اقتصاد، بينما احتلت الهند المرتبة الرابعة، وروسيا السادسة، أما البرازيل فقد جاءت في الترتيب الثامن.

من منظورٍ غربي، ظلت بريكس تعاني هاجسًا عميقًا؛ الحاجة إلى إضفاء طابع رسمي، ومواجهة تحدياتٍ تتعلّق بمدى استقرار دولها الاقتصادي والسياسي، وما يعتري الأمر من شكوكٍ حول إمكانيّة استمرار عمليّات الإصلاح الهيكلي.

حتّى اليوم عقدت المجموعة 14 لقاء قمّة، ومن المتوقّع أن تعقد القمّة الخامسة عشر قريبًا في جنوب إفريقيا (انضمت للمجموعة عام 2010)، وتهدف مجموعة البريكس إلى تعزيز التعاون والتنمية الاقتصاديّة بين الدول الأعضاء، وتعزيز دورها في النظام الاقتصادي العالمي. تتمتع الدول الأعضاء بموارد اقتصاديّةٍ هائلةٍ ونموٍّ اقتصاديٍّ سريع، وتعدّ بريكس أحد الأصوات المؤثّرة في الشؤون العالميّة، السياسيّة والأمنيّة. دعت دول المجموعة في الاجتماعات التمهيديّة ما قبل 2009، وفي القمة الأولى (يكاترينبورغ، روسيا 2009)، إلى عالمٍ أكثر ديمقراطيّة ومتعدّد الأقطاب على أساس سيادة القانون الدولي والمساواة والاحترام المتبادل والتعاون، والعمل المنسّق واتّخاذ القرارات الدوليّة بصورةٍ جماعيّةٍ وتشاركيّة.

في غضون 10 سنوات، تمكّنت بريكس من صياغة مشروعٍ تعاونيٍّ كبيرٍ وتطويره، وعبرت عن رؤيتها الاستراتيجية البديلة متضمنةً قيم الاحترام المتبادل ومبادئه؛ صنع القرار الجماعي والإدارة المشتركة للشؤون العالمية، الالتزام بالقانون الدولي والتعددية، السلام والحل السلمي للنزاعات، الاستقرار الاقتصادي والاندماج الاجتماعي والمساواة، التنمية المستدامة والعمل المناخي الجماعي، التعاون المتبادل المنفعة مع جميع البلدان. ومنذ قمة 2012 دلهي التي كانت بعنوان "شراكة بريكس من أجل الاستقرار والأمن والازدهار العالمي"، أصبحت القضايا الأمنيّة تحتلُّ مكانةً بارزة.

بريكس تتطوّر وتحرزُ تقدّمًا خطوةً بخطوة: اقتصاديًّا تشكّل اليوم أسرع وأكبر اقتصادات الأسواق الناشئة؛ قد يكون لحصّتها المتزايدة في الناتج المحلّي الإجمالي والاستثمار الأجنبي المباشر والاتجاهات الديموغرافيّة تأثيرٌ كبيرٌ في تشكيل ديناميكيّات مستقبل العالم. سياسيًّا وأمنيًّا، تحظى المجموعة بنفوذٍ كبيرٍ فيما يتّصل بقضايا ومشاكل مرتبطة بالأمن العالمي (الطاقة والتنمية والمال والإرهاب والصراعات الإقليميّة والتدخّل العسكري، الانتشار النووي والجريمة المنظّمة والإلكترونيّة والفقر وتغيّر المناخ وما إلى ذلك).

تمثّل دول البريكس نحو 40% من إجمالي مساحة العالم، وهي موطنٌ لأكثر من 40% من سكانه، بما في ذلك أكبر خمس دول وأكثرها كثافة، وتهدف إلى أن تصبح قوّةً اقتصاديّةً عالميّةً قادرةً على منافسة G7 التي تمثل 60% من الثروة العالميّة، في الواقع تجاوز معدل مساهمتها في الاقتصاد العالمي (نحو 32%)، معدّل مساهمة مجموعة السبع (نحو 31%).

 

ديناميات المجموعة: التوافق والاختلاف

مجموعةُ بريكس شديدةُ التنوّع؛ خمس حضاراتٍ قديمةٍ غنيّةٍ بتقاليدها الثقافيّة، نزاعات إقليميّة وحدوديّة حادّة، صراعاتٌ دينيّةٌ وعرقيّة، منافساتٌ اقتصاديّةٌ وسياسيّة، قد يبدو ذلك عيبًا أو نقصًا، ولكنّه أيضًا يمثّلُ نقطّة قوّة!

بريكس ليست المجموعة الأهمّ بالنسبة لدولها؛ لكنّها تظلُّ تجمّعًا ذي نفوذٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ كبيرٍ عالميًّا. تمتلكُ المجموعة نقاطَ قوّةٍ كثيرةٍ تبرّر ذلك: تشكّل 25% من الناتج الإجمالي العالمي، تمثّل 15% من التجارة العالميّة، تنخرطُ دولها في عضويّة مؤسّساتٍ دوليّةٍ متعدّدة الأطراف، تتمتّع بانفتاحٍ تجاري، تمتلكُ قوى عاملة نشطة اقتصاديًّا، غير أنّ المجموعة تعاني كذلك من نواقص وسلبيات، وتواجه تحدّيات جمّة: بنية تحتيّة غير كافية، الافتقار إلى إضفاء الطابع المؤسّسي، الطبيعة غير المتجانسة للمجموعة، وعدم وجود هُويّة متماسكة، الطبيعة الهشّة للروابط التجاريّة والاستثماريّة فيما بينها.

يعزو البعض الاختلافات الاقتصاديّة بين دول المجموعة إلى حقيقةِ أنّ كلًّا منها يتبنّى استراتيجيّةً مختلفةً للنموّ الاقتصادي: اقتصاد الصين مدفوعٌ بصادراتها من المنتجات المصنعة، ودورها في سلاسل القيمة العالميّة؛ استهلاكها المحلّي محدود، ما يخلقُ فائضًا في حسابها الجاري حولها إلى دائنٍ دولي. اليوم تسعى الصين إلى تغيير نموذجها إلى نموذجٍ قائمٍ على الاستهلاك، وبينما يعدُّ الاقتصاد الروسي موجّهًا للتصدير أيضًا، إلا أنّه يعتمدُ على موارد الطاقة، ما يجعله مسارًا غير مستدام، وبينما تتركز أكبر صادرات البرازيل في الزراعة، تتمتع جنوب إفريقيا بموارد طبيعيّة غنيّة (المعادن)، وتواجه تحدّيًا كبيرًا في النموّ الشامل والتوظيف.

تعاني دول المجموعة من توتّراتٍ تجاريّةٍ ثنائيّة، لا يمكن تخفيفها إلا من خلال عمليّة المواجهة والتفاوض والتعاون، وبينما لا تزال مجموعة البريكس تبحثُ عن أرضيّةٍ مشتركة؛ يظلُ إضفاء الطابع المؤسّسي عليها يشكّلُ تحديًا رئيسًا بما في ذلك استراتيجية التوسّع.

ثمّة مشكلةٌ تتعلّقُ بهُويّة المجموعة، تعريفها، أهدافها، لا يوجد اتّفاق واضح، ليس للمجموعة هيكل مؤسّسي واضح باستثناء لقاءات القمة السنوية وما يصدر عنها من إعلانات، هذا وتفتقر آليات المجموعة الحالية إلى إشراك المجتمع المدني، الذي يُعرف بروابطه الوثيقة مع المواطنين ويمكن أن يكون مفيدًا عندما يتعلّقُ الأمرُ بتعبئة الناس لدعم مشروع البريكس التعاوني. أمّا الإشكاليّة المرتبطة بالتوسّع (ثمّة عددٌ كبيرٌ من الدول يرغب في الانضمام للمجموعة)، فتتمثّلُ في عدم وضوح معيار القبول وشرط الدخول؛ وعمّا إذا كان يدورُ حول الكفاءة الاقتصاديّة، أم حول النفوذ السياسي؟

استمرار بريكس في الوجود والتأثير مؤشّر على قدرة المجموعة على مواجهة التحدّيات؛ سواءً تلك الناجمة عن ضغوط دول المركز (الغرب)، أو الأزمات العالميّة (كورونا وحرب أوكرانيا)، أو التعارضات داخل المجموعة. تكتسبُ بريكس أرضيّةً قويّةً مشتركةً تؤهّلها لتأدية دورٍ أساسيٍّ في منظومة الحوكمة العالميّة؛ وهي تسعى لزيادة الإنفاق على البحث والتطوير، اعتماد الإصلاحات وتنفيذها بطريقةٍ تطوّريّةٍ وليست ثوريّة، أي زيادة التأثير والنفوذ بمسارات النمو طويل الأجل، واكتساب مصداقيّةٍ سياسيّةٍ وقيميّةٍ بين دول العالم.

من الواضح أن بريكس تتجاوز تناقضاتها وتمأسس آليّاتها وتبنّي هُويّةٍ مشتركة، وهي تتبنى نظريّةَ تغييرٍ لا تقومُ على العداء أو السيطرة أو التنافس التناحري، وإنّما على أساس التعايش والانخراط في بناء نظامٍ عالميٍّ جديدٍ وتشكيله. على سبيل المثال، تعدُّ بريكس أنّ إنشاء مؤسّساتها الماليّة والاقتصاديّة الخاصّة بها (بنك التنمية الجديد 2014)، من شأنه أن يساعد في التغلّب على بعض قيود المؤسسات الدولية القائمة، وفي الوقت نفسه، يساعد على دفع النظراء الدوليين لإصلاح هذه المؤسسات، بالقدوة ومن خلال المنافسة. بالمقابل، هناك من يرى أن بريكس، تفقد بريقها وجاذبيتها؛ بسبب توقف النمو الاقتصادي، وتصاعد حدة الخلافات السياسيّة.

تتمثّل الفائدة الأبرز للمجموعة في دعم استقرار النظام داخل كل دولةٍ بشكلٍ غير مباشر، مع تعزيز سلطتها الإقليميّة، وأيضًا ضمان الحماية من التدخّلات الخارجيّة غير المرغوب فيها. تواجه دول المجموعة تحدّيات محليّة تقلّل من قدرتها على إبراز قوتها (اضطرابات داخليّة، أو صراع على الهيمنة الإقليميّة، كما هو الحال بين الهند والصين).

 في الواقع، تولّد بريكس لأعضائها قيمةً مضافةً بناءً على احتياجاتهم وتفضيلاتهم، وتعملُ دول المجموعة كتلةً سياسيّةً على مسرح العالم استنادًا إلى نظريّة المؤسّساتيّة العقلانيّة. بريكس ليست سوى "مجموعة"، وليست منظّمة، لذا، من المتوقّع أن تتوافق بشكلٍ مباشرٍ مع احتياجات وتفضيلات أعضائها. وعليه، لا توجد وكالة/شخصيّة مستقلّة لها بعيدًا عن دولها الأعضاء.

تمَّ تصميمُ المجموعة وفقًا لمبادئ تشغيليّة تعزّز هذه الفوائد وتأمينها (مبادئ شبه مقننة في بلاغات القمم، وأخرى غير مقننة عبارة عن توجيهات داخل المجموعة)، انطلاقًا من إرثها التاريخي من حيث وقوعها ضحية الاستعمار، فتركيز المجموعة وتشديدها، غالبًا، على سيادة الدولة، وطالما أنّ مجموعة البريكس في شكلها الحالي توفّر هذه الفوائد، فإنّ استدامتها المؤسسيّة وأهميّتها لا تخضعُ لضغوطٍ شديدة.

في الواقع، ينظرُ الكثيرون إلى بريكس باعتبارها مجموعةً لديها ما يكفي من القوّة والإرادة لتغيير العالم، وإن بدا أنّها مجموعةٌ من دولٍ متنافسةٍ شديدةِ الاختلاف، فلربّما هذا ما يجعلها قويّةً كفاية، فالتنوّع، كما يقول البعض، هو ما يميّز المجموعة، ويفتح أمامها الكثير من الفرص، ويكمل أعضاؤها بعضهم بعضًا (فرغم الخلاف الكبير بين الهند والصين حول مشروع الحزام والطريق أي على الهيمنة الإقليميّة، فقد اختار البلدان "شراكة الضرورة"، حيث يتعيّن عليهما العيش والعمل معًا بسلامٍ من أجل المنفعة المتبادلة).

شكّلت "حرب أوكرانيا" تحدّيًا وجوديًّا لبريكس من حيث انسجام المواقف والالتزام بالمبادئ المؤسّسة، وكذلك بانعكاساتها؛ فمن تأثير العقوبات الاقتصاديّة على روسيا وقدرتها على سداد التزاماتها لبنك التنمية الجديد، إلى اتّهام الغرب لدول المجموعة بأنها تمارس النفاق، وتحتكمُ إلى معاييرَ مزدوجةٍ في مواقفها تجاهَ الغزو الروسي، علمًا أنّ هذه "التّهمة" كانت توجّهها دول المجموعة إلى الغرب. في النهاية احتكمت دول بريكس، في المحافل الدوليّة، إلى مصالحها الوطنيّة (فكانت الأفضليّة للبرغماتيّة على حساب المبادئ). من الانعكاسات أيضًا، تضرّر أجندة المجموعة المتخمة بالقضايا ذات الأهميّة: التنمية، المناخ، إصلاح النظام العالمي. شكل الغزو الروسي انتهاكًا لأحد أبرز مبادئ المجموعة: وحدة أراضي الدول وسيادتها وعدم جواز التدخّل في شؤونها الداخليّة.

يتبع!

 


[1] جولدمان ساكس (The Goldman Sachs Group, Inc) هي مؤسّسة خدمات ماليَّة واستثمارية أمريكيَّة متعددة الجنسيَّات، تُعدّ من أشهر المؤسسات المصرفيَّة في الولايات المتَّحدة والعالم، يقع مقرها في مبنى جولدمان ساكس الرئيسيّ، في شارع 200 غرب مانهاتن السفلى في مدينة نيويورك