عادة ما يرتبط اسم الربيع بالتغيرات الأجمل في الطبيعة، حيث تخضوضر الأرض، وتنتشر فيها الأزهار المختلفة، لكنه مع الأسف في بلادنا العربية، شكل ما يسمى بالربيع العربي، موسماً للجدب والموت والدمار، حيث لا تعد ولا تحصى الخسائر التي خلفها هذا «الربيع» على الشعوب والأوطان في عالمنا العربي، المثخن بجراحه، التي ما أن يندمل أحدها، حتى ينكأ الآخر، لكن أخطر هذه الجراح والنتائج لربيعنا العربي، هو هجرة العقول وهروب الكوادر العلمية من البلدان العربية التي طالتها نيران «الربيع العربي»، ولا سيما سوريا التي ما زالت تعاني أزمات اقتصادية معقدة، تزيدها سياسات الولايات المتحدة الأمريكية والعقوبات الاقتصادية، إذ تسعى واشنطن إلى استخدام الساحة السورية، ساحة للمقايضة مع روسيا، حيث يطغى التوتر الشديد بين الجانبين في أكثر من ساحة، وفي أكثر من ملف.
ووفقاً للعديد من الدراسات المتخصصة، تشكل هجرة الأدمغة من الدول العربية، الهاجس الأكبر لدى العديد من الدول العربية.
ورغم أن ظاهرة هجرة العقول،موجودة منذ زمن بعيد، وأن الملايين من الشباب العرب، ولا سيما من المثقفين انتقلوا للعيش في دول أخرى وخاصة في أمريكا وأوروبا، إلا أن أحداً لا يستطيع تجاهل أثر ما سمي بالثورات العربية التي انطلقت شرارتها في عام 2011 في دفع الكثير من النخبة إلى الهجرة، بحثاً عن الأمان والاستقرار.
واللافت أن هجرة الأطباء وكوادر القطاع الصحي شكلت النسبة الأكبر،حيث وبحسب منصة ستاتيستا الإحصائية، فقد تصدرت مصر في المرتبة الأولى عربياً بعد سفر 12525 طبيباً.
أما في سوريا التي مازالت تنزف بسبب جراح «الربيع العربي»، فبعد أكثر من عقد من الحرب لم يبق سوى 20 ألف طبيب من أصل 70 ألفاً، وفق تصريح نقيب الأطباء السابق كمال عامر في فبراير 2021، في وقت يتواصل فيه نزيف العقول السورية، حيث تقدر الإحصائيات بأن نحو 70% من العاملين في القطاع الصحي في البلاد، باتوا من المهاجرين.
كما تزايدت هجرة الأطباء السوريين إلى دول أوروبية، ولا سيما ألمانيا، بسبب تدني الأجور وطول ساعات العمل، فضلاً عن صعوبة افتتاح عيادات خاصة في سوريا.
وعلاوة على ذلك، فإن الأطباء السوريين يتمتعون بخبرة كبيرة في مجالات مثل جراحة القلب والأوعية الدموية وطب التخدير، وهذه المجالات تشكل جزءاً كبيراً من احتياجات المستشفيات في ألمانيا.
ووفق دراسات للجامعة العربية والبنك الدولي، فإن العالم العربي خسر ثلث طاقته البشرية في ظل هجرة الأدمغة التي تشهدها بلدانه.
وأشارت هذه الدراسات، إلى أن وجهة الكوادر العرب، كانت بمعظمها إلى دول أوروبا وأستراليا وكندا.
ولفتت إلى أن ما يُقارب من 50% من هؤلاء هم أطباء متخصصون، و23% تقريباً مهندسون، فضلاً عن الاختصاصيين في مختلف المجالات.
ووفق هذه الدراسات، فإن الأزمة تكمن في أن 54% من الطلاب العرب الذي يسافرون للعلم، لا يعودون إلى أوطانهم لندرة فرص العمل.
والحقيقة أن هذه الأرقام المفزعة عن الخسائر العربية في الكوادر العلمية المنوط بها المساهمة في رفع سوية التطور في البلاد العربية، دفعت الكثير من المتخصصين والمؤسسات العالمية إلى التحذير من خطورة هذا الواقع وأثره التدميري على المجتمعات العربية، حيث إنه في حال استمرار هذا النزيف في الكفاءات، فإن العديد من الدول العربية، ولا سيما التي ما زالت تشهد صراعات مسلحة، ستشهد تراجعاً كبيراً على مستوى الخدمات، ولن تتمكن من الوصول إلى المستويات المطلوبة من النمو.
أمام هذا الواقع الأليم وهذه الأرقام الصادمة لهجرة الكوادر العلمية العربية ولاسيما الأطباء، أما آن الأوان للبحث عن وسائل جدية لوقف هذا النزيف في العقول العربية، في وقت تبدو فيه بلادنا في أمس الحاجة لهذه الطاقات البشرية والعلمية، لترميم ما خربه «ربيعنا العربي» أم أننا سنبقى ندور في حلقاتنا المفرغة، وننزف هكذا فتبنى الكوادر العلمية العربية وتزهر بعلمها في بلاد أخرى، بدلاً من المساهمة في بناء أوطانها ؟