Menu

سؤال محوري..

لماذا هُزمنا؟ ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تبعيّةٍ وتخلّفٍ وخضوع؟

غازي الصوراني

نشر في العدد (52) من مجلة الهدف الرقمية

إنّه السؤالُ المحوريُّ الكبيرُ أمام الوطنيين التقدّميين في الوطن العربي كافةً: لماذا هُزمنا؟ ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟
الجوابُ - باختصارٍ مكثّف - يكمنُ في الأنظمة العربيّة وأجهزتها الطبقيّة والأمنيّة، التي أسّست وراكمت حالةً عميقةً من مظاهر التبعيّة ومؤشّرات الفساد والاستبداد والتخلّف الاجتماعي والاقتصادي، واستغلال ثروات شعوبها، مثلما كرّست كلّ وسائل القهر والقمع الإجراميّ لحساب مصالح حكّامها الذين – في معظمهم - وجدوا في التحالف الإمبرياليّ الصهيونيّ "ملاذهم الآمن" وخضعوا لشروطه ومقتضياته، على حساب أماني شعوبهم وتطلّعاتهم، حيث استطاعت الحركةُ الصهيونيّةُ ودولتها بعد (75) عامًا على النكبة، وبعد (56) عامًا على هزيمة حزيران، أن تحقّق العديد من الأهداف في ظل التحالف الاستراتيجيّ بينها وبين الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
فلقد تمكّنت دولة العدو الإسرائيلي (ومن خلال الدعم المادي والسياسي الأمريكي على وجه الخصوص) من أن تتحوّل اليوم إلى دولةٍ إمبرياليّةٍ صغرى في الشرق الأوسط، كما أصبح الوضع العربي الرسمي في حالةٍ ينظرُ فيها إلى القضيّة الفلسطينيّة باعتبارها عبئًا ثقيلًا على كاهله يسعى إلى الخلاص منه طالما كان في ذلك ضمانةٌ لمصالح النظام الحاكم وشرائحه الطبقيّة (البيروقراطيّة والكومبرادوريّة).
على أي حال، لم تكن المراجعةُ للهزيمة الحزيرانيّة بمستوى الحدث: معظم المراجعات بُنيت على أن سبب الهزيمة مرتبطٌ بالمسائل العسكريّة، ولم تُبنَ الرؤيةُ على أن الهزيمة هي هزيمةٌ لبنيةٌ كاملة؛ سياسيّة، عسكريّة، اقتصاديّة، اجتماعيّة، ثقافيّة... من هنا جرى تقليص «الهزيمة» إلى «النكسة»؛ الأمرُ الذي أنتج، بلغة علماء السياسة، "أنظمة الخوف"، التي يقف على رأسها مرجعٌ وحيدٌ لا يخاف إلا من شعبه، وعلى شعبه أن يرهبه وأن يخاف منه، وكان على هذه "الأنظمة الاستثنائيّة" أن "تحارب" السياسة وحريّة الأحزاب السياسيّة وحريّة القول، فقد شكّلت حرب حزيران / يونيو، في لحظةٍ أولى، هزيمةً للأنظمة العربيّة، ومثّلت، في لحظةٍ تالية، هزيمةً للشعوب العربيّة، المحاصرة بالإحباط والأحكام العرفيّة؛ ذلك أنّ في الهزيمة انتصاراتٍ للأنظمة التي قاتلت ولم تقاتل، وتحوّلت إلى قوًى تابعةٍ أو خاضعةٍ مستسلمة، أو أضيفت إلى قائمة أنظمة الرجعيّة، ومن ثَمَّ فإنّ الوضع الشاذّ "للأمّة العربيّة" في تعاملها مع الهزيمة، ما يعارض دروس التاريخ واجتهادات المؤرّخين: فمن المفترض أنّ الهزيمة تستنهضُ الإرادة القوميّة الجماعيّة، وهو أمرٌ لم يتحقّق؛ بسبب انهيار المشروع القومي، قبل الهزيمة وبعدها".
لقد أسّست هزيمة 5/حزيران/67 لمرحلةٍ جديدةٍ في الوطن العربي كلّه، عنوانُها مشهدُ تفكّك النظم الوطنيّة التقدّميّة، الذي تجلّى بعد رحيل القائد الوطني/القومي جمال عبد الناصر، ومن ثَمَّ بداية عصر الانفتاح وانهيار المشروع القومي، وتكريس التبعية والخضوع للغرب الرأسمالي بصورةٍ غير مسبوقة.
وفي مثل هذا المناخ، كان من الطبيعي أن يجدّد التيّار الديني عمومًا، وحركة الإخوان المسلمين خصوصًا، نشاطهما بعد هزيمة حزيران التي كانت مصدر ارتياحٍ للعديد من قادة الإخوان المسلمين. وفي الواقع، فإنّ عودة جماعات الإسلام السياسي، كان نتيجةَ تضافرِ مجموعةٍ من العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة، ومن بين هذه العوامل، سيادة مظاهر الاستبداد وافتقاد الحرّيات قبل هزيمة حزيران وما بعدها، وتعثّر مشاريع التنمية، وتنامي الاستقطاب الاجتماعي، وانتشار الفساد، وتوسّع مساحات الفقر وتفاقم البطالة وتراجع فرص العمل، وتنامي الشعور بالإحباط واليأس في صفوف الجماهير الشعبيّة.
ولذلك كانت هزيمةُ حزيران 1967 بداية النهاية لمرحلة التحرّر القومي الديمقراطي، خلقت المناخ العام، والمقوّمات اللازمة لإعادة إحياء التشكيلات والتكوينات الاجتماعيّة الطبقيّة القديمة والمستحدثة، بصورٍ وأشكالٍ معاصرة، تتوافق مع شروط الانفتاح والتحالفات السياسيّة العربيّة الرسميّة التي تولّت قيادتها أو توجيهها الأنظمة الأكثر رجعيّةً وتخلّفًا وتبعيّةً في بلادنا.
إنّ الوضع الراهن، الذي تعيشه شعوبنا العربيّة، لم يكن ممكنًا تحقّقُهُ، بعيدًا عن عوامل التفكك والهبوط التي بدأت في التراكم منذ انهيار الوحدة العربيّة بين مصر وسوريا في أيلول 1961، وتطوّرت بعد هزيمة حزيران 1967، وتعمّقت وامتدّت بعد كامب ديفيد 1979 إلى اليوم، لدرجة أنّ الستة عقودٍ الماضية حملت معها صورًا من التراجع لم تعرف جماهيرنا، في كل بلداننا في المشرق والمغرب، مثيلًا لها في كلّ تاريخها الحديث، فبدلًا مما كان يتمتّع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكاناتٍ للتحرّر والنهوض الوطني والقومي، تحوّل هذا الوطن بدوله العديدة وسكّانه إلى رقمٍ كبير، يعجُّ بحركات الإسلام السياسي وجماعاته بمختلِف مسمّياتها، ويعجُّ بالصراعات الطائفيّة الدمويّة والإثنيّة وبالنزاعات الداخليّة والعداء بين دوله المفكّكة أو الضعيفة؛ لا يحسبُ له حسابٌ أو دورٌ يذكر في المعادلات الدوليّة، وتحوّلت معظم أنظمته وحكوماته إلى أدواتٍ للقوى المعادية، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزًا عن الحركة والفعل والمواجهة، في إطارٍ عام من التبعيّة على تنوّع درجاتها وأشكالها السياسيّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة والثقافيّة والسيكولوجيّة، من خلال النمو السرطاني للتحالف البيروقراطي والكمبرادوري في مجمل بلداننا في المشرق والمغرب، في ظروفٍ فقدت فيها القوى والأحزاب الديمقراطيّة الوطنيّة والقوميّة واليساريّة قدرتها (لأسبابٍ ذاتيّةٍ وموضوعيّة) على الحركة والنشاط والنمو، وتراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها.
وفي مقابل هذا التراجع الرسمي العربي، تتبدّى هيمنة العدو الصهيوني بصورةٍ غير مسبوقة، لم يستطع تحقيقها في كلّ حروبه السابقة مع العرب، إلى جانب عمليات الترويض الأمريكي للأنظمة العربية الحاكمة، في السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة التي لم تنجح في تغيير الموازين والمعايير العسكريّة والسياسيّة في الصراع العربي – الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب، بل نجحت في تغيير أسس ما يسمى بعملية التفاوض أو المهادنة إلى الدرجة التي يجري التعامل معها الآن على قاعدة أن يعترف العدو الإسرائيلي بحقوق الشعب الفلسطيني وليس العكس.
والسؤال هنا.. أين يكمنُ الطريقُ إلى المستقبل؟
في الإجابة عن هذا السؤال، أقول: لقد بات الرهان اليوم معقودًا على الرؤية الديمقراطيّة التقدّميّة العلمانيّة في بلادنا، المرتبطة باستنهاض أوضاع القوى والأحزاب والفصائل التقدّميّة العربيّة التي تعيشُ اليوم حالةً من التفكّك والتراجع والتأزّم، ولا تؤهّلها أوضاعها في اللحظة الراهنة للقيام بتحقيق هذه الرؤية وبلورتها في المدى المنظور. لكن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعوبنا العربيّة، في هذه المرحلة، يتطلّب من هذه القوى تفعيل عوامل التغيير الثورية والديمقراطية الحديثة وإنضاج أدواتها، والاستجابة لمبرّراتها وأسانيدها الموضوعيّة الملّحة من قلب واقعنا الراهن.
ومن ثَمَّ، فإنّ الخطوة الأولى على طريق الخروج من الأزمة في المرحلة الراهنة التي تجتازها بلداننا العربية، تتمثل في العمل على إعادة تكوين اليسار وبناء القوى الشعبيّة؛ وذلك في إطار عملٍ طويلِ النفس يطاول مستوياتٍ عدّةٍ من تحديد الأسس الفكريّة، وسمات المشروع المجتمعي الاشتراكي المطروح هدفًا راهنًا وتاريخيًّا، وتحديد المراحل الاستراتيجيّة للتقدّم في الاتجاه المرغوب.. والقوى الاجتماعيّة التي لها مصلحةٌ في إنجاز المشروع والقوى المعادية له.
إنّ الحديث عن كسر نظام الإلحاق وتجاوزه أو التبعية والتخلف الراهن هو حديثٌ عن ضرورةٍ حتميّةٍ في المستقبل المنظور لشعوبنا العربيّة ولكل الشعوب والإثنيّات الأخرى في المشرق والمغرب؛ من أكرادٍ أو أمازيغ وغير ذلك من القوميات، التي تملك الحق بكل أبعاده التاريخيّة والسياسيّة والمجتمعيّة في التعبير عن هُويّتها الوطنيّة وثقافتها التاريخيّة المتميّزة، وهنا بالضبط أشير إلى أن المجتمعات المغاربيّة سواءً في المغرب أو الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.. الخ، تتميز بأن كلًّا منها مجتمعٌ ذو هُويّة وحضارة أمازيغيّة عربيّة إسلاميّة على اعتبارها هُويّةً جامعةً من الخطأ تجاوزها من ناحية، ومن الخطأ أيضًا الحديث عنها باعتبارها هٌويةً مطلقةً ومغلقةً على ذاتها، بل على العكس، إنّ التعدّد الفكري عمومًا، واليساري الماركسي الديمقراطي خصوصًا، كفيلٌ من خلال التحليل الموضوعي لمصالح الجماهير الشعبيّة العربيّة أو الأمازيغيّة بجسر الفجوات بين العروبة والأمازيغيّة، وتوفير الأسس والمقومات السياسيّة والمجتمعيّة الكفيلة بتجاوز الصراعات والتناقضات الإثنيّة والقوميّة الشوفينيّة بينهما كافةً؛ إذ لا مصلحةَ للجماهير الشعبيّة الفقيرة في إثارة النزاعات العنصريّة والانفصاليّة بين الأمازيغ والعرب، أو بين أيّة قوميّةٍ أخرى في بلادنا، حيث إنّ القوى الرجعيّة والرأسماليّة التابعة في الأنظمة الحاكمة بالتنسيق مع القوى الإمبرياليّة هي بالضبط صاحبةُ المصلحة في إثاره النزعات العنصريّة الأمازيغيّة أو العربيّة، فالأمازيغي عربيٌّ بثقافته حسب المفكّر الأمازيغي العروبي الراحل محمد عابد الجابري، كما أن العربي لا يمكنه تجاوز الحضارة الأمازيغيّة العربيّة ودورها التاريخي الجامع من خلال التزاوج والاختلاط والحياة المشتركة طوال أكثر من 1400 عام، ومن ثَمَّ هناك - كما يقول "الجابري" - من تَعَرَّب، وهناك من تَمزَّغ، ولا وجود للنقاء، ما يعني توفّر الإمكانيّة الموضوعيّة والذاتيّة في الحياة السياسيّة والمجتمعيّة المشتركة راهنًا ومستقبلًا وَفْقَ قواعد الديمقراطيّة وأسس النهضة والتقدّم الإنساني، ومن منطلق مقتضيات المصلحة العربيّة والأمازيغيّة المشتركة التي يمكنُ أن تلتحمَ في إطارٍ جامعٍ ومشتركٍ بعيدًا عن أي نزعةٍ عنصريّةٍ أو متعصّبة، مثالُنا على ذلك العديد من النخب الأمازيغيّة، من أبرزهم رجلُ الدين التنويري والمناضل السياسي ضد الاستعمار الفرنسي ابن باديس، والمناضل الوطني والقومي الأمازيغي الشهيد المهدي بن بركة والرئيس الراحل هواري بومدين والرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة والمناضل التقدمي إبراهام السرفاتي والمفكّر الأمازيغي المغاربي محمد عابد الجابري الذي استطاع أن يقدّم لنا مثلًا يُحتذى ضمن هذا البعد المجتمعي التوحيدي الجامع على طريق النهوض لشعوبنا في مغرب الوطن العربي ومشرقه، وَفْقَ مفاهيم الديمقراطية وأسس التقدم الحداثي والاشتراكية، التي أرى فيها مدخلًا وحيدًا لأي حديثٍ عن التعايش المشترك بين الأعراق والعصبيّات والإثنيّات كافةً، بعيدًا عن أي نزاعاتٍ أو إشكاليّاتٍ من ناحية، وبما يحفظُ ويحترمُ حقَّ الجميع في التعبير عن وجودهم الذاتي وثقافتهم وخصائصهم بكلّ حريّةٍ من ناحيةٍ ثانية؛ إذ لا حلَّ لأوضاع مجتمعاتنا بكلّ تنوّعها إلا من خلال الاشتراكيّة، ولكن هذه الضرورة ستكون ضربًا من الوهم إذا لم نمتلك وضوح الرؤيا للمخاطر التي تفرضها علينا العولمة الأمريكيّة وحليفها الإسرائيلي والرجعي العربي في بلادنا.
من هنا، فإنّ الدعوة إلى مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني وعولمة الاستسلام، وهي دعوةٌ إلى تفعيل النضال السياسي والطبقي ضدّ أنظمة الكومبرادور في بلادنا وإسقاطها، تمثّل أحد أبرز عناوين الصراع العربي الراهن ضد التحالف الأمريكي الصهيوني وأدواته في بلادنا، من أجل التحرّر والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة بآفاقها الاشتراكيّة، مدركين أن أحد أهم شروط هذا التحدي العربي لهذه الظاهرة هو امتلاك عناصر ومقومات العامل الذاتي، الحزب الثوري الحامل للفكر الماركسي في صيرورته المتجدّدة، وبمنهجيّة نقديّة، للفكر والواقع معًا.